تخيّرنا من تلك التقنيات تقنية السارد(الراوي) ، ليكون مدار بحثنا في رواية (سأمضي) لصالح جبار محمد خلفاوي ،حيث انصرفت الدراسة لاستنطاقها والبحث فيها عن آلية توظيف السارد،وحركته داخلها وأشكال حضوره.
وما حفّزنا على اختيار هذه الرواية ،أن السارد فيها ظاهرة فنية مهيمنة على النص ،وقد وضعنا معطيات للدراسة تسهل التوصل لإجابات عن استفهاماتنا حول السرد ،والسارد وعلاقته بالروائي، والشخصية الساردة والفضاء الزماني والمكاني ؛ لذلك آثرنا تأصيل تلك المصطلحات التي ستقابلنا أثناء التطبيق ،بمهاد نظري عن مكونات الخطاب الروائي للرواية.
المهاد النظري:
سنركز البحث عن السارد وتمظهراته في النص السردي ،ولكن قبل أن نعبر إليه لابد أن نعبّد الطريق بالتذكير بالمفاهيم المكونة للخطاب الروائي :
السارد(الراوي )+ المسرود(النص السردي / المروي )+ المسرود له (المروي له ).
مفهوم السرد :
يُقصد بهذا المصطلح “الحديث أو الإخبار”لحمداني(2000) ص45أو الكيفية التي تُروى بها القصة،والمؤثرات التي تخضع لها ، بعضها متعلق بالسارد والمسرود له ،وبعضها الآخر متعلق بالقصة ذاتها .
المسرود :
يُراد به النص السردي (المروي) : ويمثل مجموعة من المواقف والأحداث المروية أو المسرودة في القصة .جيرالد برنس ( 2002 ) Gerald princeص142.
3) المسرود له ( المروي له (
ونعني به الشخص الذي يُحكى له ،أوالطرف الثاني في عملية الحكي،والمقابل المباشر للسارد،وغالبا لا تظهر صورته إلا بشكل غيرمباشر. جاب لينتفلت (1992)Jap Lintvelt ص87
فالسارد هو من يسرد الحكاية ،و السرد طريقة تقديم الحكاية أو القصة التي يسردها السارد ، مونيكا فلودرنك (2012) monika fludernik ص18 أما المسرود له فهو متلقي السرد، والتفريط في أي من تلك العناصر يخل بالعملية التواصلية .
على ذلك يكون رهان التواصل في العمل السردي بمكوناته الثلاثة :
السارد ( الراوي) – السرد(المروي) – المسرود له (المروي له)
تلك تعاريف موجزة لعناصر الحكي ، وسنفرد براحًا أوسع للسارد (الراوي) كونه مدار هذه الدراسة .
لفتنا تنوع المراجع المتوجهة للبحث في السارد،بتنوع طريقة التناول ،وأسلوب الدراسة ، فكان اعتمادنا على ما أتيح لنا منها ، وعلى رأسها الدراسة الموسومة (الراوي في السرد العربي المعاصر ) لمحمد نجيب العمامي ، وفيها بحث مستفيض ودراسة لرواية الثمانينيات في تونس،بحث فيها عن السارد و علاقته بالشخصية والمسرود له ،وأشكال حضوره ، والشخصية الساردة والسارد ،ثم مستوى السرد الذي حوى مستوى علاقة السارد بالشخصية و مستوى المسرود له.
ودراسة عبد الرحيم الكردي الموسومة (الراوي والنص القصصي ) وفيها تعرّض لدراسة مفهوم السارد ،وتطور دراسته منذ عصر أفلاطون حتى العصر الحديث ،كما رصد فيها وظائفه وعلاماته ،ثم عدّد أنواعه ليصل في نهاية الدراسة إلى علاقته بالنص القصصي .
وقد أفدنا من دراسة محي الدين حمدي المعنونة (الإغراب في الرواية العربية الحديثة )،إذ فصّل القول عن السارد في الباب الثاني من الكتاب ،وكذلك من كتاب يمنى العيد ( الراوي الموقع والشكل )وهو دراسة عن موقع السارد في السرد .ومن ثم علاقته بما يسرد وبمن يسرد، والتقنيات التي يعالج بها موضوعه ، فضلا عن دراسات وأبحاث أخرى سنثبتها في الهوامش و مسرد المصادر والمراجع .
الدراسة والتحليل النقدي
أولاً علاقة النص الموازي بالمتن الروائي :
للعنوان دلالته ،فهو السمة الدالة على ما يحويه المتن ، وفي كثير من الأحيان يفسره ، وعادة ما تقوم العناوين في القصص والروايات على المراوغة والإيحاء بازي (2012)ص15 وقد وسم الروائي الرواية بالفعل (سأمضي )وهو جملة واحدة ،مما يدرجه تحت بند العنوان البسيط ،ونلاحظ أن العنوان جملة فعلية ،وعادة تكون “الاسمية هي الغالبة على العنونات البسيطة والمركبة “عويس1988 ص42،لأول وهلة نعتقد أن هناك خللا فيما خلص إليه الدكتور محمد عويس في كتابه العنوان في الأدب العربي، ولكن لو بحثنا في العنوان من الداخل لوجدنا أن جملة سأمضي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره (رواية )فتكون جملة العنوان (رواية سأمضي )أي أن الاسمية مسيطرة ،والاسم له دلالة الثبات ،والأفعال لها دلالة التجدد ،خاصة في حالة الفعل المضارع عويس(1988)ص20 فنمني أنفسنا على ذلك أن تكون الرواية متجددة الأحداث .
وإذا بحثنا عن دلالة الفعل (سأمضي)في أذهاننا كمتلقين فنجدها كما يأتي :
←التصميم
←التحدي
←الإرادة
سأمضي ← ← ←الذهاب
←التقدم
← الحاضر
←المستقبل
أما الدلالة اللغوية فنجدها تعني أنْفَذتُ الأمر،ومضى وتمَضَّى ،تقدم ، ابن منظور (1990)ص وهو فعل مضارع ،ومع السين تكون الدلالة على الحال والاستقبال ،أي أن الرواية تحمل معنى التحدي ، والإصرار على المضي ، والتقدم إلى الأمام ،ونفي كل ما يشد إلى الوراء.
ومما يزيدنا يقينا تكرار الكلمة منذ الاستهلال( لتمضي – سأمضي )وينهيه بجواب (ولن أعود ) وفيه دلالة العنوان:
سأمضي ← ولن أعود
وللوصول إلى دلالة العنوان داخل المتن نعرض ملخصا للرواية :
يسرد لنا الروائي معاناة المرأة والرجل ، ومشاكلهما في الحياة معا ، من خلال قصة امرأة مطلقة تواجه الحياة مع طفليها ، تساندها أمها في بداية الأمر ، ولكن الموت أبى إلا أن يختارها في زمن كانت في أشد الحاجة لها ، لتلجأ إلى أخيها الذي وقف إلى جانبها رغم أعبائه ، ومشاكله مع زوجته التي مافتئت تنغص عليه الحياة حتى دفعته لأن يمد يده للمال العام ويختلس مبلغا منه ، فتكون نهايته السجن ، لتمضي البطلة في طريقها وحدها بدون سند . خلفاوي (2004)
مما تقدم نلمح صدى العنوان في المتن الروائي ، وكأن البطلة تتحدى الظروف القاهرة ، والمتربصين بها ،وقد وجهت نظرها نحو المستقبل ،تسير صوبه بثبات لا تلوي على شيء إلا تربية أبنائها والعيش بكرامة ،فالعنوان دال على المتن ، وهو سمته الذي يشي بما تتضمنه الحكاية .
بما أن السارد هو من يجعلنا نرى الأحداث ،نجد الروائي يستهل روايته من النهاية ،حيث ينقل لنا شعور البطلة : ” شعور مفعم بالمرارة ، تنجح بعده في تأسيس تاريخ شخصي ، يكون ركيزة لها لتمضي بدون تلكؤ نحو الأفق ” ثم يردفه بمناجاة البطلة لذاتها “سأمضي وأشعل الآفاق ،يا سورة النار ،وأخط بماء العينين ،على نتوء ألمي ، حتى أحمي كل العذابات المتوقدة في أتون الرغبة الموجعة ، ولا أعود ” خلفاوي (2004) ص1
فمنذ البدء يحدد الروائي دلالة العنوان ،من خلال القول السابق للبطلة ” ناهد ” فهناك عزم ، وتصميم ، وإصرار شديد على المضي ، وعدم العودة ،وقد نقله إلينا من خلال السارد الذي يرينا الأحداث تارة بعينيه ، وأخرى بعيون الشخصيات .
في هذا التقديم شدٌ للمسرود له ،وجذب لمواصلة القراءة ،فالعتبة التي يدخل بها تمثل فاصلا بين الواقعي والمتخيل ،لذلك لابد أن “تجذب القارئ إلى داخلها”لودج (2002)david lodge ص9.
ثانياً السارد والمؤلف ( الكاتب ):
كثيرا ما يحدث الخلط بين السارد ومؤلف الرواية،فقد ساد الاعتقاد أن المؤلف هو ذاته السارد ، حتى ظهرت الدراسات الحديثة التي وجهت عناية خاصة للسرديات ، فميز النقاد بينهما ، كما ميزوا بين الخطاب والقصة ،التي تكوّنها الأحداث والشخصيات في تفاعلهم مع ما حولهم ،أما الخطاب فمتعلق بالكيفية التي تم التعبير بها عن القصة ،ومن ثم إيصالها للمسرود له، يقطين (1997) ص169، وخطاب القصة يقوم على الرواية والسارد والمسرود له ،لذلك لابد لنا من التمييز بين المؤلف والسارد ،حتى يتسنى لنا الانطلاق في البحث .
فالمؤلف كاتب الرواية هو واهب السرد كما يقول (رولان بارت ) بمعنى أنه من ينجز الرواية وتنسب إليه ،ولكي يميز بينه وبين السارد يرى أن الذي ” يتكلم (في السرد) ليس هو من يكتب (في الحياة )ومن يكتب ليس من هو كائن “بارت (1988) barthes ص132، وهو الذي يضع العناوين ،ويقسم النص إلى أبواب وفصول وما يشبه ذلك يقطين (2001)ص59 كما إنه “ينسق تراكيب رسالته وعباراتها ، ويؤصل أخباره بالشواهد، وإشاعة المعلومات والمعارف لإكساب رسالته تناسقا ولينال ثقة القارئ” حمدي (2009)ص261 فهو ينتمي إلى العالم الخارجي للمحكي، على عكس السارد الذي ينتسب للعالم الداخلي ، لذلك فمن غير المنطقي مطابقة المؤلف معه ،فالأول يخلق ويبدع والثاني يرسل ويبلّغ العمامي (2001) ص11على ذلك تكون وظيفته إبراز ما خفي عن الناس من جوانب الحياة المختلفة ،فورستر(1994)ص38 وسيلته إلى ذلك السارد.
ويذهب بعض النقاد إلى تحجيم دور السارد في النص ،فيرون أن لا سلطة له على أحداثه ، وأقوال وأفعال الشخصيات فيه ، وأنه فقط صوت يبلغ ما يُملى عليه ، لكننا نراه ، مع كل الآراء المتباينة حوله ، ذا يد طولى داخل النص ،يسانده في ذلك الروائي ويدعمه ، فهما يبتعدان ولا ينفصلان : الروائي يضع الخطوط الأولى للحكاية ، والسارد يقوم بإيصالها للمتلقي .
لا نريد أن نستطرد هنا في الحديث عن الروائي أو المؤلف ، فهو ليس مجال بحثنا ولنلتفت إلى السارد نستكشفه ونتعرف إليه،لئلا نبتعد عن التحليل المحايث للنص السردي ، حتى يتسنى لنا استنطاق الرواية ومساءلتها ،وتبيان تمظهراته فيها ، وليس معنى ذلك إنّا قادرون على الفصل بين الروائي والسارد ، ذلك أنّ الارتباط بينهما وطيد ،فأفكار الروائي تتسرب إلى السارد “وهو يباشر التخيل والكتابة” حمدي (2009) ص262 ولكننا معنيون ببحث السارد في رواية ” سأمضي “.
ثالثًا السارد وعلاقته بالشخصيات :
لا تعطينا الرواية فضاء واسعا للمساءلة ، فهي كما عنونها مؤلفها رواية قصيرة لذلك سنبحث في تجليات السارد و تمظهراته داخل الرواية ،أو وقوفه محايدا تجاه بعض المواقف .
السارد في رواية ” سأمضي ” غريبا عن الحكاية ،أي أنه ليس أحد الشخصيات داخلها ، وهو من صنفه جيرار جينيت بوصفه “خارج القصة “جينيت (1997 )genet ص45،نجده واحدا غير متعدد ، ويظهر لنا من خلال ضمير الغائب منذ بداية الرواية مراقبا للبطلة والشخصيات الأخرى “تطلعت في أرجاء الغرفة ليس سوى الصمت يحط بثقله أوحى لها الأثاث برائحة الألفة تأتي من دهليز روحها ، ليتسرب مع لون المساء الزاحف خلفاوي،( 2004) ص1، فيكون حلقة الوصل بيننا وبين أحداث الرواية .
لا يتولى هذا السارد الغريب عن الرواية توضيح بعض اللقطات، والأحداث الدائرة، بل يتذكر مع البطلة ويسترجع الماضي أيضا :”لم تفكر لحظة ،فارق العمر بينهما، إنها عشرون عاما وأربعة أطفال من امرأة راحلة ، لم تكن تدرك هذا ، كأنها الآن أدركت…”خلفاوي (2004 ) ص2 فهو عليم بكل الأحداث في الماضي ،وفيم تفكر البطلة الآن :”كان هناك اضطراب خفي يبرعم في أحشاء ناهد ،يمتص من وجنتيها ،شكلها البراق فيظهر وجهها بلون أصفر يسكنه القلق …”خلفاوي (2004)ص4.
كما أنه مدرك لأفكار كل الشخصيات وتحركاتها عبر النص الروائي ” صمت محمد وأطرق برأسه إلى الأسفل بقنوط ،تبخرت قلاعه وحاصرته غلالة سميكة من الضباب ويعمى المدى ،يمتد برد إلى أطرافه ،فتسكنه وحدة رهيبة ،فينشج .”خلفاوي (2004)ص10 وهكذا يصحبنا السارد إلى نهاية الرواية وهو يحلل ويفسر وينقل إلينا ما غاب عنا ، ليبتعد أحيانا ويترك الحوار يدور بين الشخصيات ،نستشف عبره الأحداث ،فيبسط هيمنته على النص وشخصياته وأحداثه ،منطلقا من كونه المؤلف الواقعي والحقيقي للنص ، وهو يقف في مسافة واحدة مع كل الشخصيات المنوط به إخبار القارئ بما يُلم بها من أحداث.
فهو يتأمل وينقل سردا ما يلحظه : الأثاث يُضفي جوا من الألفة على المكان ، وينعكس ذلك على البطلة ، فينقله لنا السارد العليم ،إذ إنه يستخدم تقنية السرد لوصف المحيط من خلال زاوية الرؤية أو الموقع ،وأحيانا لاستبطان ذوات الشخصيات ،فهو يعلم ما ظهر منها وما بطن ” كان التأرجح المستمر في أفكارها، والكثير من تساؤلاتها بقيت حائرة تطفو على وحل الندم يعيدها مرة أخرى إليه..”خلفاوي (2004)ص1 وكما يُظهر السرد قلق البطلة وحيرتها ،ينقل ما يتوارد في ذهن الأم وأحاسيسها من خلال السارد العليم بنفسية كل الشخصيات ” أحست أن شيئا داخلها يترنح ،وفزعا خفيا يستيقظ ،وأدركت أن أمرا خطيرا وشيك الوقوع ، فيسلبها الدعة والطمأنينة ، فتثلج أطرافها من هذه الفكرة ، تشبثت بيد ابنتها لتوحي لنفسها أنها لازالت على قيد الحياة .استمعت الأم إلى حديث الطبيب بوهن بارد ، فقد شعرت بوطأة الموت يتدفق داخلها “خلفاوي( 2004)ص4 ، نلحظ هنا مدى علم السارد وإحاطته بكل ما يخص شخصياته ، حتى تلك التي تترجم الأعماق ودهاليز النفس التى لا يدركها أحيانا الإنسان عن نفسه .
ويظل السارد قريبا من البطلة التي يعلم تفاصيل حياتها ،ويحكيها لنا فتتضح صورة معاناتها ،وينتقل بنا من السرد إلى الحوار ،لتظهر صورة الشخصيات ،ويطل بين الفينة والأخرى ،يفصّل حدثًا ،أو مشهدًا ،ثم يعود إلى الحوار ،فهو بذلك يبتعد عنها ويخفت صوته ، لتعلو أصواتها ” فكلما ازداد الراوي اقترابا من الشخصيات وصغرت المسافة التي تفصل بينه وبينها خفت صوت الراوي وانكمشت صورته حتى يصير في النهاية واحدا منها،وحينئذ يبرز أسلوب العرض المعتمد على الحوار” الكردي (1996 )ص83 كما في هذا الحوار :
“ماذا حدث ؟
لا أستطيع الذهاب إلى العمل ،سأبقى مع أطفالي .
آه حقا نسيت .
لماذا تركتها تذهب ؟
كان يجب أن أفعل ذلك ،لقد قررت طلاقها “.خلفاوي (2004)ص17
وإذا ما ابتعد السارد عن الشخصيات واقترب من المؤلف ” تضخمت صورته وارتفع صوته،وظهر الأسلوب السردي البسيط المعتمد على أسلوب التقارير أو الأسلوب غير المباشر ” الكردي()ص83 ، وهو ما نلمحه في فضاء الرواية :
” أمضت معظم اليوم التالي بتنظيف البيت .أزالت الستائر وفتحت الشبابيك على مصراعيها ،غمر ضياء الشمس الصالة وبقية الغرف في الطابق السفلي ،مضت مبهورة بالضوء والنسمات الباردة التي تنبئ بقدوم الشتاء مبكرا هذه السنة، بينما ظلت سمية راقدة بغرفتها … “خلفاوي (2004)ص11 ، ويمضي السارد في سرده حوالى تسعة أسطر ثم يعود للمراوحة بين السرد والحوار في أسلوب حر مباشر ، محافظا على ذات المسافة بين السرد والحوار، يظهر مدى قربه من الشخصيات : “وجدت ناهد صعوبة تصديق ما ترى ،وغمغمت بغضب متفجر:
“- فوق مصابنا مصيبة أخرى ؟
نزلت سمية من السلم ،تأملت بعينيها المنفوضتين من النوم ناهد المنهمكة بالتنظيف.
– لماذا لم توقظيني كي أساعدك “خلفاوي (2004) ص12
نجد مما سبق أن السارد يسرد لنا أفعال الشخصيات ،وينقل تحركاتها ، وسلوكياتها وهي قليلة الفعل بسبب فقر الأحداث ،إذا استثنينا ما هو متعلق بالبطلة ناهد التي يقع عليها عبء الرواية .
رابعًا تقنيات السرد :
1) زاوية الرؤية :
يستخدم السارد ضمير الغائب المؤنث ،وهي الطريقة السردية المسماة الأسلوب الحر غير المباشر ،حيث يعرض إحساس ناهد وما يدور في خلدها ،من رسم لخطة مستقبلها ، إذاً فهو منذ البدء على دراية بكل شيء ،حتى مكامن النفس ، فقد جاءنا بالنهاية لينتقل إلى البداية : “تطلعت في أرجاء الغرفة ، ليس سوى الصمت يحط بثقله…” خلفاوي(2004 )ص1،وشيئا فشيئا تتضح معالم المعاناة سردا من خلاله ، فكلما زادت التفاصيل وكثرت المعارف ازدادت المشاهد مأساوية ، فالحيرة تأكل ناهد وهنا يتدخل السارد ليوضح سببها بقوله ” لقد مضى شهران لم تره فيهما …” خلفاوي(2004)ص1.
فهو قادر على التنقل بين الأزمنة والأمكنة ،ومعرفة ما بالداخل و الخارج ، كما أنه عليم بمكامن النفوس ،أحزانها وأفراحها إلى أعمق نقطة فيها العزي (2010)ص158-159 فهو المسيطر الدائم و الوحيد على الأحداث ،فلا منافس له بين شخصيات الرواية .
2) أشكال حضور السارد :
يتمظهر السارد في عدة أشكال في رواية ” سأمضي ” فنجده في علامات السرد وفي نقل الحوار ، وفي التعليق بين الجمل الحوارية ،وأحيانا أخر يتماهى والشخصيات ؛على ذلك سنفاتش الرواية عن توظيف تلك التقنيات فيها .
علامات السرد :
يتكرر في الرواية وضع النقطتين (..) بين الجمل في تعليق السارد أو الحوار ، لأخذ مكان الفاصلة ،حيث ينتهي تنفس جملة ،لتبدأ جملة أخرى “أما الآن أود لو أنه يتوقف .. فإني أشعر بثيابي مبلولة حتى جلدي المقشعر تحتها .. نسيت أن أجيء بالمظلة .. “خلفاوي (2004)ص15 ، كذلك يستخدمها للتمييز بين الحوار وكلام السارد ” أنارت المصباح ،وسحبت الستارة عن الشباك،وعادت إلى ابنتها التي بدت أنها توشك أن تصاب بانهيار عصبي ، وقد أحنت رأسها متدليا بين كتفيها ..
– لا شيء يستحق أن تحزني من أجله ..
– كيف ؟
– انتبهي لأطفالك .”خلفاوي (2004 )ص1
في الحوار السابق يظهر الراوي جليا ،يَمْثل أمامنا في توضيحه حالة البطلة ثم يختفي في الحوار لنراه في إشارة الاستفهام في أكثر من مكان ” لازلت تشعرين بألم في صدرك ؟”خلفاوي (2004)ص8 و تكون مصحوبة بعلامة التعجب أحيانا ” ألم يكن يحبك ؟! ” خلفاوي (2004) ص9 “هذا رأيك ؟!” خلفاوي( 2004) ، وأحيانا أخر يتعجب دون علامة استفهام ” – فكرة جميلة .
– فكرة !! لا إنها قرار .” خلفاوي (2004 )ص4
كما نجده في وضع القوسين عندما يتدخل في الحوار موضحا ومفسرا “… – ما هو أسوأ ((وقبل أن يعطيها الورقة التي دون فيها الدواء )) استمر بنفس صوته .
– يجب أن تعتني بها جيدا ..) خلفاوي (2004 ) ص4
فنجد أن الحدود الشكلية قد ضعفت ، باستغناء السارد عن فعل القول ، فيتم المرور من خطاب السارد إلى الشخصية مباشرة بلا وسائط ، وما يميز الخطابين : المزدوجان أو الضمير النحوي.
“أزيحت الستارة ، فرأت الكهل بثوبه البني وهو يشكر الممرضة
– أنا أخت محمد
حركت رأسها كأنها لم تسمع ما تفوهت به
– أخت محمد عبد الرحيم .. زوج سمية
– نعم
– إنك جميلة
ابتسمت واضعة طفلتها على الأرض
– شكراً ” خلفاوي (2004)ص22 نلحظ انتقال السارد من سرده إلى الحوار بدون استخدام أي من الوسائط ، في بدايته ونهايته وهو على هذا النمط تقريبا في أغلب الرواية .
إذاً يبرز السارد بالأسلوب المباشر، وهو يسرد لنا أحوال الشخصيات ،أو بأسلوب غير مباشر، متمثلا في علامات الترقيم ،التي وجدت لتزويد القارئ بمعرفة أكثر بالأحداث وهي من وظائفه ،وجميعها وسائط لنقل الكلام المقول إلى الكلام المكتوب .
ب- الضمير :
يحيلنا الضمير لوجود السارد ، وضمير الغائب الذي ساد الرواية يوجهنا إلى راوٍ متخفٍ ” وكل نص مروي بضمير الغائب يبدأ بجملة مضمرة يمكن تقديرها أنا الراوي أقص عليكم حكاية …” العمامي(2001 )ص26 وفي هذه الرواية يستند المنظور السردي إلى الرؤية من الخلف ،أو المنظور السردي من درجة الصفر، والرؤية المطلقة في المعرفة ، وهي تعني معرفة السارد لكل ما هو خارجي وما هو داخلي نفسي: ” لم تكن تعلم أنه يحمل ضغينة على أحد.. لكنه فاجأها .. أرادت أن تقول له: هذا حسد عيشة ..خافت أن تطور الأمر معه .. فآثرت أن لا تتحدث معه بهذا الموضوع .. لم يعد البخار يتصاعد من قدح الشاي ..أمسكت رأسها بكلتي يديها وقد تحسست صداعا ،إنّ شرب الشاي بالنسبة لها إدمان .. عادة بأوقات معينة إذا فات موعدها لازمها الوجع اللعين .. لم تشأ شربه باردا لأنه يزيد من حموضة معدتها ..فحملته إلى المغسلة ورمته هناك …” خلفاوي (2004) ص13 لو تأملنا في حجم المعلومات التي زودنا بها السارد لعلمنا مدى قربه من شخصيات الرواية ، فهو العليم بدواخلها وكذلك محيطها وما تحمله من حزن وفرح ،فيكون بذلك راويا ذا رؤية مهيمنة لسبر أغوار المكنون ، وإدراك المجهول ، ونجد ذلك جليا في أكثر من موضع بالرواية ” كانت الأمور تسير هادئة ،بعد أن تدع أطفالها عند مربيتهم ،تذهب عجلى إلى عملها متدثرة في بلوز صوفي أو أكثر ، وعيناها تبدوان رطبتين من تيارات الهواء المثلجة ، في مثل هذه الأشهر من السنة ،يزداد العمل في المكتبات لقرب انتهاء السنة المالية ، فتكون مشغولة في عملها طوال الوقت حتى في فترات الراحة ،بين الدوامين لأن الكثير من العملاء يترددون عليهم باستمرار …” خلفاوي (2004)ص18 ، فهو على دراية تامة بكل ما يجري حول البطلة ناهد وليس هذا فحسب ،بل هو عليم بما تنطوي عليه نفسها وما يجول في أعماقها “…كانت تشعر بارتياح لقسمات وجهه المؤنسة ، لكنها أبدا لم تسمح لهذا الارتياح أن يتطور إلى مرونة في العلاقة معه،كان دأبه أن يُسمعها كلمات حلوة ، وهي تبقى بعبوسها المعبر عن صدودها ” خلفاوي(2004 )ص18 فهو يستبطن دواخلها ويكشف عما بنفسها تجاه ذلك الشاب .
فهذا النوع من الرواة “هو مجرد ناقل للأحداث ،ومحلل لها، يشبه العالم الموضوعي المتجرد من العواطف والميول ” الكردي (1996)ص115 دائما ذو رؤية محايدة يرصد ويصف الظواهر ، فما هو إلا وسيط ينقل الأحداث وحركة الشخوص ،وحواراتهم وأفكارهم ، دون تدخل منه فيها، إلا أنه في كثير من الأحيان يؤطر الحوار ، فينهض به ولا يتركه للشخصية وحدها، فلو تأملنا أحد الحوارات الدائرة في الرواية،لوجدنا تدخلات عدة ظاهرة للسارد: “انحرف بنصف جسده العلوي باتجاه أبي عمار :
– هل أكملتم هذه الحسابات ؟
– نعم ، ومضى عليها أسبوع .
واستطرد أبو عماريطلب من ناهد :
– عفوا سيدة ناهد ..اعطه حسابات شركتهم التي انتهينا منها الأسبوع الماضي .
مضت إلى مكتبها ،وتابعها الزبون بنظراته ،ونهض من مكانه متحركا باتجاهها :
– حضرتك سيدة ؟
– نعم .. هل هناك شيء غريب ؟ خلفاوي (2004) ص24
نلحظ في الحوار السابق تدخل السارد لتأطيره وتوضيحه ، وإذا ما صمتَ فإنه ليتيح للشخصيات فضاء للتعريف عن نفسها وما تريد إيصاله للمتلقي .
يقوم أيضا السارد بالنهوض بأعباء كل الشخصيات ، من أقوال وأفعال بل وأفكار أيضا :
فعندما يقول(جلستْ )فهو إنما يشير إلى فعل الجلوس ،ويفسر سبب سحب البطلة لتنورتها ” فتبدو أكثر احتشاما ” خلفاوي(2004) ص6 وأيضا يقرأ أعماقها “راودها شعور بالخجل ، فطفت على وجنتيها حمرة مشرقة ” خلفاوي (2004) ص6 ولا يكتفي بسبر أعماق البطلة بل يصف شعور المحاور المتداخل مع وصف شعور البطلة ” لم يدعها أسيرة الاضطراب حين تهدج بنبرات… ” خلفاوي (2004)ص6 فيعود لوصف مشاعر البطلة تجاه كلمات رب العمل “شعرت بها أليفة توحي بثقة أبوية ، تسيل مدهشة في مرفأ سكينتها ” خلفاوي(2004)ص 6، فالتناوب في نقل ما يدور في أعماق جميع الشخصيات ، يُظهر لنا موقع السارد ، الذي لا تخفى عليه خافية في الرواية ؛ ومن اللافت أن يتماهى السارد مع الشخصيات أحيانا بحسب الأحداث ، فلا نستطيع التمييز بينهما ،حتى إنّا نعتقد أن الشخصية التي أمامنا هي ذاتها السارد ، فيتحول الخطاب من ضمير الغائب إلى المتكلم “فتحتْ الباب ،رشقتها الريح الباردة ،فأحست بخياشيمها مبتلة ..استولى عليها تفكير حالم وهي تمضي تحت وابل المطر ،عندما أكون في البيت أحلم دائما بالمطر يسيح على زجاج النافذة ،يبلل حشائش الحديقة ، ويغسل طابوق الجدار …” خلفاوي (2004)ص15 وهكذا يستمر الحديث المستبطن من البطلة حوالى خمسة أسطر ، فيتوه القارئ بينهما.
4) لغة السار د :
جاءت لغة السارد متأنقة فصيحة ، كثيرا ما يلجأ إلى الأساليب البلاغية في إيصال ما يريده حول الشخصيات ، والأحداث ،والزمن ، والمكان ،فنجد التشبيه والاستعارة والمجاز ، مما يكسب العمل الأدبي رونقا خاصا ، فلو تأملنا وصفه لحزن البطلة لوجدنا كلمات غاية في الشعرية “أوحى لها الأثاث برائحة الألفة تأتي من دهليز روحها ، ليتسرب مع لون المساء الزاحف من الشباك …” خلفاوي (2004)ص1 فرائحة الأثاث تُشعر البطلة بالألفة الكامنة في عمق الذاكرة ، وهنا يستخدم الكاتب الاستعارة والمجاز ، فيجعل الروح مكانا يحوي دهاليز، ويجسّم لون السماء ، الذي يزحف من الشباك ؛ وتنثال الصور المجازية في تسارع عجيب مع عمق الأسى والحزن لدى البطلة “تهاوى كل شيء فيها ،وتساقط نثارا ، عاصفة قوية اقتلعت الخضرة ، رمت بالضحكات والضجيج ،بالنفاق والكذب ،والصدق بالحقيقة والوهم ، لم تعد سوى صحراء قاحلة تذر الرمل ، وتدفع بريح سموم ،مضت إلى آخر تحرق المسرة ،وتنشر الكآبة في دروبها ، وتلاشت الأضواء ،هدرت ناهد مثل ماكنة تطحن ، وأفاقت ، السواد يغطي الحجرات ، عيون دامعة ، وعيون كئيبة ” خلفاوي (2004)ص10 ، بإمكاننا نلحظ توظيف الكلمات السالبة أفعالًا وأسماء ، إمعانا في خلق جو موبوء بالحزن ، يعكس تلك الحالة التي تعيشها البطلة ، فلو حصرناها في الفقرة السابقة المقتبسة من الرواية لوجدنا التالي :
الأسماء الأفعال
الضجيج تهاوى
النفاق تساقط
الكذب اقتلعت
الوهم رمتْ
صحراء قاحلة تحرق
ريح سموم تلاشت
الكآبة – كئيبة هدرت
السواد
دامعة
اجتمعت سبعة أفعال في ستة أسطر لها دلالة سلبية ،وتسعة أسماء تحمل دلالة فوضى المشاعر، وتوهان الذات ،مما ينبئ عن الأجواء المشحونة بالحزن ،كأن روحها بناء يتهاوى ، والحزن عاصفة ،والحياة صحراء قاحلة، ثم شبهها في بكائها بماكنة تطحن ، وأسقط حالتها النفسية على الألوان ، فكان السواد يغطي حجرتها .
نلمس هذه اللغة الشاعرية في كل الرواية،إذ يوظفها في وصف الأحداث فنلحظ هيمنة المجاز على الأحداث العاطفية الحزينة “صوت الريح تدمدم تحت الباب ، وعلى وجنات الشباك ،الملتذ بالقبلات الباردة ،أعاد خيالات جبهتها إلى وعاء الهمس في فضاءات المحبة ، فتطلق عنانها لجذر الهوى المترجرج فيها واحات تنحني إلى الاحتواء ” خلفاوي(2004)ص23 فهو يصف مشاعر البطلة من خلا ل جماليات المجاز التي يسقطها على ما حوله، فيتحول الشباك إلى جسد يلتذ بالقبلات ، والبيوت تستحم ، والنجمة ترفل بالضوء ” أما السماء فاصطبغت بلون قرمزي، ونجمة صغيرة ترفل بضوء شاحب ، واستحمت البيوت بوقت الأصيل ” خلفاوي (2004)ص4، فالتجسيد والتجسيم من تقنيات التعبير عند الروائي.
ومن الأساليب البلاغية التي يوظفها السارد للتمثيل والتصوير( التشبيه ) فنجد التشبيهات متناثرة على صفحات الرواية ،بحسب المعنى المراد إيصاله للمتلقي “أحست بخيبة أمل تهبط على كيانها وتجعلها شبه يائسة…”خلفاوي(2004)ص8، فيشبهها باليائسة بسبب الإحباط الذي يلفها ،ويمثل طريقة التفكير المشبع ألمًا بالمرارة ” لا تفكري بمثل هذه المرارة …”خلفاوي (2004)ص10 وكان يوظفه لتبيان تغير الحال فالمرأة المريضة صارت بأحسن حال ،حتى أن وداعة عينيها تشبه وداعة حمامة بيضاء”…زال هذا الإحساس تدريجيا أمام افترار شفتيها وعينيها الوادعتين مثل حمامة بيضاء ترفرف في سماء صافية” خلفاوي( 2004)ص8 يقابله تشبيه لصخب الموقف “هدرت ناهد مثل ماكنة تطحن ” خلفاوي (2004)ص10 وهي صورة أراد بها السارد إبراز حالة ناهد في حزنها ، ويوظفه للتقبيح أحيانا “بدت برباطها الأسود كائنا خرافيا” خلفاوي (2004)ص6 ونلاحظ أن تلك التشبيهات مستقاة مما يدور على الألسن في البيئة العربية ،وكثيرا ما يلجأ للوصف كي يعطي روايته صبغة الواقعية “كان الهواء البارد ،عندما تمضي الشمس نحو الأفول،ويمتلئ ممر البيت الخارجي وكذلك الحديقة بأوراق السدرة المتيبسة .. في هذا الفصل. ويظهر التغير على لون شجرة الكالبتوس الباسقة في الطرف القصي ،فتبدو داكنة بلون يميل إلى السواد فتركت على الفتاة تأثيرا حزينا عليها ” خلفاوي(2004)ص4 ، وليمعن في الواقعية يصف الأماكن “بعد عبور جسر الأحرار من الكرخ ، تظهر عند جهة اليسار نهاية شارع النهر المطل على نفق يغور تحت هبوط الجسر الذي ينشق عند التقائه بشارع الرشيد إلى ممرات عديدة ،وتبدو منطقة حافظ القاضي بأبنيتها القديمة ، مستديرة بمواجهة زحمة المرور ” خلفاوي (2004)ص6 ويصف الوجوه “لبرهة نظرت ناهد لأمها بود،وتأملتها كأنها تراها لأول مرة بدا وجهها قد هرم تحت مصباح الطريق ، وشحوب باهت يعصر تقاطيعها ، وهي تمشي بانحناءة واضحة ” خلفاوي (2004) ص4 ،ونلحظ أنه في كل الرواية لا يصف الملامح بدقة إنما يقتصر على وصف هيئة الوجه ،أو حالته .
5) البنية الزمنية :
يُعد الزمن العنصر الأساس الذي تُبنى عليه عناصر التشويق في السرد ، ويمنحه شكله الفني ، إذ يُظهر لنا ظروف البيئة ،وتنوع الشخصيات والأحداث.
وزمن الحكاية هو ماض دائما ، إذ لا تُحكى القصة إلا بعد انتهاء أحداثها ، أما زمن السرد فهو الحاضر وقت اطلاعنا عليها العزي (2010 )ص46 ويتناوب الزمن بين الحاضر والماضي والمستقبل في جل الروايات وهو منحى جمالي ،فالقصة الأصل يظهر الزمن فيها مرتبا ، بينما في السرد “يحاول القارئ إعادة ترتيبها وفق النظام الزماني الصحيح “مارتن (1998)martinص141 ، الذي حدثت فيه تقاطعات في السرد الزمني عند استحضار الماضي بقطع الحاضر أو ذكر المستقبل من خلال الحاضر ، وهذا التداخل في الترتيب الزمني يعد من جماليات بنية السرد الروائي .
ولدراسة الزمن تتوافر تقنيات متعددة ،منها الأزمنة الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل، ثم تقنية الاسترجاع ، والاستباق الذين سنعتمدهما في دراستنا للزمن في هذه الرواية.
الزمن الماضي : “يحدث السرد فقط حين تنتهي الأحداث المروية مسبقا . ولذلك فإن الاختيار التقليدي للزمن هو الزمن الماضي ” فلودرنك (2012)fludernik ص106-107 ، فبانتهاء الحكاية في الواقع يبدأ السرد ،وهنا يبدأ بالفعل الماضي، متمثلا في الفعل (تطلعت) وينطلق منه ليسرد الأحداث من منتصفها ، ممهدا لها باستهلال يتضح فيما بعد أنه يروي نهاية القصة .
يحمل الفعل صيغة الماضي ،ولكنه حاضر في فعل البطلة ،فهي في حالة تطلع عندما بدأ السرد ،وفي استخدامه للفعل الماضي إحاطة بالحاضر والحال الذي هو عليه “تطلعت في أرجاء الغرفة ،ليس سوى الصمت يحط بثقله ..” خلفاوي (2004) ص1 ، ويعبر عن الزمن الماضي من خلال الأفعال الماضية ، أو الأفعال الناقصة الماضية ،والمقاربة وأحيانا أخر يلجأ لتقنية الاسترجاع التي سنعرض لها فيما بعد .
الزمن الحاضر (المضارع ): يلجأ السارد إلى توظيف الزمن المضارع ربما رغبة منه لتأكيد فورية السرد ،و يشير إلى هذا الزمن من خلال الأفعال المضارعة ،والظرف الآن ،وهو “الزمن الوحيد الذي يمكن أن يسمى حاضرا… ” ريكور ()ص28 ففي الحوار التالي يتضح قيمة هذا الظرف في تحديد الزمن الآني “سيتوقف قلبي الآن …لا أستطيع العيش معك بعد الآن …” خلفاوي (2004)ص11-61 كذلك يشير إلى الحاضر باستعماله لاسم الإشارة الذي يحمل الإيحاء بواقعية الأحداث “…آه..فكرة رائعة في هذا الصباح الجميل …” خلفاوي (2004)ص17
ج- المستقبل : لا نستطيع تبين زمن وفصله عن آخر ، فالأزمنة متداخلة في الرواية إلا من إشارات مختلفة ؛ يبرز هذا الزمن من خلال حرف السين الذي يوحي بالدلالة المستقبلية ” سأصعد إلى فوق ،أولا ثم أتناول الشاي بعدها” خلفاوي (2004 ) ص13فالفعل أصعد يحمل زمن الحال ومع اتصاله بالسين تلبسته دلالة المستقبل أيضا،وربما استخدم الظرف بعد قليل “…وبعد قليل يهب ليشتغل حمالا في الشورجة ” خلفاوي (2004)ص13 فالظرف( بعد) مضاف إلى قليل، أوحى بزمنية المستقبل للحدث، والغد أيضا من سِيَم المستقبل .
يضع السارد الماضي والمستقبل في داخل الحاضر عن طريق استحضارهما في الذاكرة والتوقع ريكور()Ricoeurص28 وهما تقنيتان وظفتا في رواية سأمضي وسنستنطقهما، فيها تحت مسمى الاسترجاع والاستباق :
أولا الاسترجاع (الاستذكار ):
يستعيد السارد في اللحظة الراهنة ،أحداثا وقعت في زمن ماض قبل اللحظة الآنية،فتكون المفارقة الزمنية استرجاعا أو استذكارا لحمداني(2000)ص74-75 فالاسترجاع “كل ذكر لاحق لحدث سابق للنقطة التي نحن فيها من القصة ” جينيت (1997 )genet.ص45
جاء الاسترجاع لزمن بسيط ،فالأحداث المسترجعة كانت قليلة ،كأن الشخصيات لا تسْعَد بتذكر الماضي ،فتعيش حاضرها دون أن تعكره بماض لا يجلب إلا الألم والتعاسة ،وربما اكتفاؤهم بتعاسة الحاضر هو ما يلهيهم عن الماضي ،ونلتقط ذلك من خلال محاولة ناهد ابعاد طيف من صور الماضي يلح عليها ” ظلت تتخبط محاولة ابعاد الصور المنثالة وهي تضئ عتمة ذاكرتها”خلفاوي (2004)ص1 وهي تسترجع مشاكلها مع زوجها حتى تتضح معالم معاناتها للقارئ ، فيستخدم السارد ما يدلل على ذلك الماضي ” في الفترة الأخيرة كان يفتعل أي مشكلة ليطردها من البيت ،ولأنها لم تسق شجرة اللبلاب ضربها بعنف …”خلفاوي(2004)ص1 فنجد من خلال الاسترجاع تلخيصا سريعا للأحداث التي ترسم القصة ،ويتركز عادة الاسترجاع بالفعل الماضي ، ويتخذ وسيلة لتفسير بعض الأحداث المستجدة التي هي نتاج لتفاقم تراكمات زمن ماض ، تتفاعل مع استفزاز مشاكل ومعاناة الحاضر “عادت فقاعة الحزن عائمة مع الظلام والليل ينبض في الجوار ..يد زوجها تصفعها مثل الحجر…تعبت وهي تتقلب على جمر ذاكرتها ..” خلفاوي (2004)ص17 فالفعل (عادت )يرجعنا إلى زمن ماضٍ ، حيث زوجها الذي أساء إليها ، ويؤكد على الاسترجاع المؤلم قول السارد (تتقلب على جمر ذاكرتها ) .
ينقسم الاسترجاع في هذه الرواية إلى نوعين : استرجاع قريب المدى واسترجاع بعيد المدى وهو الأقل حضورا فيها .
استرجاع بعيد المدى:
يسرد السارد القصة من منتصفها ،لتسترجع البطلة أحداثا ماضوية، تغوص في الطفولة ، تتصل بالأحداث الراهنة ، وقد جاءت على شكل حوار :
“أتتذكرين عندما كنا صغارا؟
نعم كنتِ شقية.
لا .. حينما تشاجرتِ مع أبي .
متى؟
حين ضربك بنطاقه السميك .
متى هذا ؟!
لا توحين لي بأنك لا تذكرين شيئا،فقد كنا ننظر أنا ومحمد من الشباك ،كنت تعاندين الألم ، عنادك من النوع المستحيل .”خلفاوي (2004)ص8
الخطاب من الابنة لوالدتها في محاولة منها لاسترجاع أحداث مضت واستذكارها فقط لأجل الاسترسال في الحديث ، وإبعاد الأم المريضة عن أجواء التوتر والمرض؛ ولكن من خلاله نستطيع أن نتبين حياة البطلة السابقة والأجواء التي كانت تعيشها ،ونشأتها والتربية التي تلقتها ، فهي صورة لطفولتها مع أخيها ووالدتها ووالدها .
2 ) استرجاع قريب المدى :
يتمثل في استرجاعات البطلة لأحداث لاحقة لزمن الرواية كحدث طلاقها وعلاقتها بزوجها ، حيث نجد السارد يسوقه بطريقة غير متطابقة زمنيا مع ترتيب أحداث الرواية ، ففي ص 1 تسترجع أحداثا من زمن طلاقها : ” أسمعها خبرا أحسته مزعجا ،وأغلق التليفون …”خلفاوي (2004)ص1 ثم تعود في الصفحات التالية لتتحدث عن خصامها مع زوجها قبل طلاقها:
” – اخرجي من بيتي .
– ولكن ..
– قلت اخرجي وسأبعث لك بورقة الطلاق “خلفاوي (2004) ص1
ثم تسترجع في الصفحة التالية ص2 أحداثا من بداية زواجها ، أي مدة زمنية تقارب الخمس سنوات ،نستنتجها من عمر ابنها الأكبر ، وقد جاء الاستذكار نتيجة لكلام أخيها لها :
” بيت أهلك !! تذكرتيه الآن ، كفى مهزلة …” خلفاوي (2004)ص2
الحوار مع أخيها أعاد إلى ذاكرتها أحداث زواجها ،وعدم رضا أهلها بالزوج وموافقتهم لها خوفا من تهورها . خلفاوي (2004)ص2 ويورده السارد لتوضيح بعض الأحداث اللاحقة فيما بعد .
نلحظ من ذلك أن الاسترجاع قريب المدى يكون في أحداث تتعلق بزوجها ومعاملته لها ، ومعاناتها معه التي انتهت بالطلاق .
ثانيا الاستباق (التوقع ):
هو الشكل الثاني من المفارقة الزمنية التي تخرج بالسرد عن خط سيره الطبيعي ،ليخبرنا عن أحداث ستنهض في الرواية لاحقا لحمداني(2004)ص74 وقد يكون الاستباق داخليا وقد يكون خارجيا،وهذه الاستباقات هي إشارات مستقبلية ؛ واللافت في الرواية أنها لم تحتوِ على استباقات كثيرة ، فنقف عند هذا الاستباق مثلا :”كان يجب أن أفعل لقد قررتُ طلاقها .”خلفاوي (2004)ص17 الاستباق في هذه الجملة الحوارية ظاهر ، فمحمد أخو ناهد قد استشعر الفشل في حياته الزوجية ، لذلك قرر شيئا ينهي به سبب الفشل مستقبلا ،وهو هنا استباق داخلي لأنه يتعلق بشخصيات أساسية في الرواية ومتصلة بأحداثها ،وهو في ذات الوقت استباق خادع، ذلك أن محمدا لم يطلق زوجته ،ونفهم ذلك من حوار الأخوين :
“- سوف لن تطلق سمية ؟
– كيف تعرفين كل ذلك ؟
شعرتْ بوهج المدفأة على وجنتيها المكتظتين
– يعني صحيح ؟
نعم ” خلفاوي (2004) ص21
إنه استباق ساكن أيضا ،إذ أن الأخ أبلغ أخته عن قراره طلاق زوجته ، ولكن هذا القرار لم ينفذ ،فهو خادع ؛ وفي ذات الوقت توقعت الأخت أن يطلق أخوها زوجته ،لكنه لم يفعل ، بل استبقاها في بيت أهلها ،حتى يغري أخته بالزواج من كهل تقدم لها ؛هنا يكون الاستباق ساكنا لأنه لم يتحقق .
ونجد استباقا متحركا في هذا المقطع :
“أحست أن شيئا داخلها يترنح ،وفزعا خفيا يستيقظ ، وأدركت أن أمرا خطيرا وشيك الوقوع ،فيسلبها الدعة والطمأنينة ،فتثلج أطرافها من هذه الفكرة ، تشبثت بيد ابنتها لتوحي لنفسها أنها لازالت على قيد الحياة ،استمعت إلى حديث الطبيب بوهن بارد ،فقد شعرت بوطأة الموت يتدفق داخلها ” خلفاوي) 2004) ص4 فقد شعرت الأم بدنو أجلها، فاستبقت بهذا الشعور الأحداث التي تحققت بالفعل (بعد خمس صفحات ص 9) حيث توفيت الأم ، وهذا الاستباق يسمى بالاستباق التقريري ، “الذي يعلن بشكل صريح عما سيقع من الأحداث في وقت لاحق من زمن القصة ” العزي (2010) ص73 فالسارد يعلن على لسان المرأة عما سيقع لاحقا ، وقد تحقق ، فالمرأة أحست من خلال وطأة المرض عليها بدنو أجلها ،وتحقق ما استشعرته.
الفضاء الروائي :
يُعد مصطلح الفضاء أكثر شمولا من مصطلح المكان ،فالفضاء الروائي يطلق على كل الأمكنة المذكورة في الرواية، بينما المكان الروائي ينحصر في دلالته على المكان داخلها سواء أكان مكانا واحدا أم أمكنة عدة الفيصل ()ص71 والواضح أن المكان في الرواية قيد الدراسة محدود ، إذ أن الأماكن المغلقة قليلة مع ضيقها ، وكذلك الأماكن المفتوحة ، فالسارد لم يوسع من دائرة المكان بالوصف والتقديم ،أو بتنوع أماكن الأحداث ، ونستطيع من خلال ذلك أن نقسم هذا الفضاء إلى نوعين : الأماكن المنغلقة ثم الأماكن المفتوحة
أولا الأماكن المنغلقة :
إن الأماكن المنغلقة لها النصيب الأوفر في الرواية ،حيث بدأت بذكر للمكان المنغلق “تطلعت في أرجاء الغرفة …”خلفاوي (2004)ص1 فالغرفة هي المسرح الأول للأحداث ، يصفها السارد بأن السكون يحيط بها ،وهو لا يصف الغرفة بل يصف الحالة الشعورية للبطلة، تنعكس على المكان ثم يتجه لوصف الأثاث كي يعطي انطباعا مأساويا عليها ، ومن الغرفة يدور الحوار حول البيت وأهمية الحفاظ على سمعته ،وهذا البيت وما فيه من حمّام وسلم وحديقة وممر ومطبخ كلها أماكن مغلقة في حياة البطلة ، لتنتقل إلى مكان منفتح وهو الشارع الذي يؤدي إلى مكان منغلق آخر وهو مقر عملها .
ورد ذكر البيت مسرح الأحداث عدة مرات في أحداث مختلفة ،فهو بؤرة أحداث القصة المكانية ،ودائما يكون الانطلاق منه والعودة إليه ، وهو مألوف للشخصيات الرئيسة في الرواية ،ويمثل الملجأ والملاذ ومكان الاستقرار والأمان ،فهو المكان الأصل ، منه انطلقت البطلة في الحياة ، إلى المكان الخارجي الآخر ،المتمثل في بيت الزوجية ، الذي لم يمنحها الأمان والاستقرار المطلوبين فعادت إلى مكان الأصل ، مسقط رأسها .
نلاحظ أن البيوت المذكورة في الرواية قليلة ، فمن بيت الزوجية للبطلة إلى بيت الجارة ، ولم يقف عندهما السارد ، ثم إلى بيت أبيها الذي كان مدار أحداث الرواية فيه ،ويذكر عرضا بيت والدة سمية زوجة أخيها.
ويلفتنا أنه في بيت والد ناهد كان يكثر من الوقوف في الحديقة و المطبخ، ونادرا ما يتطرق إلى بقية حجرات البيت ، فهو يذكر غرفة نوم محمد في سياق الأحداث ، وحجرة نوم ناهد عندما مرضت ابنتها ، دون تفاصيل .
يظهر لنا ضيق البيت ،وضعف الحالة المادية من خلال وصف السارد له وللأثاث به،وإن كان لا ينقصه البعد الجمالي المتمثل في الحديقة ، والخزانة وما فيها من أوانٍ .
ذلك بخصوص أمكنة الإقامة الاختيارية ، أما الإقامة الإجبارية فتتمثل في السجن ، وهو نقطة انتقال من الخارج إلى الداخل ، ولم يفصّل السارد في السجن بل جاء في سياق الأخبار عن محمد الذي أودع فيه ، ويحمل هذا المكان دلائلية الاضطهاد ، حيث يكون السجين عاجزا يائسا.
لم يهتم السارد بوصف محتويات الأمكنة ، بل كان يكتفي بالإشارة إلى بعض الأشياء فيها ، فحينما يتجه لحدث في البيت يشير إلى بعض قطع الأثاث “اتكأت على الخزانة الجاثمة في طرف الصالة محاذية الشباك الواسع المشرف على الباحة “خلفاوي (2004)ص3 يحفز القارئ وقدراته التخييلية على استكمال التأثيث ،وقد تُنبئنا قلة الأثاث الموصوف في البيت على الحالة المادية لهذه العائلة “كان صمتا حزينا يغلف البيت وبرودة تسري في الممر المطل على الصالة وفراغ يسبح على الأثاث،لازالت سجادة الصلاة تقبع منزوية فوق خزانة أواني الفرفوري .” خلفاوي (2004)ص7 ويبدو أن لهذه الخزانة مكانة لدى السارد ، حتى صارت مَعْلَما للبيت ،ورمزا لأصالة المكان ،إذ يتكرر ذكرها أكثر من مرة ، فالأم تتكئ عليها حين يداهمها الحزن، والسجادة توضع عليها ،وناهد تبكي أمها بجانبها “لم يكن ثمة صوت يسمع سوى دقات الساعة ونشيج مكتوم لناهد الجالسة في مكان أمها ، بجانب خزانة أواني الفرفوري “خلفاوي (2004)ص10 كما نجد وصفا لفوضى المكان يشي بحالة مَنْ به، فكثيرا ما يسهم المكان “في خلق المعنى داخل الرواية ولا يكون دائما تابعا أو سلبيا بل إنه أحيانا يمكن للروائي أن يحول عنصر المكان إلى أداة للتعبير …”لحمداني (2000)ص70 ففوضى المكان تعبر عن معاناة أصحابه “بكت سمية وهي جالسة على الأرض،ومحتويات الخزانة رميت بفوضى في كل مكان ،استراح أخوها على حافة السرير،وصوت تنفسه يسمع في أرجاء الغرفة المبعثرة بالأثاث ،وضعت طفلتها على الحشية المقلوبة ،جوار خالها ،وأتت بحاوية لتلم أواني الفرفوري المهشمة .”خلفاوي (2004)ص9 المكان هنا منغلق أيضا وهو غرفة النوم وقد دبت فيه الفوضى ببعثرة أثاثه المكون من الخزانة ومحتوياتها من أواني الفرفوري وسرير وحَشِيَّتِه ،وقطع أثاث أخرى لم يُفصح عنها السارد ، ربما تركها لخيال القارئ ؛ واللافت أن السارد ألح على وجود الخزانة وقد ذكرها في كل مرة يذكر بها البيت في كل أحواله، وليست خزانة غرف البيت فقط ،بل المطبخ أيضا ، لتتحول الخزانة إلى خزينة في نهاية الرواية فتنقلب من قطعة تزيينية ذات فائدة ،إلى قطعة مترفة تحمل الخطورة ،فقد كانت سببا في سجن محمد : ” – إنه الآن في السجن ..لكن كيف حصل هذا يا إلهي؟
ـ اليوم عندما جردوا الخزينة وجدوا فيها نقصا كبيرا …”خلفاوي (2004)ص23 انتقل محمد من البيت ،المكان المنغلق الآمن ،والعمل الباعث على الراحة ،إلى مكان أشد انغلاقا ويحمل البؤس والشقاء وهو السجن .
وإذا بحثنا عن مكان منغلق آخر بعيدا عن البيت ،فسنجد أمامنا مكان عمل ناهد الذي نقل إلينا السارد شكله العام مع تعتيم الصورة الدقيقة له “نظرت إلى الفراغ الحلزوني الصاعد بين السلالم الغافية في هذه الإضاءة المعتمة،مختلطة برائحة عفنة ،كان الضوء منتشرا في أرجاء المكتب وأشعة الشمس تكتسح المناضد والرفوف وتُلقي ضوءا آخر عند الباب الموارب ، فبانت السجلات وأكداس الأوراق بدون ترتيب واضح ،جلس خلف إحدى المناضد الموضوعة قرب الشباك محاسب عجوز ..”خلفاوي (2004)ص6 إنه مكان ضيق يسهل فيه رصد العلاقات بين من يحويه ،وقد أغفل العديد من القطع التي تؤثث المكاتب عادة واكتفى بذكر ما سيكون له علاقة مباشرة بشخصية البطلة ناهد .
ذكر السارد أمكنة منغلقة أخرى، ولكن ليس لها قيمة من حيث إدارة الأحداث فهي هامشية ،وقد ذكرت لتوسيع دائرة الحدث ،كالمستشفى والصيدلية وبيت أم سمية وحضانة الأطفال ،وربما تكون أهمية هذه الأمكنة الهامشية في تكوين صورة الفضاء الروائي الذي يسع كل الرواية منذ الحدث الأول حتى النهاية.
ثانيا الأماكن المفتوحة :
ينطلق السارد من الأماكن المنغلقة إلى المفتوحة ،حيث الشارع والحدائق والمنتزهات ، ولا نلحظ كبير اهتمام منه للأمكنة المفتوحة كما المنغلقة ، فهو يقدم المكان المفتوح بعد خروجه إليه من المكان المنغلق ويكون أول وصف له عندما خرجت ناهد مع أخيها في اليوم الأول لعملها “بعد عبور جسر الأحرار من الكرخ تظهر عند جهة اليسار نهاية شارع النهر المطل على نفق يغور تحت هبوط الجسر الذي يشق عند التقائه بشارع الرشيد إلى ممرات عديدة ، وتبدو منطقة حافظ القاضي بأبنيتها القديمة مستديرة بمواجهة زحمة المرور، استسلمت ناهد لهذا المنظر وهي تترجل من واسطة النقل …”خلفاوي (2004)ص6 ينقل السارد شكل المكان المفتوح من مكان مغلق ” واسطة النقل ” وهو في وصفه له يخلق الامتداد المكاني في ذهن القارئ ، ويربط بين مكانين منغلقين بعيدين عن بعضهما ( البيت والعمل )فناهد تخرج من مكان منغلق ( البيت ) إلى آخر منغلق ( العمل ) بواسطة منغلقة (سيارة نقل ) عبر مكان مفتوح ( الشارع ) وما فيه من سيارات وأناس مختلفين وربما منتزهات وحدائق ومبان كثيرة .
تلك الصورة التي قدمها لنا السارد عن المكان لاشك أنها بصرية ،المراد منها وعي القارئ بالمحيط العام للمكان .
رافق وصف الشارع ناهد مرات أخر، فهو يمثل وسيلة مهمة لربط الإنسان بالحياة ، وكأن خروجها من البيت أو العمل، هو خروج لمصافحة الحياة والانطلاق نحو أفق أرحب .
وتعد الحديقة مكانا مفتوحا آخر ، وهي في هذه الرواية حديقة البيت على صغر حجمها ، ترمز إلى انفلات الإنسان من سطوة ما حوله ، فالسارد أحيانا يربط بين المكان المنغلق ( البيت ) و(حديقته ) “عندما تجلسان في الصالة على الحديقة المزروعة بورد الرازقي ،وثمة شجرة زيتون ونباتات متسلقة تستدير صاعدة إلى الأعلى شتلت حديثا ،قرب الممر تدلت المروحة من السقف تدور بهدوء …”خلفاوي (2004)ص3 فالبيت والحديقة متداخلان حسب السارد فهي المتنفس بنباتاتها وهوائها المفتوح على السماء ، واللافت أنه يذكر الحديقة كلما كانت نفسية الشخوص حزينة، أو في طريقها للحزن ، وكأنها مثوى الأحزان ، خاصة وهو يصف شجرة الكالبتوس وانعكاس حالتها على الشخصيات “عندما تمضي الشمس نحو الأفول ، ويمتلئ ممر البيت الخارجي وكذلك الحديقة ، بأوراق السدرة المتيبسة ويظهر التغير على شجرة الكالبتوس الباسقة في الطرف القصي ، فتبدو داكنة بلون يميل إلى السواد ،فتركت تأثيرا حزينا على الفتاة ..”خلفاوي (2004)ص4 وبعض الأماكن المفتوحة تؤدي إلى الموت”كان الباب الموارب في نهاية الممر يطل على فسحة واسعة ،زرعت بشجرة الكالبتوس ، وثمة غرفة صغيرة طليت بلون أبيض ، قبعت وحيدة بين الأشجار ،نظرت ناهد إلى لوحة صغيرة خط عليها ( غرفة الموتى ) “خلفاوي (2004 )ص9 هذه الغرفة أيضا مكان منغلق ، كئيب يستدعي لدينا أفكارا حزينة مؤلمة، ربما ممزوجة بشئ من الخوف .
ويربط السارد بين المكان المفتوح وذكريات الماضي “كانت تستمر في الجلوس لساعات طويلة ، تحدق في الحديقة الصغيرة التي تحبها أمها،فقد كانت تعتني بها كثيرا ، وتزيل العشب الذي مافتئ يظهر كل مرة …”خلفاوي (2004)ص11 فالحديقة مبعث للحزن ،لأنها منفتحة على الماضي المشبع بالألم، ونجد هنا الربط بين الزمن والمكان ، فالأم صاحبة الحديقة بموتها صارت ترمز للزمن الماضي ،والحديقة مكانا ينبعث من الحاضر .
لم يوغل السارد في وصف الأمكنة ،بل أوجز ، واكتفى باختراق الشخوص لها ،وأمدها بالحيوية لإبعادها عن نمطية الجمود ببث الحركة فيها، فكانت من عوامل فهم الشخصيات والأحداث بها ، فضلا عن جعله المكان (البيت) لتجمع العائلة ،ومن ثم الانطلاق منه إلى بقية الأمكنة المفتوحة والمنغلقة .
ولنا أن نلخص الأماكن التي ذكرها السارد ودورها في الرواية :
المكان المنغلق المكان المفتوح
1- البيت : وفيه ذكر لثلاثة بيوت / بيت والد ناهد/بيت ناهد / بيت والدة سمية الحديقة : حديقة بيت والد ناهد / حديقة بيت جارة ناهد /
2- مكان عمل ناهد الشارع
3- السيارة / الحافلة المقبرة
4- المستشفى
5- الصيدلية
6- السجن
7- الحضانة
من ذلك نخلص إلى أن المكان المنغلق أكثر حضورًا في الرواية ، مما يدلل على أن الحياة تدور في فلك الانغلاق ، والانفتاح عابر،وأماكنه أقل من عدد أصابع اليد الواحدة ، كما نرى أن علاقة وثقى تربط بين المكان والزمن فبيت أهل ناهد يربط بين الماضي حيث ذكريات الطفولة ، والحاضر حيث حياتها بعد طلاقها ، ويمثل بيت الزوجية الماضي بما يحمله من فرح ومعاناة أما مكان العمل فهو الحاضر والمستقبل ، ويمثل السجن حاضر أخيها الأليم ومستقبله المغيم ،وتأتي بقية الأمكنة هامشية الوقع ، يتمحوردورها في ربط الأحداث والأمكنة ببعضها .