تمر مشاهد الطريق خارج نافذة السيارة. حقول عباد الشمس مليئة برؤوس جافة محنية في حزن بعد أن فقدت زهوة الأصفر المتألق. تتذكر لوحة فان جوخ في متحفه في أمستردام وكيف كان جمالها في الطبيعة أجمل كثيرا من الصور. عاودها ثانية ذات الاحساس الذي كان يغمرها كلما تذكرته، وكأنه طفل تحمل قلبه الكثير، وترغب في أن تخبئه داخل قلبها بعيدا عن قسوة الدنيا. كانت الحقول وكأنها تشاركها الحزن هي الأخرى. انتهت حدود الحقول الصفراء ومرت بعدها أشجار غابة طويلة مصفوفة بصرامة وانتظام شديد وكأنها مزروعة وليست طبيعية. كانت جميلة نفس الجمال الأوروبي الأبيض الأشقر، لكن رغما عنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الابتسام لهم أثناء ركضهم السريع بجوار النافذة المفتوحة وهي تخبرهم أن النخيل سيظل دوما هو الأقرب لقلبها، وأن الملامح الفرعونية لرأس نفرتيتي هي نموذج الجمال الأقرب لها حتى مع ابيضاض عينها. تنعكس الابتسامة على شفتيها مرة أخرى ورأسها لا تزال مستندة على السيراميك الذي بات دافئا من تلامسه مع وجنتها. تصل السيارة لوجهتها وتتوقف المشاهد عن تتابعها خارج النافذة، لكن لم تصل هي بعد ولم يتوقف تتابع أفكارها التي تشعر أمامها بحيرة وضآلة.
منذ سنوات طويلة أعلن ابن خالها أنه يتمنى لوصغر حجمه وتحول ليصير نملة حتى يشاهد ما الذي يفعله النمل داخل جحوره الضيقة. ضحك الكبار من قوله وردوا بأنه “طول عمره حشري”. الآن وقد كبرت وصارت تعشق مشاهدة الأفلام الوثائقية تتمتم أنهم ما كان يجب عليهم الضحك من كلامه بل كان أحرى بهم أن يدعوه يشاهد الكاميرات وقد اقتحمت الجحور ووفرت عليه عناء التحول لحشرة صغيرة. تتذكر قوله وهي تستدعي مشهدا آخر، وهي تقف محشورة داخل ممر ضيق مظلم في أحد المباني الحكومية العتيقة. أمامها وخلفها مزيد من الأجساد المكدسة والأيدي المرتفعة تلوح بأوراق تجعدت بفعل العرق رغم الشتاء أو أيدي تتحرك جيئة وذهابا أمام وجوه أصحابها بديلا عن المراوح المفتقدة والتهوية المنعدمة في ذلك الجحر البائس. تعتذر للنمل. جحوره أفضل حالا وسكانها أحسن نظاما.
تخرج للطريق وهي تمني نفسي بالصعود إلى سطح الأرض مرة أخرى لكن القبح المعماري وكآبة مدينة نصر تجعل سطح الأرض وباطنها يستويان. لكم تكره هذا المكان بشدة. أي نصر هذا الذي يتجسد على شكل علب أسمنتية كالحة تتآكل جوانبها من نشع الصرف؟! تسرح بأفكارها في عمارة الكوربة التي تحبها وعمارات وسط البلد القديمة. أيام كان هناك فن وتفاصيل وجمال. الآن تكون محظوظا لو أسعفك الحال وعثرت على نجار أو سباك أو نقاش ينجز لك أبسط المهام دون مشاكل وكفى.
ربما مع بعض أحواض الزرع في الشرفات والنوافذ وبعض الطلاء للواجهات يكون الأمر أفضل بعض الشئ. تسرح في عمارات الكوربة ووسط البلد مرة أخرى. حتى على حالها مع الزمن والأتربة لا تزال جميلة. لسبب ما تذكرها بالصبارات التي صارت مهووسة بها بجميع أشكالها. جميلة رغم كل شيء. تقرر زيارة المشتل مرة أخرى. عبثا يحاول صاحبه أن يقنعها بتفقد باقي النباتات. لا تهتم سوى بمجموعة الصبارات. تفتح عينا فترى نملة تسرح على مستوى نظرها فوق سطح الطاولة. تمد اصبعا لتسحقها، ثم تتراجع وتعدل عن ذلك.
ترى هل هناك نمل آخر في مكان ما بالقرب، وهل صاحت هذه النملة تحذرهم أن ادخلوا مساكنكم؟ تشعر هي برغبة في الصياح والصراخ. تحاول رفع رأسها عن الطاولة فلا تستطيع وقد تجمدت مثل عقارب الساعة المعلقة فوق رأسها. تفتح فمها فلا يند عنها صوت، مثلما يحدث حينما تشعر بالرغبة في الصراخ من أعماق كابوس يغمرها ولا تستطيع لذلك سبيلا. بات ذلك الأمر متكررا في الفترة الأخيرة. ترى أين يذهب كل ذلك الصراخ المكبوت؟ هل يبتلعه نفس الثقب الأسود الذي يغوص فيه كل الكلام والمعاني غير المنطوقة؟! تتخيل ذلك الثقب وقد لفظ كل ما ابتلعه فجأة مصدرا صرخة كونية جمعية وانفجار عظيم جديد.
عبر نافذة المطبخ المطلة على المنور يأتيها صوت الجارة المجنونة وهي تستأنف وصلة الصراخ اليومي. تدفع الكرسي للخلف وتنهض لتغلق النافذة بعنف وتخرس ذلك الصوت المثير للأعصاب. أولئك الصارخين بقوة، من أين لهم بكل ذلك اليقين؟ يصرخون في وجه كل من يقترب من حقائقهم، ينعتونه بالحدأة والبومة نذير الخراب والشؤم. من أين لهم بكل هذا اليقين؟ ألم يبلغهم أن البعض في بلاد أخرى يطلقون على الحدأة اسم يعني طائرة ورقية تحلق مع النسيم وأن الآخرون يعدون البومة رمزا للحكمة؟! تقف على الكرسي وتنزل الساعة من على الحائط وتخرج منها البطارية لتمنح عقرب الثواني المعذب بعض السكينة، ثم تملأ براد الشاي بالماء وتشعل النار أسفله. مدت يدها لتتناول الكوب الخزفي الذي اعتادت تناول قهوتها فيه، ثم عدلت عن ذلك. تذكرت صديقتها التي حرصت على طلب كوب زجاجي شفاف لتشرب فيه القهوة. تشرع في تجهيز القهوة في ذات الكوب. ربما تتضح لها الأمور أكثر عندما تحيط نفسها بشفافية الزجاج.