قصة قصيرة كتبها أبي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وجدي الكومي

 

كتب القصة بخط يده، ثم طلب مني أن أنشرها في الصحيفة التي أعمل بها. كان يراقب وجهي جيداً بعدما طلب مني هذا الطلب، شعرت بالحيرة لكنني لم أستطع أن أواري انفعالي، فقلت: أنت متأكد أنك عاوز تنشرها؟

كنت أشعر بالخجل من أن أحصل على قصته القصيرة وأنشرها هكذا بكل بساطة فـي الصحيـفـة التي أعمل بـها، القصة التي كتبها تضمنت الكثير من التفاصيل العائلية التي لا أريد لزملائي في العمل أن يعرفوها عني، كذلك لا أريــد للمقربين مني والمعارف أن يــعرفــوها، ولا أريــد أن تطلع عليها عائلة زوجتي. لكنها قصة جميلة.
قرأها لي للمرة الأولى، بينما كنت أتحدث معه في التليفون، وأحاصره بأسئلتي المعتادة، التي أتخلص بها من مضايقات ضميري بسبب انقطاعي عن زيارته، كل ليلة أهاتفه لأسأله: ازيك يا بابا، عامل إيه، إيه أخبارك، بتاكل كويس، عاوز حاجة، سلام، تصبح على خير.
دائما أجري هذه المكالمة مع عودتي إلى المنزل في السابعة، أو إذا كنت سألتقي أصدقاء، أضطر إلى تأخيرها لأجريها في الحادية عشرة، أو عند منتصف الليل. لا أعرف لماذا لا أهاتفه أبداً بعد منتصف الليل، مع أنه لا ينام مبكراً.
إذا انقطعت يوماً عن الاتصال به، اعتذر له في اليوم الذي يليه، أبدأ المكالمة بالاعتذار، قائلا: مساء الفل يا بابا، ازيك عامل إيه، يارب تكون بخير، معلش امبارح معرفتش أكلمك، لإني رجعت متأخر، كنت مع ناس أصحابي.
لا أعرف ما هو مبرر عدم إجراء المكالمة، هو يسهر وحيداً في شقته، ينام متأخراً، ويستيقظ مبكراً، صارت هذه أبرز عاداته بعدما تقاعد، وصار يتقاضي معاشاً حكومياً هزيلاً، لكنه لم يزل يعيش في مستوى اجتماعي متوسط، لم يتغير كثيراً منذ وفاة أمي، وانفصال حياتنا عنه، يعتمد على رصيد بنكي يدر عليه دخلاً سنوياً ما، هو يحتفظ بكل هذه المعلومات ولا يصارحنا بها، رصيده اكتسبه من بيع شقة كان يملكها في مدينة نصر، شقة كانت كبيرة، وواسعة، ولها موقع متميز، حينما باعها، أهداني بعض ثمنها، كأنه يقدم لي نصيبي مما سأرثه منه. وقتها وجدته يمد لي يده بشيك بنكي مدوَّن فيه مبلغ 20 ألف جنيه. شعرت بالغبطة، والمفاجأة، وظل يرمقني هو في فضول وبسمة واسعة، كأنه يختبر داخلي انفعالات فرحتي القديمة باللعب والمكعبات والهدايا التي كان يجلبها لي.
أخذت منه الشيك، وشكرته قائلاً: ألف شكر يا بابا، ربنا يخليك ليا ومايحرمنيش منك. قلت ذلك في رتابة، لكنني لم أنحن على يديه لأقبلها مثلاً. لم يحدث قط أن قبَّلت يديه، فقط بدأت أقبل وجنتيه حينما أسافر وحين أعود من سفر، أو حين أزوره كل شهر مرة، أو كل شهرين، أو كل ثلاثة أشهر. أنا مثلاً زرته ثلاث مرات خلال الفترة من شهر (أغسطس) حتى بداية هذه السنة الجديدة. هذا قليل جداً على ما أظن بالنسبة إلى أب وحيد.
في اليوم الذي كشف فيه أنه كتب قصة قصيرة، كنت أدلف إلى السوبر ماركت. زوجتي كانت تتصل بإصرار بينما أنا أبدأ المكالمة مع أبي. حاولتُ تجاهلها، وأنا أعرف إنها تهاتفني فقط من أجل شراء البقالة، وليس لمعرفة سبب تأخري في العودة إلى البيت. بدأت المكالمة مع أبي بالأسئلة المعتادة، التي يتلقاها مني في صبر كأنني أسألها للمرة الأولى، ثم باغتني: مش أنا كتبت قصة.
حاولت أن أظهر الاهتمام، لكنني فعلياً لم أكترث، قلت: والله؟ هايل، يعني أنت عاوز تنافسني. قال ضاحكاً، بينما زوجتي تعاود الاتصال: مش هقدر أنافسك، بس القصة دي بالنسبة لي مهمة.
فكرت في أن أعلق اتصالي به، لأرد على زوجتي، ثم أعود إليه. كنت مشغولاً بالمفاضلة بين الخيارين، بينما هو يقول: تحب تسمعها؟
قلت وأنا لم أزل أفكر في اتصال زوجتي: آه أحب طبعاً.
لكنني كنت قد توقفت أمام السوبر ماركت راغباً في إنهاء المكالمة لاستقبال مكالمة زوجتي، أعرف أنها تتصل من أجل متطلبات السندوتشات المدرسية، لكنني على وجه الدقة لا أعرف ماذا تريد، بدأت أشك في أنها ستطلب شيئاً غاب عن بالي، بدأ أبي يقرأ قصته، بدأ هكذا: إنها الوحدة هذه المرة. الدائرة التي نعود إليها. كنت وحيداً قبل زواجي للمرة الأولى منذ سنين، وحينما التقيت شريكة الحياة، كانت رغبتي في تكوين أسرة هي شاغلي الأساسي.
أرسلت لي زوجتي رسالة نصية بالأشياء التي تطلبها، كان أبي يواصل قراءة قصته، بينما أنا مضطر لإبعاد السماعة عن أذني لأقرأ الأشياء المطلوبة من السوبر ماركت.
كما خمنت، تطلب رُبع جبنة رومي، ربع لانشون، وبثلاث جنيهات «عيش فينو». بينما أضع الهاتف على أذني مرة أخرى كان أبي يواصل قراءة قصته. كان على ما يبدو واثقاً من انتباهي: حينما قررنا الإنجاب، كان بوسعنا أن نكوّن أسرة كبيرة، لكنني وشريكة الحياة آثرنا الاكتفاء بإنجاب طفل واحد، طفل نوليه كل اهتمامنا، يحصد كل عطفنا، كل حبنا، ولا يشعر في أي لحظة أننا مشغولون عنه بطفل آخر.
أبعدت الهاتف عن أذني بينما أقول للبقال: ربع جنبة رومي، ربع لانشون، ثم عدت مرة أخرى، كانت قد فاتتني بطبيعة الحال سطور عدة أخرى من قصة أبي، لكنه في هذه اللحظة كان يقرأ في حماس: كنا نراقبه باهتمام شديد، بينما يخطو خطواته الأولى، شعرنا بالسعادة الهائلة حينما نطق أولى كلماته، واحتفلنا به احتفالاً صغيراً في عيد ميلاده الأول، كما شعرنا بالأسف عليه حينما تركناه في يومه الأول في المدرسة، كان من الصعب علينا تخيل أنه سيكون وحيداً حتى لبضع ساعات، وكنا ننتظره بفارغ الصبر في نهاية يومه الدراسي الأول.
في هذه اللحظة دفعت للبقال نقوده، وتوجهتُ إلى المخبز وقلت للبائع: عاوز باتنين جنيه عيش بسمسم.
ثم وضعت الهاتف على أذني: لم نتوقع أن يتحول انتظارنا له في يومه الدراسي القصير، إلى انتظار كبير، ظللنا ننتظره طيلة عمرنا، حتى رحلت أمه، وظللت وحيداً أنتظره.
ناولني الفران الخبز، فقلت لأبي بينما أنهي المكالمة في عجلة لأصعد إلى البيت: بابا، القصة حلوة. المهم أنت مدفي نفسك؟ يلا أقولك تصبح على خير.
ضحك ضحكة قصيرة بينما أغلق معه، وقال: وأنت من أهله.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري ـ والقصة من مجموعة “شوارع السماء” المرشّحة على القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصّة القصيرة

 

 

 

مقالات من نفس القسم