بعد جولة بلا هدف في المنزل والفناء جلس على الأريكة في حجرة المعيشة. جلس كما لو كان ينتظر شخصا ما في بهو فندق. ظل على نفس الوضع لمدة نصف ساعة تقريبا دون أن يحرِّك شيئا سوى يديه، ثم نهض ودخل حجرة النوم وجلس على حافة السرير.
رغم أن الوقت كان مازال في أول ما بعد الظهيرة، إلا أنه شعر برغبة شديدة في النوم. لكنه كان خائفا من أن يتمدد ويذهب في النوم. ليس بسبب الكوابيس، ولكن لأنه كان من الصعب جدا عليه أن يستيقظ مرَّة أخرى. فعندما كان يسقط نائما، كان دائما يخشى ألا يستيقظ أبدا.
لكن خوفه لم يكن في قوة حاجته. تناول منبهه وضبطه على الساعة السابعة، ثم رقد واضعا إيَّاه بجوار أذنه. بعد ساعتين ـ مرتا كالثواني بالنسبة له ـ انطلق المنبه. رنَّ الجرس لدقيقة كاملة قبل أن يبدأ كفاحه الممض للعودة إلى الوعي. كان كفاحا شاقا. تأوه، وارتجفت رأسه، وركلت قدماه الهواء. وأخيرا انفتحت عيناه، ثم اتسعتا. مرة أخرى كان الانتصار حليفه!
رقد متمددا على السرير يستجمع حواسه ويختبر مختلف أعضاء جسده. استيقظت كل أعضائه عدا اليدين. كانتا ماتزالان نائمتين. لم يندهش. كانتا تتطلبان اهتماما خاصا دائما ما كانتا تتطلبانه. عندما كان طفلا اعتاد أن يغرز فيهما الدبابيس بل وفي إحدى المرات دفعهما في النار. لكنه الآن أصبح يستخدم الماء البارد فقط.
قام من السرير على دفعات ـ مثل رجل آلي رديء الصنع ـ وحمل يديه إلى الحمَّام. فتح الماء البارد. وعندما امتلأ الحوض غمر فيه يديه حتى المعصمين. رقدتا بهدوء في القاع مثل زوج من الحيوانات المائية الغريبة. وعندما ابتردتا تماما وبدأتا تدبَّان بخدر، رفعهما وخبأهما في منشفة.
شعر بالبرد؛ ففتح الماء الساخن داخل حوض الاستحمام وبدأ يخلع ملابسه متحسسا بأصابعه أزرار ثيابه بحثا عنها كما لو كان يخلع ملابس شخص غريب. تعرَّى قبل أن يمتلئ الحوض بما يكفي للدخول فيه وجلس على كرسي بلا ظهر منتظرا. أبقى يديه الضخمتين مطويتين على بطنه. ورغم أنهما كانت ساكنتين تماما إلا أنهما بدتا مكبوحتين أكثر منهما مستريحتين.
باستثناء يديه ـ اللتين كانتا تليقان بمنحوتة تذكارية ـ ورأسه الصغير، كان متناسقا بشكل جيد. كانت عضلاته كبيرة ومستديرة وله صدر ممتلئ ثقيل. ومع ذلك كان هناك شيء ما خطأ. فبرغم كل حجمه وشكله لم يكن يبدو قويا ولا ذا خصوبة. كان يبدو كواحد من مصارعي بيكاسو شديدي العقم الذين يجلسون متأملين بسوداوية على الرمال الوردية وهم يحدِّقون في تموجات الرخام المعرَّق.
عندما امتلأ حوض الاستحمام خطا إليه وغطس في الماء الساخن. نخر معبرا عن ارتياحه. لكن بعد لحظة واحدة بدأ يتذكر، فقط بعد لحظة. حاول أن يخدع ذاكرته بإغراقها بالدموع وإثارة نوبات النشيج التي كانت دائما تكمن متقلقلة في صدره. بكى بهدوء في البداية، ثم تصاعد البكاء. كان الصوت الذي يخرجه أشبه بصوت كلب يلعق عصيدة. حاول أن يركز على كم كان هو بائسا ووحيدا لكن الأمر لم ينجح. ظل الشيء الذي كان يحاول يائسا أن يتجنبه يزاحم ليشغل باله.
ذات يوم عندما كان يعمل في الفندق تحدثت إليه نزيلة تُدعى رامولا مارتِن في المصعد.
“سيد سيمبسون.. أنت السيد سيمبسون كاتب الحسابات؟”
“نعم.”
“أنا نزيلة الغرفة 6 – 11 “
كانت صغيرة وطفولية بأداء متسرع وعصبيّ. وفي ذراعيها احتضنت لفـَّة احتوت بوضوح على زجاجة ﭼين مربعة.
“نعم.” قال هومر مرة أخرى مخالفا طبيعته الودودة. كان يعلم أن الآنسة مارتِن مَدينة بإيجار أسابيع عديدة وسمع موظفة الغرف تقول عنها أنها سكِّيرة.
“أوه!…” استمرت الفتاة بغنج مظهرة الاختلاف بينهما في الحجم “أعتذر عن قلقك بشأن فاتورتك، أنا…”
أربكته الألفة الحميمية في نغمة صوتها.
“ستضطرين لمحادثة المدير.” قالها بحدة واستدار مبتعدا.
كان يرتجف عندما وصل مكتبه.
كم كانت جريئة هذه المخلوقة! كانت سكرانة ـ بالطبع ـ لكن ليس للدرجة التي تجعلها لا تعرف ما تفعل. وبسرعة وسم إثارته بالاشمئزاز.
بعد ذلك بوقت قصير استدعاه المدير وطلب منه إحضار بطاقة ائتمان الآنسة مارتن. وعندما دخل مكتب المدير وجد الآنسة كارليزل موظفة الغرف هناك. وسمع هومر ما كان المدير يقوله لها.
“هل أسكنتي الغرفة 6 – 11؟”
“نعم، فعلت يا سيدي.”
“لماذا ؟ إنها واضحة بما يكفي.. أليس كذلك؟”
“ليس وهي غير ثملة!”
“لا تبالِ بذلك. نحن لا نريد من هم على شاكلتها في هذا الفندق.”
“أنا آسفة.”
استدار المدير إلى هومر وأخذ منه بطاقة الائتمان التي كان يمسكها.
“إنها مَدينة بواحد وثلاثين دولارا.” قال هومر.
“يجب أن تسددهم شاءت أم أبت ثم تغادر الفندق. لا أريد من هم على شاكلتها هنا.” وابتسم “خاصًة عندما يراكمون الفواتير. اتصل بها على التليفون من أجلي.”
طلب هومر من عامل التليفون أن يوصله بالغرفة 6 – 11 وبعد وقت قصير رد عليه بأن لا أحد في الغرفة يرد.
“إنها في الفندق.” قال هومر ” رأيتها في المصعد.”
“سأجعل مديرة الغرف تلقي نظرة.”
كان هومر يعمل في دفاتره بعد عدة دقائق عندما رن جرس تليفونه. كان المدير مرَّة ثانية. قال إن مديرة الغرف أبلغته بوجود 6 – 11 وطلب من هومر أن يأخذ إليها الفاتورة.
“أبلغها إما أن تسدد ما عليها أو تخرج مطرودة.”
كان أول ما خطر بفكره أن يطلب إرسال الآنسة كارليزل لأنه مشغول، لكنه لم يجرؤ على اقتراح ذلك. وأثناء إنهاء الفاتورة بدأ يدرك كم كان مُستثارا. كان شيئا مروِّعا. موجات حسية صغيرة تسري في أعصابه ووخز خفيف أسفل لسانه.
عندما خرج من المصعد في الدور السادس شعر تقريبا بالبهجة. كانت خطوته خفيفة وقد نسي تماما يديه المزعجتين. توقف عند الغرفة 6 – 11 وأوشك أن يطرق الباب، ثم فجأة انتابه الخوف وأنزل قبضته دون أن يلمس الباب.
لم يستطع إكمال المهمة. سيكون عليهم أن يرسلوا الآنسة كارليزل.
وقبل أن يتمكن من الهرب اقتربت مديرة الغرف التي كانت تراقب من آخر القاعة.
“إنها لا ترد.” قال هومر بسرعة.
“هل طرقت بقوة كافية؟ هذه العاهرة موجودة بالداخل.”
وقبل أن يتمكن هومر من الرد، دقت هي بعنف على الباب.
“افتحي الباب!” صاحت.
سمع هومر شخصا ما يتحرك بالداخل ثم انفتح الباب بوصات قليلة.
“مَن هذا من فضلك؟” تساءل صوت واهن.
“السيد سيمبسون كاتب الحسابات.” قال لاهثا.
“ادخل من فضلك.”
انفتح الباب أوسع قليلا ودخل هومر دون أن يجرؤ على الالتفات لمديرة الغرف. مشى متعثرا إلى وسط الغرفة وتوقف. في البداية لم يكن واعيا إلا بالرائحة الثقيلة للكحول والتبغ القديم، لكنه بعد ذلك وتحت تلك الرائحة اشتم عطرا فاقعا. تحركت عيناه في دورة بطيئة. على الأرضية كان هناك نثار من الملابس والجرائد والمجلات والزجاجات. وكانت الآنسة مارتن متكومة على نفسها في ركن من السرير. كانت ترتدي (رُوبًا) رجاليا من الحرير الأسود بأساور وطيَّة صدر سماوية اللون. كان شعرها المقصوص قصيرا جدا وله لون وملمس القش، وبدت كولد صغير. وزاد من شبابها الغض عيناها المنمنمتان الزرقاوتان وأنفها المنمنم الورديّ وفمها المنمنم الأحمر.
كان هومر مشغولا جدا بإحساسه المتزايد بالإثارة لدرجة منعته من الكلام أو حتى التفكير. أغلق عينيه لكي ينصرف إليه أكثر، مغذيا بحرص ما كان يشعر به. كان يجب أن يكون حريصا؛ لأنه لو ذهب بسرعة زائدة عن اللزوم فربما ذبل شعوره ذاك وحينها سيرتد باردا مرة أخرى. وهكذا استمر شعوره في التزايد.
“اذهب من فضلك. أنا سكرانة.” قالت الآنسة مارتن.
لم يتحرك هومر ولم يتكلم.
وفجأة بدأت في النشيج. بدت الأصوات الخشنة المتكسرة التي تصدرها خارجة من معدتها. دفنت وجهها في يديها ودقَّت على الأرض بقدميها.
كانت مشاعر هومر كثيفة جدا لدرجة أن رأسه كانت تتمايل بعنف على رقبته كرأس دمية تنين صيني.
“أنا مفلسة. لا أملك أية نقود. لا أملك حتى عشرة سنتات. أقول لك أنا مفلسة.”
أخرج هومر محفظته وتحرك في اتجاه الفتاة كما لو كان سيضربها بها.
انكمشت مبتعدة عنه وزاد نشيجها قوة.
أسقط المحفظة في حجرها ووقف فوقها لا يدري ماذا يجب أن يفعل غير ذلك. وعندما رأت المحفظة ابتسمت لكنها استمرت في النشيج.
“اجلس.” قالت.
جلس على السرير بجوارها.
“يالك من رجل غريب،” قالت بخجل “يمكنني أن أُقبِّلك لكونك بكل هذا اللطف.”
أمسكها بين ذراعيه واحتضنها. أخافتها مباغتته وحاولت أن تبتعد لكنه استمر ممسكا بها وبدأ يعانقها بطريقة خرقاء. كان غير واعٍ على الإطلاق بما كان يفعله. عرف فقط أن ما شعر به كان حلوا بشكل رائع وأنه لابد وأن ينقل تلك الحلاوة إلى المرأة المسكينة الباكية.
هدأ نشيج الآنسة مارتن وبعد قليل توقف تماما. كان بإمكانه أن يشعر بها تتململ وتستجمع قواها.
رنَّ جرس التليفون.
“لا تجيبه.” قالت بادئة في النشيج مرة أخرى.
دفعها بعيدا برفق وتعثر في طريقه إلى التليفون. كانت الآنسة كارليزل.
“هل أنت بخير؟” تساءلت ” أم نطلب رجال الشرطة؟”
“بخير.” قال وهو يضع السماعة مكانها.
انتهى الأمر تماما. ولم يعد بمقدوره أن يعود إلى السرير.
ضحكت الآنسة مارتن على حالة الأسى الحاد التي بدا عليها.
“احضر الجين أيها البقرة الضخمة” صاحت بمرح “إنه تحت المنضدة.”
رآها تتمدد بطريقة لا يمكن للمرء أن يخطئها. فعدا خارجا من الحجرة.
والآن في كاليفورنيا كان يبكي لأنه لم يرَ أبدا الآنسة مارتن مرة أخرى. في اليوم التالي أخبره المدير أنه قد أدى عملا جيدا وأنها سددت ما عليها وغادرت الفندق.
حاول هومر أن يجدها. كان هناك فندقان آخران في وينيفيل ـ بيتان صغيران فقيرا الحال ـ وقد استفسر عنها في كليهما. وسأل أيضا في الأماكن القليلة لتأجير الغرف ولكن بلا نتيجة. كانت قد غادرت المدينة.
عاد إلى نظامه اليومي المعتاد: العمل لمدة عشر ساعات، والأكل لمدة ساعتين، والنوم بقية اليوم. ثم أصيب بالبرد ونُصح بالقدوم إلى كاليفورنيا. كان يمكنه بسهولة أن يتحمل ألا يعمل لفترة. فقد ترك له والده حوالي ستة آلاف دولار، وخلال العشرين عاما التي أمسك فيها بدفاتر الفندق كان قد ادخر عشرة فوقها على الأقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصدر قريبا عن دار آفاق للنشر في القاهرة. الرواية هي الرابعة والأخيرة لويست الذي مات بعد صدورها في حادث تصادم مروع أثناء عودته وزوجته مسرعا من المكسيك ليحضر جنازة سكوت فيتزجيرالد. تحولت إلى فيلم عام 1975 واختارتها مجلة تايم ضمن قائمة تضم أهم 100 رواية مكتوبة باللغة الإنجليزية منذ عام 1923 (عام تأسيس المجلة) إلى عام 2007.