في مجموعتِه الرابعة “شخصٌ صالحٌ للقتل” الصادرة عام 2011 عن دار الياسمين، يمارسُ شريف صالح دردشةً ساحرةً مع شيطانَيْن من شياطينِه: اللغة والواقع، وبمكرٍ متمرس ينقلُ لنا تلكَ الدردشةَ بطزاجتِها المتبلةِ بتمرُّسِ قاصٍّ راسخ، متخذًا جانبًا محايدًا من الحَكْي يختبئُ خلفَ ستارِ السخرية، السخريةُ التي تخبطُ وجهَكَ من أولِ نَصٍ في المجموعة يعِدُ الكاتبُ فيه بجائزةٍ لأفضلِ مقالٍ يكتبُهُ قارئ وأسوأ مقالٍ لا يكتبُه قارئ، ثم يندمجُ مع شيطانِه أكثر فيكشفَ تفاصيلَ “اجتماع سري للآلهة” لا ينعقدُ ولا ينفضُّ حولَ رغبتِهم المقدسة في خَلْقِ إنسانٍ من مادةٍ راقية ورغم إلهيتهم المتينة إلا أنهم قليلو الحيلةِ في مواجهةِ حيرتِهم المقدسة أيضًا، فليسَ من اللائقِ أن يخلقوا إنسانًا من المطر والطين كما اعترضَ الإله الشاب “الجديد في كار الألوهية“: ” طين ومطر! كأننا سنخلقُ ضفدعًا يصدعنا بنقيقه الغبيّ” وتكتشف بعد أن تتجاوزَ تلك الجملةَ الخطيرة أنها تعبرُ عنا ببلاغةٍ شديدة، وتكتملُ السخريةُ المرة ” من السهل أن تصنعَ خبزًا لكن من الصعبِ أنْ يكونَ ناضجًا” الحقيقةُ مرةً أخرى تتفجرُ من ثنايا السخرية، وفي “رائحة البول“ يسكن البطلُ في شقةِ صديقِه ويعاني أزمةً وجودية في احتمالِ رائحةِ بولِه وبعد محاولاتٍ للتغلبِ على تلك الأزمةِ بالمنظفات بعقلانيةٍ لا تجرحُ مشاعرَ صاحب الشقة يُفاجَاُ به يطردُه لأنَّ رائحةَ بولِه لا تُحتمَل “ما أدهشَني أكثر اعترافه الغريب بأنه منذ مجيئي إلى الشقة لم يستعمل الحمام إلا نادرًا، ولكي يدلل على صدقِ كلامه أخرج من تحت سريرِه علبة صغيرة كان يتبول فيها بانتظام“.
ويعيشُ أبطالُ شريف صالح في عزلةٍ تنبضُ بها نصوصُ المجموعة، عزلةُ الطبقةِ المحكومة وعزلة الطبقة العاملة وعزلة الساكن وعزلة الصاعد في الأسانسير وعزلة المحتضر وعزلةُ الإنسان في مواجهة كل شيء، رغم سهولةِ التخلصِ من هذه العزلة في بعضِ الظروف إلا أنَّ أحدَهم لا يكلفُ خاطرَه بالالتفافِ إلى أقربِ شخصٍ منه ليصنعَ معه رابطًا يُخففُ من وطأتها بل يسيرُ الإنسانُ بغباءٍ بالغ وحده ففي “الطاولة رقم 7 في جروبي” ورغم أنه “تقريبًا يوجد الآن عشرة رجال من أعمار مختلفة على طاولات مختلفة”
فإنهم ظلوا كذلك بل وزادت حدةُ الأمر حين “مشت المرأة بين طاولات الرجال الوحيدين بكبرياء ولا مبالاة، قاصدةً طاولة بعينها كأنها تألفها من زمن، وضعَتْ منفعلة حقيبةَ يدِها على الطاولة رقم 7 في الركن البعيد ثم جلست وانهارت مباشرة في نوبة بكاء” الكلُّ في عالَمِه الخاص لا يصنعُ شيئًا سوى مطاردة هواجسِه والاستسلام لها. وحين ينجحُ أحدُ الشخصيات في كسرِ ذلك الحاجز في “قلادة القرصان” ويأخذُ خطوةً جريئة نحو شخصٍ آخَر فإنه يأخذُها على حذر ويتراجع عند أولِ بادرةٍ للاتصال المباشر بينهما، ويبلغُ الأمرُ ذروتَه المستفزة في “الصلاة بإمامين” في تلك الشعيرة الدينية التي يتوحدُ فيها الجميعُ خلفَ إمامٍ واحد، يتقدمُ إمامان للصلاة و “هذا قرأ سورة قصيرة وركع، والآخر قرأ سورة طويلة وسجد ، وتبعثر المصلون بين راكع وساجد ، واقف وجالس ومحتار في القرار“.
يمسكُ شريف صالح بخيوطٍ بالغةِ التعقيد ليتمكنَ من التلاعبِ بالزمن بين فرعونيٍّ وأسطوريٍّ وآنيّ، وتسعى ببراءةٍ شديدة أنْ تخلُصَ إلى حكمةٍ عامة أو رابطٍ يصِلُ القديمَ بالحديثِ لكنَّ الشَّرَكَ الأكبرَ أنَّ القاصَّ لا يفعلُ ذلك بل هو يحكي فقط ويقتطعُ من الواقعِ مشاهدَ قد تبدو سطحيةً أفقية لكنَّ التأملَ والتأني في تلَقِّيها يكشفُ عمقًا ما يختلفُ مداه باختلاف زاويةِ الرؤية.
مجموعة قصصية مختلفة، تطفو فوق بحر القص بانسيابية تسرقك حتى تلتهم أكبر قدر منها دون الشعور بالوقت، منها نصوص قصيرة تكاد لخفتها تضاهي منشورًا على فيسبوك تمتصُّ السردَ من نشراتِ الأخبار ومانشيتات الصحف أو تغريدات السوشيال ميديا ومنها نصوصٌ طويلة تنشئُ عالَمَها الخاص من عدمٍ خالص لكنْ لها ثقلٌ ضاغطٌ تأنيبًا لكلِّ ما هو قبيحٌ في العالَم، السخريةُ التي تلبسُ رداءً بديعًا من اللغةِ الساحرة تحسمُ الإجابةَ لصالحِ شيءٍ ما غائب “عندما تكبُرُ الدمعةُ لا تصبحُ نهرًا بل قارورة سرية” تلك الدمعةُ التي تتضخمُ لتصيرَ غلافًا جويًا يضمُّ الجميعَ في بالونتِه المنتفخة، لكنْ تَنوُّعُ الحزنِ يغرزُ تناقضَهُ الحادّ بين الرومانسية المحلقةِ والواقعِ المنغمسِ في وقاحتِه، كما تتمتعُ نصوصُهُ بشفافيةٍ تناسبُ ثورةَ يناير المجهضة التي نُشِرَ العمَلُ إبَّان أحداثِها المتتابعة، “الراجل اللي ورا عمر سليمان” يستأثر وحده بخمس قصص شديدة التركيز وعلاقةُ الكاتب بشخصياتِه وقارئِه تشغلُ جانبًا من القَصّ والرغبةُ المكبوتة تستأثرُ بعددٍ لا بأسَ به من النصوص، وننتبهُ بعدَ الفراغِ من قراءَتِها أنَّ الواقعَ أحيانًا يكونُ أكثرَ تأدبًا من الأدبِ ذاتِه حين يُرَى بعينٍ موهوبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وشاعر مصري