1- القسمُ الأولُ (تحوُّلاتٌ – رؤيةٌ تتبعُها محاولةُ قتلٍ، ثُمّ تسليمٌ بالعَجز):
هو تعبيرٌ عن وظيفةِ الشِّعر كما يراها هرمس، وهي الرؤية، أو محاولةُ الرؤيةِ بالأحرى .. فإذا كان ديوانُهُ الأولُ رحلةً لرسولِ الآلهةِ (هرمِس)، والرحلةُ هي في جوهرِها رؤيةٌ مسترسِلةٌ أو تتابُعٌ كثيفٌ من الرُّؤى، فإنَّ أولَ ما يبدَهُنا في الديوان الثاني هو اسمُه .. الكلاشنكوف ليس فقط سلاحًا للهجوم والتدمير والقتل، بل هو في المقام الأولِ أداةٌ للرؤية (وهذا إذا وضعنا في اعتبارِنا وظيفة الناشنكاه وسنّ نملة الذبابة) .. هذا القسمُ متابعةٌ للرؤيةِ، لكنّها ليست الرؤيةَ وحَسبُ كما في الديوان الأول، بل هي رؤيةٌ تنطوي على رغبةٍ في القتل وهاجسٍ بالتدمير ..
في القصيدة الافتتاحية التي لها عنوانُ القسم كلِّهِ (تحوُّلات)، لا يستطيعُ الشاعرُ أن يرى ذاتَهُ إلاّ بعد أن يرى رفاقه ويستعرض مصائرَهم التي آلُوا إليها، فيقول: “تحول كل منهم لحيوان .. هذا تحول لكلبٍ وصار وفيًّا وضالاّ .. ذاك تحول لحصانٍ وصار يُركَبُ ويعرَق .. هذه تحولت لفراشةٍ وطارت بعيدًا بعمرها القصير .. تلك تحولت لسمكةٍ ولم تغرق في البحر …..” ثُم بعد استعراض مصائر أخرى يقول: “تحول كل منهم لحيوان .. كنا يائسين تمامًا من بشريتنا .. تحولوا وودعتهم وظللت هنا .. أسمع أخبارهم وأشيخ” ..
وفي القصيدة التالية في نفس القسم (العملُ جارٍ على بناءِ الدمعة)، أيضًا لا يستطيعُ أن يرى نفسَهُ إلاّ من خلالِ موقفٍ افتراضيٍّ تُصَوَّبُ إليه فيه رصاصةٌ من الخلف، فيتوحَّد مع من يصوّب وينظرُ إلى نفسه من خلالِ منظار الكلاشنكوف، حيث يقول في مطلعِها: “أحيانًا، أودّ لو تأتي الرصاصةُ من الخلف، مِن كلّ القاذورات التي حينَ ولّى عهدُ طفولتي، ما عدت أعبث فيها، الآن، في أمكنةٍ يولّي فيها العقلُ هاربًا، أتبادلُ مع القَدَرِ، نديمي، كؤوسًا مليئةً بالسمّ .. هناكَ أيضًا، يجري العمَلُ على بناء الدمعة .. ليسَ مِن الخسارة، الخسارةُ لا تبني الدموع .. ولا مِنَ الحبّ أو حتّى الألم .. حتى زيارات الموت المفاجئة، لا تكسرُ صخور العين .. وصخور العين تلكَ، التي يستطيع فيها الحالم أن يرى نفسه، ممكوسةٌ مِن ملوكٍ عُورٍ خالدين“. هنا (صخورُ العَين) – وهو تركيبٌ لم أشهد له مثيلاً في تاريخ البلاغة العربية المعروف بالنسبة لي على الأقل – هي تَجَلٍّ من تجلّياتِ الرؤية مع منظار الكلاشنكوف والمطياف الإلهي Divine Kaleidoscope (وهو عنوانٌ قصيدةٍ غير منشورةٍ لهرمس، ربّما يكونُ عنوانُها بين عناوين قصائدهِ جميعًا الأكثر تعبيرًا عن رؤيتِهِ لوظيفةِ الشِّعر من حيث هو رؤيةٌ مسترسلةٌ متزامنةٌ مستوعبةٌ لا تشغلُها تفصيلةٌ عن تفصيلةٍ فيما يقتربُ من الرؤية الإلهية) .. وهذه الصخورُ تنكسرُ لتُبنَى بها الدمعة .. يستبعدُ هنا أسبابًا قد تتبادرُ إلى الذِّهنِ لبناء الدمعةِ فلا يبقى إلاّ أنَّ صخور العين تنكسرُ من تلقاءِ ذاتِها بما يتواردُ عليها من المرائي .. فالدمعةُ بما تقتضيهِ من تشوُّهٍ في الرؤيةِ هي بناءٌ من المرائي المختلفةِ لا يَلوي على شيءٍ ولا يهدُفُ إلاّ إلى سقوطهِ الذّاتيّ ..
في الثالثة (الفوضويّون في المدينة) يقول: “يومٌ عاديّ، يبدأ باعتقالاتٍ وقَتل وكذب .. خبرٌ عن موت كلاشنيكوف اللعين .. في شارع فؤاد المتصالب على الجحيم أو شارع الجلاء .. أتناول الإفطار وأتحدّث عن التخلّي عن المَفْهَمَة التقليدية وأحوال الوعي“. هنا أيضًا الرؤيةُ تبدأُ من الآخرين في اعتقالاتهم وقتلهم وكذبِهم، لتنسحبَ على الذاتِ التي يفجأُها خبرُ موتِ أحد رسُل الرؤيةِ والقتل وهو (ميخائيل كلاشنكوف) – الذي مات في ديسمبر عام 2013، وهو مخترعُ السلاح الأشهر، الذي ظلّ يكتبُ الشِّعرَ منذُ طفولتِهِ إلى أن ماتَ بعد أن جاوزَ التسعين – فتتحدثُ الذاتُ عن أحوال الوعي وطرحِ آليةِ الإدراكِ البادئةِ من رؤيةِ الآخرين، لاسِيَّما أنَّ (كلاشنكوف) قد مات! يقولُ هنا أيضًا: “أنا مُخلصٌ لكِ. بينما تشُقِّين البراري خلف الأسود والأفيال، تزداد كآبتي، لأن غلالة الحب الرقيقة تنزاح عن عيني، فأنزل من البيت، وأدور في جحيمٍ من طبقةٍ واحدة، مدببٌ كطلقة، وفوضويٌّ كالجنود في ساعة الراحة“. هنا تُذَكِّرُنا القصيدةُ بأخرى في الديوانِ الأول هي (مقاطعُ لصاحبةِ القُبَّة) بصفتِها جزءًا من رحلةٍ، لكنّ المرتحِلَ هنا لا يرى فقط، بل يرى ويهدمُ ما يراهُ رغمًا عنهُ، فهو يدور في جحيمٍ معجونٍ ببعضهِ (في طبقةٍ واحدةٍ)، وهو متوحِّدٌ مع وسيلته للهدم فكأنه هو الطلقةُ التي ستقتل ما يراهُ في فوضويتِها كالجنود المتحررين من قيود الهدف في ساعةِ الراحة .. يقولُ أيضًا: “الفوضويون بالمناسبة في هذه المدينة، يزورون –كما أفعل– ضريح الرفاعيّ.” .. ربما أيضًا لارتباطِ الرفاعيةِ بصيدِ الثعابينِ، فهم يَرَونَ فيَقتُلونَ كالشاعر.
في قصيدة (إلى مارثا) يقولُ: “مكبلًا جئتكِ وخمورٌ غريبةٌ تلوّع روحي .. لم أكن ذا عيونٍ لأرى ولا كنتُ ذا مساءٍ وأصدقاء .. كحيةٍ تاهت عن فم الملك الذي خرجت منهُ ورأتكِ، لا لم تَرَكِ، فقط الدم الحار في عروقكِ أخرجها من النهر، حَوَّلَها لشبلٍ صغيرٍ يموء عند قدميك، يسنّ مخالبه بسكاكين مطبخِك“. هنا يبدأ برؤيةِ نفسِهِ إزاء الحبيبةِ وينفي عن نفسِهِ الرؤيةَ لأنه بدأ برؤيةِ نفسِه .. يغيبُ منظارُ الكلاشنكوف هنا لأنه لا آخرين ليقتُلَهم، وتحضُرُ الحيّةُ التي يسعى الرفاعيون في القصيدة السابقة لاصطيادِها، فهو هنا يتوحَّدُ مع أهدافِ قتلِهِ السابقةِ في حضرة الحبيبة، ويتحوّلُ معها إلى كائنٍ بريءٍ لا سُمَّ له .. ثُمّ يقولُ: ” كل الحكاية أنني أستطيع عندما يعلو الماء وتنقلب العيونُ أن أرسو على عينيك كفكرةٍ لا تهم أحدا .. أن أنزل بعد ذلك من عينيكِ كدمعةٍ لا أستطيع ذرفها من الضعف.” .. بل هو يتوحّدُ مع الدمعة التي لم يستطع ذرفَها والتي بُنِيَت من مرائيه كما يتوحد مع من كان ينوي قتلَهم .. مرحلةٌ مختلفةٌ من الرؤية.
في (طبيعة الجنود) نرى قصيدةً تتذرّعُ ببلاغةِ الرؤيةِ الأولى الكامنة في نصوص ما قبلَ هذا الديوانِ حيثُ لم تنكسر بعدُ صخورُ العينِ ولم تُبنَ الدمعةُ التي هي رؤىً مشوَّشَةٌ مختلطةٌ تفرضُ تعابيرَ مشوَّشةً مختلطةً، ولذا تنطوي هذه القصيدةُ على بنيةٍ دراميّةٍ متصاعِدةٍ ربّما كانت الأكثرَ تماسُكًا وتفاؤلاً بين قصائدِ الديوان .. لكن عنوانها متماهٍ مع منطق الرؤية من خلال منظار الكلاشنكوف، رؤيةٌ يعقبُها قَتلٌ، فهو هنا يقتلُ مَن يخافون الرؤيةَ، ولذا عنونَها بطبيعة الجنود، كأنه يُذعِنُ لهاجسِ الهجومِ والتدميرِ في النهايةِ رغمَ التحليقِ في لذةِ الرؤية الخالصة أوّلاً ..
في (تكوين)، يبدأ بوضعِ مربَّعاتِ الـلغز التي تصوِّرُ الآخرين في مَراءٍ مختلفةٍ قبل أن يُقرِّبَ عدسةَ منظار الكلاشنكوف من واحدٍ بينهم ويسترسلَ في وصف حركتِهِ متماهيًا معه: “كدَّسوا نجومًا على التلة وضجُّوا .. لم يكن هناك سلامٌ كافٍ في الحديقة .. كانت أسوارٌ من أشجارها تحيط كل صوب .. والثعابين الحكيمة بلباقتها تتحدث عن الهول” ثُمَّ: “كان سكرانًا يهرول بين بارات .. كانت خيوله عرقانةً تلهث .. من العادات صنع حلمًا ونوّم فيه الأرواح .. وأمسك سوطه وشد العِنان .. وخلّف في الحديقة معانيَ لكل الألغاز“. الآخرون المبدوءُ بهم يشبهونه فهم ينظرون إلى النجوم ويكدسونها، أما الثعابين المشار إليها في (الفوضويون في المدينة) بصفتها هدفًا لصيد الرفاعية فهي تظهر هنا كحكماءٍ لَبِقِينَ، فهي هنا مجردُ مربَّعٍ في الـpuzzle، محايدٍ حيادَ التكوينِ المتعالي على الأحكام القيميةِ وانحيازاتِ منظار الكلاشنكوف، لاسيَّما أنَّ العنوان المكوَّن من مفردةٍ واحدةٍ عاريةٍ من الإضافة يوسّعُ الحقلَ الدّلاليَّ بالضرورةِ، فيؤصِّلُ الحيادَ أكثر.
في (روعة السقوط) نجدُ مفردةَ (النجم) للقصيدة الثالثة على التوالي، حيث يقول: “قد يسقط نجمٌ على الطريق .. ينفُضُ ملابسَه، يتكئُ على ذكرياتٍ فلكية، يتلثمُ ويمضي .. حين يراه المارة يتعجبون .. إلى أين يذهب هذا النجم؟ يسألون بعضهم .. يدخلُ السُّوقَ القديمةَ ويتجهُ لحانةِ التُّجّار .. كأي ضائعٍ يجلسُ ويَسكَرُ بعينين مُشرَعَتَين على الجحيم“، ثُمَّ “يكشفُ لوهلةٍ نقابه .. لو أن رجلًا حوى في قلبه جحيمًا كاملةً، ألن يبيعَ الكَونَ كُلَّهُ لو سنَحَتْ له الفرصة. يقولُ. ثم يتحسسُ مسدسَهُ ناظرًا في عيونِ مَن حوله“. هو يتوحَّدُ مع النجم ويرثي سقوطه في سخريةٍ مريرةٍ ويتماهى مع انفتاح عينيه على الجحيم/ عالَم الرؤية، ويصبحُ للنجم مسدَّسٌ يتابعُ به فعلَ الرؤيةِ مشفوعًا بفعل القتل كشاعرِنا.
في (خُبز الغريب) لا يظهَرُ فعلُ الرؤيةِ إلاّ في محاولةِ الشاعرِ كتابةَ قصيدةٍ داخلَ القصيدة وإعلانه تحوُّلَ مسار القصيدةِ الداخلية هذه، حيثُ يقولُ: “أيامٌ طويلةٌ تمر عليَّ في زحامٍ مروريّ .. أقرأ كتبًا قديمةً وجديدة“، ثُمّ: “يتحدث السائق معي عن كل شيء .. عن مؤامراتٍ سياسيةٍ وأحوال فقراء“، ثُمّ: “أتمشى حول العربة قليلًا لتمضية الوقت” ثُمّ: ” أُخرِجُ عُلبتي الصفيحَ وأشربُ مُحاولًا كتابةَ قصيدةٍ .. عن سربِ غزلانٍ يشاهد عطشانًا يُحتَضَرُ .. فأكتبُ عن إلهٍ اسمُهُ الغريبُ/ يُروَى أنّ الغريبَ يَزورُ القُرَى ليلًا .. يسأل القرويين السقفَ والعَشاءَ .. وأنَّ القريةَ التي لا تستقبلُهُ تغيبُ في الحربِ .. خبزٌ أسود على الإفطار .. خبزٌ أسود على العشاء .. السيد الغريب أتانا ولم نُضَيِّفْهُ .. الدمُ يَطفَحُ من الآبار .. والصفصافُ يَبكي على البيوتِ الخالِية.“. لا يوجدُ سِربُ الغزلانِ إلاّ فيما قبلَ الكتابةِ الفعلية للقصيدة الداخلية .. لِذا فالشاعرُ هنا لا يرَى من الآخَرينِ إلاّ السائقَ الّذي تنتفي عنهُ صفةُ الآخَريةِ المثيرةِ لعدائهِ، فهو فقط منوطٌ بإبلاغِهِ وِجهةً مجهولةً بالنسبةِ لنا، فالأمرُ زحامٌ على صعيدِ الطريق وعلى صعيدِ أفكار السائق، ولأنَّ فعلَ الرؤية غائبٌ، فقد تفرّغَ في نهايةِ القصيدة للكتابة داخل الكتابةِ، فكانَ هو نفسُهُ الإلهَ الغريبَ الذي كتبَ عنهُ، يُنفِّذُ عنه إرادةَ التدميرِ في القُرى التي لا تستقبلُه .. فخُبزُ الغريبِ هنا كطلقة الكلاشنكوف، ينبني كلاهُما على الرؤيةِ، لكنّها هنا رؤيةٌ مُستَسِرَّةٌ استسرارَ الإلهِ، حيثُ القتلُ هادئٌ خفيٌّ لطيفٌ لكنَّهُ أكيد .. خبزٌ غريبٌ وقصيدةٌ غريبة!
في (إلى ماثيو نيل) يتكررُ وصفُ عالَم الرؤيةِ بالجحيمِ ووصفُ الرحلةِ فيه بالدورانِ كما في (فوضويّي المدينة)، وكما فيها أيضًا؛ يحدثُ هذا مع توجيهِ الخِطابِ لرفيقٍ حميمٍ هو هنا الصديقُ كما أنه في الأُولى الحبيبة، كأنّ عالَم المرائي يُصبحُ بالضرورةِ جحيمًا في حضرةِ من نستريحُ لحضرتِه، لكنّ الدورانَ هنا في الجحيمِ يحدثُ برُفقةِ الصديقِ وليس بمَعزِلٍ عنه كما يقول: “هيّا نتجول كشبحين .. هيا نتجول في مُتحَفِ ذكرياتِنا .. الإنسانُ عاريًا مِن المفاهيمِ يقعُ في غَمْرٍ من الرعب، .. نتجوّل، شبحان زائران من أرضٍ مستمرّةٍ في الاحتراق .. كأننا أخذنا العَهدَ أن ندور مرّة أخرى في الجحيم“. ولِذا هنا فقط يَفتحُ كُوَّةً على جحيمِهِ الخاصِّ فيما يُشبهُ امتيازَ الصّداقة على الحُبّ حيثُ يُنهي القصيدةَ: “أفتح كوّةً على جحيمي الخاص، ومن الداخل أضع في يديك رسالةً محترقة“.
نصطدمُ في قصيدة (صانع السُّيوف) بنَصٍّ كأنّهُ يحدثُ داخلَ نَصّ (إلهٌ اسمُهُ الغريبُ) الذي هو بدَوره نَصٌّ داخل قصيدة (خُبز الغريب) التي تركناها منذُ قليل .. فالقريةُ التي رفضَت إيواء الغريب غابَت في الحرب ودفَن أهلُها آخِرَ الجَرحَى، والآنَ يشهدون موتى أحياءً يَجتاحُون القريةَ: “أسرابٌ من الخيول تجتاح القرية .. تركبها أنصافٌ سفليةٌ لجُثَثٍ .. ربما كانت لِجُباةٍ دخلوا قريةً ظمآنةً بعد الحرب .. الأكيدُ أنهم لم يأتوا مِن أجلي .. أنا صانعَ السيوفِ العجوزَ .. الذي أمضى حياته في دَقِّ الموتِ والحياةِ على السَّندانِ” ثُمّ يقولُ لاحِقًا: “كلُّنا وقفنا في الساحة نشاهدُ هذه الغارةَ الكئيبةَ بصمت .. وكانت ذكرياتُنا تُنادينا من مقابرِ القريةِ حيث دفنّا آخِرَ الجرحى العام الماضي .. يالها من أيام“. هُنا فِعلُ المشاهدةِ جَماعِيٌّ ولا يترتَبُ عليه قتلٌ أو تدميرٌ لأنه واقِعٌ بعد القتل والتدمير، لاسِيَّما أنَّ الرّاويَ الذي أمضى حياتَهُ في دَقِّ الموتِ والحياةِ على السَّندانِ يَشهَدُ الآنَ ما جَنَت يَداه.
في (ملاحم تنتهي بخَيبات) نجدُ الرؤيةَ حُلميةً فلا يترتَّبُ عليها تدخُّلٌ في القتل: “أحلم بملوكٍ يتحطمون وقادةٍ يتراجعون بخوفٍ بكبواتٍ وخيانات .. العالم ينتهي في أحلامي“. وهنا الجحيمُ كائناتُهُ لها قُدرةٌ مرعبةٌ فكأنها تتناسِلُ ولا تنتهي، حتى أنه يُسَلِّمُ لها في خيبةٍ ويبجِّلُها في سخريةٍ مريرةٍ ويُنشئُ ملاحمَ تنتهي بخيبات: “دعوني أبجل من جديدٍ كائنات الجحيم ذات الألف يد .. وأنشئ ملاحم تنتهي بخيبات“.
في آخر قصائد قسم (تحوُّلات) وهي (الدِّرع)، نجدُهُ يوجِّهُ الخطابَ -للقصيدة الثانية على التوالي- إلى الجمع، بعد (دعوني أبجِّل)، وهو شكلٌ من أشكالِ القَبولِ بوجودِ الآخَرين المرئيِّين عبر منظارِ الكلاشنكوف والتخلّي عن إرادةِ قتلِهِم، حيثُ يقولُ في المطلَع: “إذا ما عبرتم النّهر الرمادي الكئيب .. وبينما تخترقون الأقصاب الشبحية .. اتركوا الموتى الذين سيوقفونكم .. ملوِّحِين بأصابع عظمية“. وهُنا يُجَرِّدُ من نفسه آخَرَ هو بطلُ القصيدةِ الذي يقفُ في وسط المدينةِ يَلعنُ الطالِعَ الذي طرحه هناك: “لا تندهشوا! فجُلُّ ما يُهِمُّ هؤلاء الحدادين الكونيين أن تحملوا الدروعَ التي سيختارون من بينها الدرعَ الأليَق بالرجلِ الواقفِ في وسطِ المدينةِ الذي تحولَت حياتُه مؤخرًا إلى تفادٍ دائم“. ففي جحيم الرؤيةِ تُختبَرُ هذه الدرعُ غيرُ محددة الهُويةِ ليتدرعَ بها: “فإذا مرّت الدرعُ المُختارةُ في جذوةِ الجحيمِ ولم تَنهَب النارُ لَمَعانَها اكتُبوا عليها اسمَهُ الحزينَ واهبِطوا بها إليه .. ستجدونه هناك في وسط المدينة وقد وَجَّهَ العدمُ سيفَهُ إلى صدرِه“. هو يتحولُ في نهايةِ فصل (التحوُّلات) من مهاجمٍ متحفِّزٍ يرى ليقتُلَ، إلى موقف المُدافِع الذي يُجابهُ سيفَ العدمِ محاولاً الحفاظَ على ما يعتبرُهُ وُجودَهُ فقط .. ولأنه لا فعل رؤيةَ هنا، ولأن الجحيمَ حاضرةٌ رغم عدم وجود الرفيق، فهو متوارٍ خلفَ الدرعِ الغامضةِ الأسطوريةِ الخارجة من (هادس) كدرعِ (أخيل) في الإلياذة.
2- القسمُ الثاني (كلاشنكوف – خفوتُ الرؤية واشتعالُ الصوتِ ثُمّ فسادُ الاثنَين):
في أولى قصائد القسم الثاني، والمعنونة (حَولِيّة)، ثَمّ احتفاءٌ بتفتُّحِ ريحانةٍ حَوليةٍ في زجاجة مياهٍ معدنية: “تربيتةٌ على صبر الغريب .. ريحانةٌ تتفتح في زجاجته .. سيسميها باسمٍ بعيد .. قد تموت .. ستُذَكِّرُه برائحةِ الحديدِ والرمْل“. هي بدايةُ فصلٍ ينزاحُ معه جوُّ الرؤيةِ المُفضِيَةِ إلى القتل .. ثُمّ يقول: “عندما أولد في المرة القادمة .. لن أكون مقاتلًا ككل مرة“. كأنها بدايةُ الانفِكاكِ من قبضةِ طبيعةِ الجُنود وتربُّصِ المُقاتِل .. ثُمّ إن عنوانَ القصيدةِ مأخوذٌ من جِذر (حَوْل)، مثلُهُ في ذلك مثلُ القصيدة الأولى من القسم الأول (تحوُّلات)، وهو ما يَشي بتحوُّلٍ آخِذٍ في الحدوثِ، ويُنذِرُ بتحوُّلٍ آخرَ وشيكٍ، تؤكدهُ جُملتُه عن الريحانة: “قد تموت” .. ففي الأمر نبوءةٌ بأنَّ ماهو فيه الآن -وما سنكتشفه مع قراءة القسم الثاني- هو أيضًا مَرحَلِيٌّ ومؤقَّت.
في (كَلَيلَةٍ صيفيةٍ في مدينةٍ نامية) يقول: “دُرنا في موالد الأولياء، نبحثُ عن ريشةٍ سقطت من جناح عفريتة“. فالدورانُ هنا في الموالدِ بدلاً من الجحيم، حيثُ الرؤيةُ مصحوبةٌ ببحثٍ، وهو يخاطبُ جماعةً ينتمي إليها ويجد ذاتَه وسطها، لكنه يعودُ منفردًا بحُزنِه في النهاية: “وأنا بعيدًا عن الصلاة واللهو أمرِّرُ شريطَ الأيامِ على قلبي، أقولُ كلامًا مُكسَّرا: إنني لا أبالي بالمستقبل والأمّية والعَرَق. إنني متبطلٌ وحزين، كليلةٍ صيفيةٍ في مدينةٍ نامية“.
في قصيدة (كلاشنكوف) يرى الشاعرُ الحقيقةَ “مُدَرَّجَةً كترمومتر” دون محاولةٍ لقتلِها حيث الرؤية متحررةٌ من الكلاشنكوف، مما يجعلُ عنوانَ القصيدةِ مُراوِغًا، وهي القصيدة التي يرِدُ فيها عنوانُ الديوانِ حيثُ يقول: “كلاشنكوفي الحبيب .. أيتها السيمونوفا الطيبة .. أرواح الألمان التي أخذتِها تضيءُ لَيلَ المُعَسكَر .. عندما حاولت تعلُّمَ الألمانيةِ حدثَت الثورة .. أريد تعلُّمَ لغةٍ جديدة .. وأنا صرت أسألُ غوغل عن الأسلِحة .. على الشعراء أن يتعلموا الرماية“. كأنه يَرثي مرحلة الرؤية من خلال الكلاشنكوف، ويَرثي معها أرواحَ من أخذهم الكلاشنكوف، ثُمّ ينكفئُ على البحثِ بأثَرٍ رَجعِيٍّ عن عالَم الأسلِحةِ، ويُوصِي الشعراءَ بأن يَحذُوا حَذوَه ويتعلموا الرؤية المشفوعةَ بالقتل أو بمحاولتِه .. ونجدُ هنا كذلك إرهاصًا بمرحلةٍ مُقبلةٍ هي محاولةُ الكلام من خلال تعلُّمِ لغةٍ جديدة، وهي التي سنصادفُها في القسم الثالث من الديوان ..
في (تهريب) ثَمَّةَ نزوعٌ شَكلانِيٌّ في كتابة القصيدةِ كلمةً في سَطرٍ لتوافقَ العنوان: “أصبتُ بالعدم أقصد البَردَ، انتصف الليل .. سأذهبُ للمرور على طاقم الحَرَس .. سأنظر للبدر وأهرّبه“. فهنا رؤيةٌ محضةٌ منطويةٌ على لذةٍ خالصةٍ تدفعُهُ لتهريب المنظورِ إليه بدلاً من قتله ..
في (فُمّ الماسورة) قفزٌ من منظار الكلاشنكوفِ حيثُ الرؤيةُ، مباشرةً إلى فم ماسورته حيثُ تاريخُ القتلِ، لكنّ القتلَ هنا فعلٌ مَلومٌ يندمُ عليه: “نحن فوهات الرشاشات الصدئة .. مليئون بالرؤوس المقطوعة من قبلُ .. بتواريخ الصلب وهوان الجمال“. وهنا انتهاءٌ للرؤيةِ، وحضورٌ للقتلِ -رغم الندمِ على ما حدثَ منهُ بالفعلِ- من خلال مفرداتٍ لا تطرَحُ معنى الرؤية القبلية: “أود أحيانا أن تتحول يدي لسكاكين أذبح بها كل هؤلاء التعساء/ أود لو يُذْكَى الحريق العظيم .. الهادم الباني .. لو يولد الفأس .. ويسري سمه في الآفة التي نهبتنا“. إنه انقضاءُ الرؤيةِ حيثُ: “أمزجتنا المهترئة تراصت أمام الكواكب التي احتلها البشر .. والنجوم ملت عيوننا“.
في (الجنودُ في القَيلولة) ليس ثَمَّ رؤيةٌ إلاّ من خلالِ أبطالٍ معيَّنين أو غيرِ معَيَّنين يذكرُهم الشاعر، وسمعُهُ فقط هو الذي يعملُ على وجهِ اليقينِ، وليس من سمِعَ كمَن رأى، ففي هذه القصيدةِ تتحولُ المرائي إلى أشباحٍ: “وأنا أعُدُّ الأشباحَ التي تَدخُلُ وتَخرُجُ مِن الجدارِ متوعدةً إيايَ بالموت”، ولا تترُكُ لإدراكِ حواسِّهِ إلاّ أصواتًا يُعمِلُ سمعَهُ في تعقُّبِها أو أفكارًا تسبحُ في خاطرِهِ، لتنتقلَ المرائي إلى عالَم الموجودِ بالقوّة لا بالفعل، حيثُ تبدأ القصيدة: “الوقتُ يَئِزُّ كمِروَحَةٍ قديمة .. الجنودُ في القيلولة .. أفكرُ في غاباتٍ من البامبو تجتاحُ المُعَسكَرَ .. ولا تُسَرِّي الفكرةُ عنّي أكثرَ من مَدَارِ الجَدْيِ حَيثُ يَحمِلُ (ميلَرْ) قضيبَهُ فوقَ كتفِهِ مُحَدِّقًا في النجوم” .. فـ(هنري ميلر) هو الذي مازالَ يُحَدِّقُ في النجومِ، ويطرحُ بروايتِه الأشهرِ (مَدارِ الجَديِ) تسريةً محتملَةً عن شاعرِنا في محنةِ اختفاءِ رُؤاهُ، وهي تسريةٌ ضعيفةٌ، تمامًا مثل تلك التي تطرحها فكرةُ غاباتِ البامبو المُجتاحَة .. ولم يُغلِق بابَ الرؤيةِ ومِن ثَمَّ القتلِ إلاّ قيلولةُ الجُنودِ الذين يَرَونَ فيَقتُلون، فـ(طبيعةُ الجُنودِ) هُنا في سُبات .. أمّا البطلُ غيرُ المعَيَّن فهو مَن يقولُ عنه: “لذكرياتٍ رماديةٍ تُعَذِّبُ بطلًا كئيبًا يراقِبُ المدينةَ وهي تعبُرُ انعكاسَهُ شِبهَ الشفافِ على زُجاجِ باب المِترو“.
في (أشجارٌ مُحايِدَة) استرسالٌ لحاسة السمع (تنبضُ المدينةُ في الأسفلِ بهمهماتٍ شيطانية/ صرير الحشرات/ أسمعُ خشخشةَ حَيّةٍ تتجهزُ للشتاء)، وعودةٌ للحَيَّةِ منذ غيابِها في القسم الأول وتحوُّلاتِها من هدفٍ يصطادُهُ الرِّفاعِيَّةُ إلى هدفٍ يتوحدُ معهُ في حضرةِ الحبيبةِ إلى ثعبانٍ حكيمٍ لَبِقٍ، وهنا أصبحَت كيانًا عابرًا يُبَدِّلُ جِلدَه .. لا يراهُ ولكنه يسمعُه .. توارَى الأعداءُ تمامًا وبقيت منهم آثارُهم متمثِّلةً في الصوت المنذِر من بعيدٍ، وهو ما يتجاوبُ وبيئةَ الحيادِ في القصيدة.
في (خفيفٌ كريشة) نجدُ استرسالَ السمعِ، لكنّه هنا لصوتِ طلقاتِ الكلاشنكوف نفسه، والقتلُ موجَّهٌ صَوبَ الكلماتِ لا الناسَ ولا الأشياء: “هذه قصيدةٌ مكتوبةٌ على صوت الكلاشنيكوف .. لم يبق فيها رصاصةٌ إلا وقَتَلَتْ كلمة .. أو جَرَحَتها عميقًا حتى العدم“. فهو مستوىً أعلى من القتل، هدفُهُ أكثرُ تجريدًا، لِذا فهو خفيفٌ كريشةٍ، فموتُ الكلماتِ هو الخفيفُ لا موتَ الجنود الذي يستنكرُ خِفَّتَه أو يتساءلُ عنها في بداية القصيدة: “الجنود يتماوجون كحقلٍ من القمح .. من قال إن موت الجندي خفيفٌ كالريشة؟“.
يسترسلُ السمعُ في (عُطلٌ في اللاشيء) في سطورٍ مثل: “حقول شبرامنت تئز في ساعة العشاء/ أسمعُ فحيحَ ثعابين/ لكن القصيدة تسرق من السكونِ صراخ إسفلتٍ مُضاءٍ باللون الأصفر“. وفي استرسالِ السَّمعِ حضورٌ لآثارِ قتلٍ قديمٍ، لكنّه كان قتلَ مخابيلَ لأنفسِهم، رُبَّما هم جنودٌ قُدامَى أفنَوا أنفُسَهم في لعبة الرؤية المشفوعةِ بالقتل ليَخلُدُوا خلودًا زائفًا مثيرًا لسخريتِهِ كشُهداء: “كروانٌ بعيدٌ يُرَجّعُ أصواتَ أرواحٍ مُقَطَّعةً لِمَخابيلَ دخلُوا التُّرعَةَ بأسمالِ جنودٍ قديمةٍ وخرجوا منها مُنتَحِرين بهالاتٍ .. تغطي أجسادَهم طبقةٌ طُحلُبيةٌ خضراء“.
في (ليس هذا مقصِدي تماما) يحضُرُ الصوتُ حضورًا صاخبًا في سطورٍ مثل: “كتيبةٌ من الضائعين في رأسي .. يُجَرِّبُون أصواتَهم في صيد الطيور/ بينما يتشاجر موسيقيون عسكريون بأبواقٍ نحاسيةٍ منبعجة“، ثُمَّ نكتشفُ أنَّه حضورٌ منتهِكٌ أصاخَ لهُ الشاعرُ سمعَهُ حتى كفرَ به لأنه لا يُبقي كرامةً ولا إرادةً لامرأةٍ محرومةٍ من الصوتِ، في تتابُعٍ سينمائيٍّ رائعٍ وكثيفٍ من المشاهِدِ الصارخةِ التي إن كُتِبَت بطريقة السيناريو المُحكَمَةِ لم يَحتَجْ كاتبُها لِخَطّ سطرٍ واحدٍ من الحِوار: “ في زمنٍ مضى كنت أعبُدُ الشمسَ .. الآن تُجَرجِرُني اللعينةُ وراءَها بالسلاسلِ مُحيطةً نفسها بضباطٍ حانقين .. لأن جنديًا قال حاضرٌ يا سيدي .. مكانَ صديقِهِ الذي قفزَ سُورَ المعسكر .. ليَحضُرَ وضعَ الأيادي في الحِنّاء في قريةٍ بعيدةٍ بأقصاب .. يَحدُثُ أن يَتناوَبَ فيها رجلان على فلاحةٍ خرساء“. في نهايةِ القصيدةِ يتنصَّلُ هرمِس من الصوتِ ومقتضياتِه: “ليس هذا مقصدي تماما .. أردتُ أن ألتقطَ ريشةً مِن على الأرض .. وأضعَها في حذائي“.
في (نُوحٌ مَرَّةً أُخرى)، يَحدُثُ ذلك الاضطرابُ في أدوارِ الحَواسِّ الذي يَشي بفَيَضانٍ حَدَث، حيثُ تعودُ الرُّؤيةُ لكنَّها هنا دون وسيطٍ آلِيٍّ، بل نجدُ (نُوحًا) الذي يجلسُ على الترعة يبيعُ الشايَ للمقاتلين يرى بعيونِ حيواناتِه، وهي رؤيةٌ غامضةٌ يتساءلُ عنها هرمس: “مُشكِلة! ماذا يَرى يا تُرَى؟”، ونجدُ سَمعًا وكلامًا مُستَرسِلَين في حوارٍ متماسِكِ البِنيةِ لكنَّهُ لا يُشيرُ إلى شيءٍ ذي معنىً خارجَهُ، فهو مُغرِقٌ في العبثيّة رغمَ تماسُكِهِ الشكليّ، وهو حوارٌ منطلِقٌ من دُعابةٍ ضمنيّةٍ يتخيلُ فيها الشاعرُ أنّ بائعَ الشايِ الفقيرَ هو النبيُّ نوحٌ عليه السلام .. وبعد نهاية الحوار يدخُلُ الشاعرُ معسكرَهُ حيثُ: “المباني صفراءُ ومن طابَقٍ واحدٍ غالبًا” مما يُذكّرُنا بوصفِه للجحيم ذي الطبَقِةِ الواحدة الذي يدورُ فيه في قصيدة (الفوضويون في المدينة)، ثُمّ يقولُ: “أجدُ مِصراعَ صدَفةٍ متآكِلاً على الرصيف وسطَ الأشجارِ الفقيرةِ .. الطوفانُ مَرَّ مِن هنا بالفعل” .. إنه نوحٌ التاريخيُّ وقد تخلّى عن دورِهِ لنغرقَ في الطوفانِ دون أن يَدعُوَنا إلى الفُلك ..
في (كلبٌ، شَصٌّ، وتعاسة)، يوجد الصوتُ بكثافةٍ دون مَراءٍ إلاّ النَّزرَ اليسيرَ: “يعلو هديرُ الليل .. جنودٌ يتنادَونَ على الأسوارِ .. صريرُ حشراتٍ صحراوية .. نُجومٌ متحررةٌ من عواميد النور تكادُ تَئِزُّ .. أُشَغِّلُ نوكتورن لشوپان“. لذا يُسهِبُ في الحديثِ عن العدمِ في غيابِ الموجوداتِ: “يشبه العدمُ إصابتَكَ بالرَّشح/ الزهورُ عديمةُ رائحة/ الطعامُ عديمُ مذاق/ حتى شتائمُ السائق اللعينِ وتلك التي تَخرُجُ من فمِك لا تحملُ أيَّ معنىً يُذكَر/ قد تتفهَّمُ في العدم قاتلَكَ والفاشية والعبث والقبح وجثث حميرٍ تتعفن على شط ترعة/ في العدم تحمل ذاكرةً عن ذكرياتٍ مفقودة“. ولأنّ الأمرَ أصبحَ عَدَمًا، فهو يقولُ عن حالِ الشِّعرِ معه: “يصبح الشعر كلبًا عجوزًا رابضًا عند قدميك/ لا يتبعك. إنه في ركنه الدافئ. يَعُدُّ الأيامَ الباقية.”. رابضٌ حيثُ لا موجوداتٍ على وجهِ الحقيقة ليواكبَها، فليس ثَمَّ إلا الأصواتُ/ الذِّكرَيات.
في (طُغاةٌ ضَجِرُونَ وتُعَساء) تَفسَدُ الرؤيةُ والصوتُ معًا حيثُ يصلُ القسم الثاني إلى نهايته ويقول: “عناوين الجرائد البليدة التي تُغَبِّشُ العينين/ الرجلُ الثالثُ الذي يجلسُ على الخطِّ بينَكَ وبينَ حبيبتِك/ أحلامُكَ المُراقَبَةُ بالكاميرات”، ولِذا تُسلِمُنا التعاسةُ هنا إلى القسم الثالث.
3- القسم الثالث (هادئٌ وعَديد – مِن محاولةِ الكلام إلى اكتشافِ الخَواء)
في (هادئٌ وعَديد) وهو عنوانُ القسم الثالثِ وقصيدتِهِ الأولى، يُسكِتُ الشاعرُ صوتَ الكلاشنكوف الذي يسكنُ داخِلَهُ ردًّا على خفوتِ أصواتِ الكائناتِ التي احتلّت عالَمَه كأعداءٍ في القسم الأولِ ثُمّ لم تبقَ منها إلا الأصواتُ في القسم الثاني، ويُسَمّيها (أصدقاءه الخياليين)، ويعتبرُ طبيعةَ الجنديِّ فيه مجردَ فزّاعةٍ ذاتِ رأسٍ بلا ساقٍ كاليقطين، مهشَّمةٍ لأنها غيرُ قادرةٍ الآن على رؤيةٍ أو سماعٍ وإن كانت تطمحُ إلى الحديث: “أصدقائي الخياليون خفتت أصواتهم/ ليسوا أصدقائي/ أقول إنهم أصدقائي لأجمّل موقفي قليلًا/ إنهم بذيئون ورومانسيون/ يعرفون أن بداخلي فزاعةً بملابس جنديٍّ ورأسٍ من اليقطين المهشّم قليلا/ أجرجرُها ورائي وأوبخُها إن تحدثَت”. هو هنا يسعى لاكتسابِ لغةٍ جديدةٍ لتبدأ مرحلةُ الكلامِ بعد خفوت الرؤية والسماع: “ما أريده حقًا هو الذهاب بعيدًا .. أو تعلّم لغةٍ جديدة/ سأمشي وأتكلم”. وهو هادئٌ هنا لسكوتِ الرؤيةِ المثيرةِ لاضطرابِه والصوتِ المُثيرِ لحيرته وذكرياتِه، وعديدٌ لأنه سيركز في إيقاع رفاقِهِ العديدين، أو لأنَّهُ حزينٌ كعديد النائحاتِ، وما العديدُ إلاّ تَعديدُ محاسنِ المَرثيِّين، فهو لن يتكلَّمَ إلاّ معدِّدًا مباهِج الكائناتِ/ المرائي/ الرفاقِ/ الأصدقاء الخياليين الذين ذكرَهم .. يقولُ في نهاية الفقرة الأولى من القصيدة: “سأتجاهل الإيقاعاتِ الأشملَ وأركِّزُ في إيقاعِ رفاقي/ سأكونُ هادئًا وعديدا/ أقصد سعيدًا/ هذا ما يُضنيني فقط”.
في الفقرة الثانية يقول: “على الطريق التي تؤدي إلى البحر/ ثمة فرسانٌ بسيوفٍ ودروعٍ ثقيلة/ وخيولٌ تَخُبُّ بحوافِرَ عريضةٍ/ مِن أحدِها تتدلى سلسلةٌ تنتهي بأسيرٍ/ عندما تقتربُ أكثرَ/ ترى نيتشه ذلك الشاربَ الألمانيَّ العظيمَ/ داخل قميصٍ مربوطِ الأكمامِ يَصرُخُ: كيف ستتخلصون مني؟” .. كأنه امتدادٌ للمشهد المعروف تاريخيًّا باعتباره المشهد الأخير لـ(نيتشه) في إيطاليا قبل اقتياده لمستشفى المجانين .. تماهى هرمس هنا مع نيتشه فيما بعد الجنون وبعد تساقُطِ الأصدقاء الخياليين، وهو يحاول الآنَ الكلام بألمانيته (اللغة الجديدة التي حاول تعلُّمَها) التي أخبرَنا في (كلاشنكوف) أن الثورةَ قامَت حين حاولَ تعلُّمَها، فكأنَّهُ يُحاولُ من خلال عفريت نيتشه المستحضَر هنا أن يستدعيَ قيامَ ثورةٍ ما تُعيدُ إليه حواسَّهُ أو تُعيدُ ترتيبَها ورُبَّما تُنبِتُ ساقًا لرأسه اليقطينية حتى تستطيعَ الرؤية والسماع من جديدٍ، ولِذا نراهُ اختزلَ نيتشه في شاربِهِ المعروف الذي لا يُمكنُ أن يَنبُتَ إلاّ لرأسٍ حقيقيةٍ، لا لرأسٍ من اليقطين! أو أنَّ الشارِبَ هنا من فعلِ الشرابِ، وهو احتمالُ نذخَرُهُ لقراءةِ القسم الرابعِ والأخير من الديوان .. يشفعُ الشاعرُ هذا المشهدَ بقوله: “لم نعد قادرين على إقناع ذواتِنا/ أننا عندما وجدنا ريشةً في الطريق ولم نلتقطها/ فإننا ضَيَّعْنا عُمرًا كاملًا من الطيران”، وفي هذا عودةٌ لختام قصيدة (ليس هذا مقصدي تماما)، كأنه بعد محاولة استحضار الرأس التي ترى وتسمعُ وتتكلمُ، تذكَّرَ صخبَ الصوتِ وكراهةَ الرؤى، وكيف كان مقصدُهُ قبلَ قليلٍ أن يتماهى مع الريشةِ الطائرةِ بأن يضعَها في حذائه بعد أن يتنصَّلَ من كل علائقِ الحِسّ. يختمُ الفقرةَ بمقطعٍ: “وعمومًا لا نتبادل الرسائل الجادة أنا وأصحابي، وغنيٌّ عن الذكر/أنني فقدتُهُم الواحدِ تِلوَ الآخَر/ كما تَفقِدُ ذاتُ الأجراسِ جُلُودَها“. هو هنا يتماهى من جديدٍ مع الحيّةِ كما فعلَ في حضرة الحبيبةِ في قصيدةِ (إلى مارثا)، وهي حميميةٌ لافتةٌ للنظرِ مع كائنٍ مشهورٍ بعدوانيتِهِ كالحية، وهي حيّةٌ يتبدّلُ دورُها في الديوانِ كلَّ حِينٍ، حتى ينتهيَ هنا إلى وصفِها بذاتِ الأجراسِ وكأنه يشيرُ إلى أصواتِ أصدقائه الخياليين بهذه الأجراس، كما يُشَبِّهُهُم صراحةً بجلودِ الحية، فكأنما كان يتدثّرُ بأصواتِ أصدقائه هؤلاء، وهاهي الأصواتُ خفَتَت، فاختفى الأصدقاءُ وبقيَ وحيدًا، وهو ما يتجاوبُ بشكلٍ ما مع نهاية قصيدته الافتتاحية (تحوُّلات) حيث يراقبُ مصائرَ الأصدقاء ويشيخُ وحدَه ..
في الفقرة الخامسة يعودُ القتلُ إلى الصورةِ، لكنه قتلُ الذاتِ: “وعندما تكون مكسورًا ومقيتا/ هناك من يُناوِلُكَ مسدسا”، ويحدثُ هذا ليتآكَلَ الكلامُ الذي حاوله طويلاً في الفقرة السادسة: “السكينٌ يراقصُ أمعاء أغنية/ الكلماتُ تَقضِمُها جماعةٌ من شغّيلة النمل”، ولتتحرَّر الثعابينُ محتفيةً بوجودِها الخاصِّ بعد انهيارِ عالَمِهِ الذي تحولَت فيه من دَورٍ إلى دَور: “ومِن عينيَّ ستسيلُ ثعابينُ أحلامي مُتحررةً مِن الوَهم/ لادغةً بعضَها حول جُثّتي”، فيما يشبهُ تَبِعةَ ارتكابهِ قتلَ الذاتِ في الفقرة السابقة .. وثَمَّةَ جُملةٌ هنا تسبقُ سطرَ الثعابين المتحررةِ، سنعودُ إليها لاحقًا حين نستعرضُ القسم الرابع والأخيرَ من الديوانِ لأنَّ لها دلالتَها الخاصة: “سأقعي مسمومًا من الخمرة”.
في الفقرة السابعة من القصيدة ذاتِها يظهرُ صوتٌ كأنه لأحد الأصدقاء الخياليين يتكلمُ بعد موتِ الذاتِ الشاعرة: “سيسرُّكَ أن تأتيَ معنا. يقول رجلٌ بمظلةٍ ومعطف. سيكون عليك أن تتخلى عن كل ذكرياتك و أفكارك …..”. والوِجهةُ هنا غيرُ محددةٍ، تذكِّرُنا بلاتَحَدُّدِ الوجهةِ أينما ذَكَرَ السائقَ في القصائدِ السابقة .. هو إيغالٌ في الضياعِ يمتدُّ إلى ما بعدَ الموت .. وإضافةً إلى الجملةِ التي أشَرنا إليها ولم نتناولها بالقراءةِ في الفقرةِ السابقةِ نُراكِمُ مِن هنا سطرَين آخرَين ندَّخِرُهما لقراءة القسم الأخير من الديوان، وهما: “وعندما يُمسِكُني الضيقُ من رقبتي أَجرَعُ كأسًا من الويسكي دفعةً واحدة/ الآن سأسمعُ الموسيقى وأستعيدُ مَشهَدَ مُثَلَّثٍ من الإوَزِّ يقطعُ ترعةً خضراءَ ببُطء”. فلنتذكَّر هذين السطرين!
في الفقرة الثامنةِ مشهدٌ على الأبَدِ بعد إيغالِ الذاتِ الشاعرةِ في الموت، يبدأ بالصورة التراثية الإسلامية لبداية الخلود في قوله: “هُنا، يُضجَعُ الموتَ ككبشٍ فيذبحُ، وبعدهُ يهيمُ أحياءٌ في الحياة إلى الأبد”. وفي الأبدِ يظلُّ مَن رأَوا فقتلوا أو حاولوا القتلَ مثلَهُ يدُقُّونَ بابَ الجُنونِ الكاملِ دون أن يُفتحَ لهم: “والجنونُ بابٌ يدقهُ القنّاصة”. وفي الأبدِ كذلك يعودُ الثعبانُ في دورٍ غريبٍ مُرَكَّبٍ في قوله: “والمكان، هُنا، شوك تاجٍ، وصولجانٌ يدخلٌ من الاستِ/ ويخرجُ مِن عيونِ المَلكِ كثعبانٍ يتبعُ فراشةَ الحكمة/ يأكل فراشة الحكمة/ يجلس ملفوفًا على عصا الراعي الذي يصرخْ/ لا تبذروا خرابكم في روحي ولن أقتل ربكم كل غروب”. الثعبانُ هنا خارجٌ من عيونِ الملِكِ وليس من فمه كما في (إلى مارثا)، ربّما لأنَّ الثعبانَ صولجانٌ متحولٌ، والصولجانُ مكانٌ يُرى بعيون الملِك! وحين يأكل الثعبانُ فَراشةَ الحكمةِ يلتفُّ على عصا الراعي متماهيًا معها .. هي صورةٌ أتركُها لغيري ليفُكَّ شفرتَها، أو لتبقى ساحرةً بتحوُّلاتِها هذه مُتأبِّيَةً على محاولاتِ القراءة الواعية!
في الفقرة قبل الأخيرة من (هادئٌ وعديد)، يصرّحُ الشاعر بأنه على الحقيقةِ لم يبرَح مكانَهُ الذي أشارَ إليه في ختام قسم (تحوُّلاتٍ)، وكأنَّ ما يفصلُ الموقِعَين من ديوانِهِ لم يكُن إلاّ سكرةً طويلةً، فهو واقفٌ في وسط المدينةِ ينتظر وصولَ درعه المسبوكِ في نيرانِ العالم السفليّ كدرع أخيل: “وأنا عمومًا هنا أنتظر أن تَصِلَني دِرعِي من هادِسْ”!
في القصيدة الثانية (شواخص) من قسم (هادئٌ وعديد)، لا نجدُ أفعالَ رؤيةٍ ولا سماعٍ ولا كلامٍ إلاّ كلامًا مؤجَّلاً من نمطٍ خاصٍّ لأنه كلامٌ مع الذاتِ العَلِيَّةِ ينتظرُهُ الجنودُ الشاخصونَ بكياناتِهِم لا بمرائيهم وأصواتِهم: “جنودٌ مصابون بالهستريا يترددون عليّ/ مصابون بالفصام العسكري يحتاجون لراحةٍ من الطوابير/ لكي يحاوروا الله”. ولأنه حضورٌ كثيفٌ لا حضورٌ مجازيٌّ بالمرائي والأصواتِ، فإنّ الشاعرَ لا يحتملُهُ فيقول: “في الليل أحلم أن جنديًا يطعنني بابتسامةٍ خبيثة/ في النهار أتجاهل كلَّ شيء/ فداحةَ كلِّ شيء”. ووسطَ هذا الحضور/ الشُّخوصِ يأتي (دريدا) في الفقرة التالية ليُعَلِّمَهُ أن الأشياءَ والكائناتِ مهما بدَت شاخصةً فإنها تنحَلُّ إلى اختلافٍ مُرجِئٍ أثيريٍّ كدُخان الغليون، وليس ثَمَّ إلا الخواءُ وراءَ كلِّ هذا: “يجب أن أنهي القصيدة لكي أوقّع أرانيكَ عَرضٍ على مستشفى/ وأن ألمَحَ ديريدا مُلَثّما كلِصٍّ أسطوري، نتقابل، يُعلِّمُني تدخين الغليون“، وهكذا ينحلُّ الجنودُ بشخوصِهِم الكثيفِ إلى أوراقٍ (أرانيك) لا تحملُ إلاّ رموزَهم الطيّارة!
بعد ذلك نرى تجلِّيًا للخواءِ وانهيارِ اللوغوس – الذّين يكتشفُهما بعد مقابلته (دريدا) – في أخبارِ تحولات السلطةِ السياسية: “أدخّن وألزم المنصّة، أقرأ الأخبار، أشاهد السُّلطة تتسرب وتتجمع وتحولُ مجراها كنُهَيرٍ مؤقت” .. وهو عندما يحاول الكلام بعد كلِّ هذا لا تواتيه اللغة بالطبع، ومِن أين له بها والأمرُ خواءٌ وهاويةٌ مُظلِمَةٌ بلا قَرار؟!: “نتردد أنا وأصدقائي– ما بقي منهم– على مقاهٍ وبارات/ وأحاول – صَدِّقوني– أن أتحدثَ/ مُشكِلَتي في اللغةِ عويصةٌ، أنا أهربُ منها باستمرار“.
في الفقرة الخامسة من (شواخص) يُلَخِّصُ رحلتَه من التعلُّق باللوغوس إلى إيغالِهِ في الذهابِ ولاعودتِه فيبدأ: “من البداية وبالترتيب: مُتَعلّقًا بحروفٍ عربيّةٍ مُفَخّمة نزَلْتُ البَحر، بكُرهِ النّفري الصحراوي للبحر” إلى قوله: “وسكرانًا ومفلسًا، بكيتُ كثيرًا، كان هذا منذ سنوات، ظللتُ سكرانًا، لم أعد مفلسًا .. لم أعد أبكي .. لم أعد أبدًا“.
4- القسمُ الرابع (نحنُ دُمَى السّاقي – التحقٌّقُ من الموقِف والتسليمُ للطريق):
أخيرًا نصلُ إلى القسم الرابع والأخير من الديوان (نحنُ دُمَى الساقي) .. هنا تعبيرٌ عن الموقفِ الوجوديِّ للشاعرِ بعامّةٍ في الفقرة الافتتاحية: “نحنُ دُمَى الساقي، نستطيعُ المشيَ والضحك والبكاء، لو تَرَكَنا نموتُ، لو أمْسَكَنَا يُصَبّ الخَمرُ، ويبينُ الوَجَعُ؛ بخلاف ذلكَ نحن غابرون، عيوننا مقلوبةٌ، وأسماعُنا واقفة“. كأنَّ الخمرَ هنا نفَسُ الرحمةِ الذي هو عينُهُ سِرُّ شقاءِ الوجودِ والكبَدِ الذي تذكرُهُ الآيةُ: “خُلِقَ الإنسانُ في كَبَد”، فإذا كان ذلك كذلك، كان السّاقي هو الخالِقَ جلّ وعَلا، وهو ما يجدُ صداهُ في أدبيّاتِ الصوفية وشِعرِهم .. وهي فقرةٌ تتجاوبُ بشكلٍ ما مع رؤية (باركلي Berkeley) -أحد ممثِّلي الفلسفة المثاليةِ الإنجليز في القرن التاسع عشر- لحقيقة الوجودِ انطلاقًا من مثاليةِ (فِشته Fichte)، فالشجرةُ موجودةٌ لأنّي أنظرُ إليها، لكنّي إن أغمضتُ عينيَّ عن مَرآها وأغلقتُ سَمعِيَ عن حفيفِها تظلُّ موجودةً، وليس هذا إلاّ لأنّ اللهَ الموجودَ بحَقِّ ينظرُ إليها .. كما تتجاوبُ مع الآيةِ الكريمة: “إنَّ اللهَ يُمسِكُ السماواتِ والأرضَ أن تَزولا، ولَئن زالتا إن أمسكَهُما من أحدٍ من بَعدِه” .. ثُمّ إنّ الفقرةَ تتجاوبُ مِن بعدُ مع جُملتِه الأولى التي ذَخَرناها من الفقرة السادسة من (هادئٌ وعَديد): “سأُقعي مسمومًا بالخمرة”، فنفَسُ الرحمةِ/ سِرُّ الكَبَدِ هو ما يقتلُ الشاعرَ بالضرورةِ في لحظةٍ ما، وكذلك مع السطرين الآخَرَين “أجرع كأسًا من الويسكي دفعةً واحدة/ الآن سأسمع الموسيقى وأستعيد مشهد مثلثٍ من الإوز” من الفقرة السابعة من نفس القصيدة، وهو ما يجعلُ من (نيتشه) وقولِهِ عنه إنه (شاربٌ ألمانيٌّ عظيمٌ) رجلاً أفرطَ في شرابِ نفَسِ الرحمةِ/ سِرِّ الشقاءِ هذا ..
أخيرًا يَظهرُ نوحٌ في نهاياتِ القسم الأخير وقد توحَّد معه الشاعرُ في حُلمٍ وكابدَ حيرتَهُ بين القيامِ بدوره التاريخيِّ والتنصُّلِ منه إزاءَ مجيء الطوفان: “أحلم أني نوحٌ، وأن كبيرَ العسكر يساومُني لآخُذَهُ معي وأن الدهماءَ تغزو القلعة حيث أصنعُ شايًا للجنود” إلى قوله: “وأنظرُ لعمق هاويةِ السماء متى ستغورُ وينقلبُ وزنُ الأفلاكِ وفي انتظاري تسقطُ ملابسي وأتعرى عضوًا عضوًا مع كل ركنٍ يكتملُ من أركانِ الطوفان” .. ينفصلُ الشاعرُ بعد ذلك عن شخصِ نوحٍ في الفقرة قبل الأخيرة حيث يقول: “كرواناتٌ وأرانبٌ ونمورٌ وثعابينُ تغادرُ رأسَكَ في طابورٍ طويلٍ نحو السفينة. نوحٌ بحُلَّةِ السهرةِ وكأسٍ من الأبسينث يوزعُ ابتساماتٍ على الركاب. وأولادُهُ يَجمَعُونَ ثَمنَ التذاكرِ مِن الذئابِ الآن” .. هنا نوحٌ يحسمُ القيامَ بدورِهِ بعد أن غادرَه شبحُ الشاعرِ – فكأنَّ الحيرةَ من نصيب هرمس وحدَهُ – وهو يحتسي الأبسينث التي هي ضربٌ من نفَس الرحمةِ/ سِرّ الشقاء لتُعينَهُ على مواصلةِ الرحلةِ، وقد تحوَّلَ في هذا المشهدِ الأخير إلى رأسمالِيٍّ عتيدٍ في الظاهرِ، حتى أنه يوزع الابتسامات ويرتدي الحُلة الفاخرة وأبناءه يجمعون ثمن التذاكر، حتى من الذئاب!
في الفقرةِ الختاميةِ يقول: “وعموما لا ينبح الكلب في ليل الصحراء، لا يجد مسافرين أو تائهين أحياء”، وهي المرةُ الـ(لا أعلمُ كَم) التي تَرِدُ فيها لفظةُ عمومًا في الديوانِ، بظلِّها الذي اكتسبته من الدارجة المصريةِ حيثُ تفيدُ الرضوخَ للأمر الواقعِ، المتحقق بالفعلِ فيما آلَ إليه أمرُ نُوحٍ في الفقرة السابقة، حيث يتصالحُ مع كلِّ ما جرَى ويَقبَلُ القيامَ بدورِهِ في ثيابه الرأسمالية الجديدة ويستعينُ بخمرةِ خالقِهِ في ذلك .. وتُختَتم الفِقرةُ والديوانُ بقوله: “وخارج الأسوار حيث القصر، يمسك جبارٌ مِشعَلًا بيدٍ و جَرَّةَ ماءٍ بيدٍ ويستعدُّ لأكبر سقوطٍ في التاريخ.“. هنا السّاقي الذي أمسكَ الدُّمَى بخمرتِهِ/ مائه طويلاً، نراهُ لأولِ مرَّةٍ ممسكًا بجَرّةِ ماءٍ كأنه يستعدُّ لإغراقِ دُماهُ بذاتِ ما كان يُمسِكُها به: الماء/ الخمرة/ نفَس الرحمة/ سِرّ الشقاء ..
نحنُ إزاءَ ديوانٍ ليس عادِيًّا إذا قصَدنا بالعاديِّ ما تقحَمُهُ العينُ في يُسرٍ، وشديدُ العادِيّة إذا قصَدنا بالعادِيّةِ القِدَمَ، فالموضوعُ المُستعصي على اكتناهِ القارئ لأولِ وهلةٍ (ورُبَّما لثاني وثالثِ وعاشِرِ وَهلَةٍ) يتعلَّقُ بموقفِنا من الوجودِ وما نستطيعُ فعلَهُ وما لا نستطيعُ منه فِكاكا.. إلاّ أنه مَصوغٌ صياغةً مُربِكةً في تعقُّدِها وجِدَّتِها، حيثُ لا يمكن أن نَقطعَ بالحدود الفاصِلةِ بين وعي الشاعر ولاوعيه في زخم نَصٍّ كهذا .. وفي النهايةِ، لا يسعُني إلاّ أن أُقِرَّ بأنَّ هذه قراءةٌ متواضعةٌ بين قراءاتٍ أخرى أظنُّها مُحتملَةً لهذا الديوان شديد الغِنى والقَسوة ..