شفاعات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الحلواني

أتمدد مستلقيًا على فراشي، سيجارتي المشتعلة بيدي ورواية شباب امرأة بجواري وقد أنهيتها ربَّما للمرة الثالثة... فوجئت أن الساعة تجاوزت منتصف الليل، صدمني طرق خفيف على نافذة شرفتي، أطلتُ النظر في عينيها.. تلك العينين الحزينتين المنكسرتين.. أتكون هي نفسها؟!.. لم أصدق في بادئ الأمر وظننته حلمًا يراودني، كيف أتت للشرفة؟! سألتني بصوت خافت:

– هل تسمح لي بالدخول؟!

هززت رأسي بالموافقة فدخلت كطيف ناعم بقوامها السمهري الممشوق.. مدَّت يدها تصافحني وحينها شعرت بنعومة يدها البضة كالحرير وتأكدت أنه ليس حلمًا.. لقد تجسدت لي بكل معاني الكلمة لحمًا نابضًا بالحياة.. وكما وصفها بالضبط “أمين يوسف غراب”… وجهها يفيض بِشرًا، جبينها الوضاح الذي يشبه فلق الصبح ومنديلها المطرز بالترتر وخرْج النجف، وأكتافها المرمرية تتلاعب عليها خصلات شعرها الكستنائي اللامع.. أشرت لها لتجلس على المقعد ولكنها ظلت واقفة وأسندت جسدها وصدرها إلى الحائط وهي تقول:

– شفاعات.. اسمي شفاعات.. هل تعرفني؟!

هززت رأسي بالإيجاب متسائلًا:

– وهل يوجد من لا يعرفك؟! قصتك أنهيتها للتو، يتحاكى بها جيل وراء جيل لدرجة أنهم صنعوا منها فيلمًا رائعًا.

ضحكت ضحكة مريرة وهي تقول:

– فيلم.. نعم.. قصتي صارت فيلمًا..

– ألم تشاهديه؟!.. ألم يعجبك؟! لقد كان ملهمًا ولقد جسدت “تحية كاريوكا” دورك بإتقان بالغ، بل يعد هذا الدور من أفضل أدوارها على الإطلاق.

– إتقان!!.. لقد رسَّختْ ما شوَّهَني به كاتبكم.

– عفوًا أنا لا أفهمك.

– لا تقل هذا فلن يفهمني غيرك.. قد جئتك أنت بالذات لأن قصتي تتشابه مع قصتك كثيرًا، أريد منك أن تنصفني أو تنصف نفسك في وجه هذا العالم المليء بالقبح والكراهية.

قلت لها متعجبًا:

– أنصفك؟؟ كيف؟؟

ارتعد جسدها وشهقت شهقة ألم، وانفجرت باكية وجسدها كله يضطرب ويهتز كعود ورد في مهب الريح.. أسندت رأسها إلى مرفقيها فسقطت الملاءة التي كانت تلتف بها، بدت معالم جسدها المرمري الجميل كعاشقة خرجت من أتون النار.. رداؤها الشفيف يلتصق باللحم فتبدو تفاصيله المدهشة.. نهداها البازغان كتلَّين فارهين.. خصرها المخروط بحكمة يرتجل الشعراء في وصفه فيرتبك الوصف.. سرتها الوامضة نجمة استيقظت في الصباح.. سيقانها صُبَّتْ صبًّا..

دنوت منها مشتعلًا بذلك المشهد المغري وتمنيت لو كنت أنا هذا المعشوق لكنت تركت الدنيا وسعيت لأنال ولو حتى ابتسامة من ذلك الثغر البللوري.. همستُ بصوت خفيض خاضع لذلك الجمال الصادم:

– سامحيني فأنا لا أعرف كيف أنصفك وأنتِ.. وأنتِ!!

– أعرف ما سوف تقول عني.. امرأة لعوب في منتصف الأربعينيات توقع شابًا صغيرًا في شباكها وتستنزف صحته وقوته وتجعله ألعوبتها أو حمارها كما وصفه كاتبكم.. حتى إذا أخذت كل ما تريده من صباه وفتوته كانت ستتخلص منه ككلب أجرب.. أو تطلق عليه رصاصة الرحمة كالحمار “بهلول”.. أليس هذا ما أظهرتني به تلك الرواية الظالمة، وكأني “الغولة” التي تلتهم الأطفال؟!

تلعثمت وترددت.. فما كنت أقدر أن أفصح عن وصفها بتلك الطريقة البشعة التي وصفت نفسها بها فهززت رأسي، فاسترسلت قائلة:

– يبدو أن البشر لا يعرفون معنى الرحمة..

– رحمة أي رحمة تطلبين وقد لخصت قصتك كاملة بنفسك وكدتِ أن تعصفين بحياة “إمام” ذلك الشاب المسكين؟!

تنهدت وجلست فوق المقعد:

– أنتم نظرتم لنصف الكوب فقط.. نظرتم لإمام ولم تنظروا لي.. لقد كتب المؤلف كل شيء، ولكنكم قفزتم فوق السطور ولم تروا ما بينها.

– لتخبريني إذًا بالنصف الآخر أو ما بين السطور.. وكيف ظلمناكِ؟!

تنهَّدتْ، فشعرتُ بلفح لظى يحرقُ وجهي ومسحتْ دمعة سقطتْ على فخذها واسترسلتْ:

– لا أعرف كيف أصف لكَ مشاعري ولكني سأبدأ من البداية.. بداية هذا الشعور الجارف الذي تلاعب بي كقارب في وسط موجة عملاقة ابتلعتني بكل ما أحمل داخلي.. البداية كانت حين سبني ووصفني بقلة الأدب.. فرفعت يدي “بالشبشب” لضربه كما تعودت مع جميع الرجال من قبل.. هل تتذكر ذلك المشهد..

– نعم وقد أمسك بذراعكِ وضغط عليه بقوة وغضب حتى كادت ذراعكِ تختنق بين أصابعه الخشنة المتوترة.. وكيف وقفتِ خائفة تنظرين لتلك الذراع التي تعتصر ذراعكِ عصرًا.

– في تلك اللحظة لم أنظر لإمام نظرة طفل أو شاب جاء من الأرياف.. لقد نظرت له كرجل.. رجل أستطيع أن أحتمي في صدره من كل الذئاب التي تحاول أن تنهشني.. رجل ذو كرامة وليس ألعوبة ككل الرجال الآخرين.. ألم ترني كيف كنت إن خرجت معه.. أرقبه وهو يأكل بشغف حتى أني أنسى جوعي .. أمد يدي سرًا بالنقود من تحت المنضدة حتى لا أهين كرامته.

– هل تعنين أن الجنس لم يكن هو هاجسك الأول نحو ذلك الشاب في تلك اللحظة؟!

– لا.. أقسم لك.. أنا يا سيدي امرأة لم تعرف معنى الحب أو الحنان في حياتها.. باعني أهلي لرجل عجوز بدراهم قليلة.. ولم أشعر معه إلَّا بكوني عروسته الجميلة التي يضعها أمامه فوق المنضدة ليشاهد جمالها الذي يذوي كل يوم.. ما كانت علاقتي به أكثر من خادمته أو ممرضته التي تهتم بمواعيد أكله ودوائه.

– توقَّفي قليلًا، لم يُذْكَر أيًّا من هذا الكلام في الرواية.. ولا أستطيع أن أتقبَّل غير الحقيقة المكتوبة فقط.

– دعكَ مما قلت وليكن ما تريد.. لقد أخبركم أني امرأة في منتصف العقد الرابع.. أي أن عمري خمسة وأربعين عامًا على الأكثر.

هززت رأسي موافقًا فاستمرت تتكلم:

– وأن زوجي مات من سبع سنوات، أي أن عمري وقتها لم يتجاوز السابعة أو الثامنة والثلاثين..

فبدأت أحسب هذا الفرق فوجدتها صادقة فقلت لها:

– فعلًا عندك حق.. حين مات زوجك كنت في هذه السن بالضبط.. وإن لم يذكر ذلك في الفيلم ولكنه ذكر في نص الرواية..

– أجبني بالله عليك.. هل لو كنت امرأة لعوبًا كما تشيعون عني، هل كنت أمضيت عمري وحيدة طوال كل تلك السنين؟!!.. سبع سنوات ضاعت من أحلى سنوات شبابي وعمري بدون أنيس ولا سمير.. حبيب أو عشيق، رغم جمالي الذي يضرب به المثل، وكم الخطَّاب الذين حاولوا تقديم الغالي والنفيس ليفوزوا بي كما ذكر في القصة، وخاصة أني لا أسرة لي لا أب أو أم أو أخ.. أو أولاد..

وعادت ترتعد من جديد وصدرها القافز يعلو وينخفض والدموع التي تتساقط فوقه تعكس الضوء عليه فتزيده فتنة وجمالًا.

– لو كنت مثل ما رسمتموني في خيالكم المريض لكنت تلك المرأة التي تتصيد كل يوم شابًا جديدًا، فهناك ما يكفي ويزيد من الرجال، وأستطيع أن أنتقي منهم من أشاء بمنتهى السهولة واليسر.. فأي شاب كان يتمنى إشارة من إصبعي.. مجرد إشارة فقط..

أو كنت أتزوج ممن أريد طالما لا ينقصني الجمال أو المال كما تعلم.. ولكن سيرتي يعلمها الجميع فهي أنقى من اللبن، ولم أتجاوز يومًا أي خطوط حمراء ولم يلوك سيرتي أي إنسان، بل كان الجميع يحترمونني ويخشون بأسي وهذا لا يتأتى في حالة عهر امرأة.

لم أتمالك نفسي وصفقت بحرارة وأنا أهتف:

– فعلًا.. فعلًا لكِ الحق في كل ما قلتيه.

نظرت لي بطرف عينها وارتسمت على ملامحها ابتسامة خفيفة متسائلة:

– هل من كانت بمثل تلك الصفات يطلق عليها امرأة لعوب؟!

– لا يا سيدتي.. ولكنهم لم يغفروا لكِ علاقتكِ الجنسية الملتهبة بإمام وكيف قمتِ بإغوائِه.

اتسعت حدقتاها واشتدَّت ملامحها قهرًا وصاحت بعصبية:

– إمام..

انهمرتْ دموعها من جديد بمجرد أن ذَكَرتْ اسمه، اعتدلتْ وهي تزيح خصلات شعرها من فوق عينيها:

– مبعثرة أنا كغبار يتلاعب به الريح، دعني أصف لك ما كان بيني وبين إمام.. لقد أشعل داخلي ألمًا لا تدركه، أطلق في لحظة واحدة أحلام طفولتي وشبابي.. هل لا يحق لي الحب مثل كل البشر.. لك أن تتخيلَ تلك الأنثى وهي تبات كل ليلة على الحسرة وحيدة منكسرة ظلمتها الحياة ولم تظلم أحدًا، ربَّما كل سنوات عمري الضائعة كانت بحثًا عنه، لا أنكر أني أكبره بأكثر من ضعف عمره ولكن متى كان السن حائلًا دون الشعور بالحب؟!

بدأ العرق يتصبب فوق جبيني وأنا أشعر بكم المعاناة التي عاشتها، أشعلت سيجارة، ومددت يدي لها بالعلبة فتناولت سيجارة وأطلقت دخانها في الهواء مسترسلة:

– لقد كان شعاع الضوء الذي أضاء عمري.. إن لامسته.. سرى في جسدي صعق يطيح بكل حواسي وعقلي.. إن تلاهثت شفتانا كمن ينفخ في هذا الجسد الميت الروح.. تنطلق الفراشات تحوم حولي، وتصافحني السحابات.. وتشاركني النجوم فراشي، ويختلط قزح الألوان في عيوني.. لقد أحببته كما لم يَهْوَ البشر من قبل.. لا تكلمني عن روميو وجوليت أو عنترة وعبلة أو حتى عن لبنى وعفراء.. كان حبي له أقوى وأخلد من كل هؤلاء، الحب يا سيدي يقتحم قلبك دون أن يكون لك يدٌ فيه.. كم حاولت في أول الأمر أن أبعده عن فكري وبالي.. ولقد أثبت هذا كاتبكم.. كم حاولت أن أنام على اللظى وأبتعد عنه لكن هيهات.. أنا لم أسع إليه بل هو من جاء في طريقي.. هو قدري وأنا قدره فهل نحن من نصنع أقدارنا؟!، جسد الأنثى يا سيدي لا يمنح إلَّا للحب فكيف تتهمونني بالشهوة وأنا كنت كالراهبة في محرابي، بعيدة عن كل الرجال طوال سبع سنوات؟!، في بلادنا يا سيدي -بلاد الشرق- لا يحق للمرأة أن تعشق.. وإلَّا حكم عليها بأنها لا تسعى إلَّا للفراش، ربَّما تظنني مجنونة أو حمقاء.. أو متهتكة لعوبًا.. أو بائسة مظلومة.. تخير ما تشاء.

لقد قررت أن لا أسكت عن حقي.. لن أكون كتلك النسوة الخانعات الخاضعات الذليلات.. لن أكون بعد اليوم مهيضة الجناح، لن أنتظر موتي كشجرة ذبل ثمرها، ربَّما وصِفتُ أني امرأة شرسة متسلطة مخيفة.. كل هذا بسبب الفراغ الذي كنت أحياه، ولكن حين ظهر في حياتي تغير كل هذا وصرت كالبحر.. أرق من الحرير في هدوئي، ولا أنكر أني كنت كعصف الموت في ثورتي.

لقد وهبْتُه كل شيء الرقَّة والحنان والعذوبة.. إن عاد أجْرِ إليه كقطٍ أَمُوء تحت أقدامه.. إن أشار كنت أضع الدنيا بين يديه.. لم أبخل عليه يومًا لا بجمالي ولا عشقي ولا مالي.. هل كل هذا لا يسمى حبًا؟!

أطرقتُ في الأرض مذهولًا مما سمعت فهي لم تزد عن ما جاء في الرواية شيئًا، ولكنها غيرت نظرتي تمامًا لتلك الأكذوبة التي ترسَّخت في ذهني.. تساءلتُ كيف أنصفها, فهي امرأة جُلَّ ذنبها أنها كانت تبحث عن الحب، وهل الروايات الخالدة يجوز لنا العبث بما جرى عليه العرف في فهمها؟!.. ومن أين نحضر ممثلة مثل تحية حتى تستعيد زمام الأمور من جديد؟! تلعثمت وأنا أقول لها:

– ولكن خطيئتك الجنس.

وقفت في منتصف الغرفة وأسقطت الرداء الذي ترتديه فصارت عارية تمامًا.. ارتجَّ جسدي من هذا الجنون.. أما هي فكانت تتابع نظراتي لها بزهو.. وانتصبت بشموخ وهي تقول:

– انظر.. انظر جيدًا لهذا الجسد.. ماذا ترى؟! هل اعتراه الذبول؟! هل سرت تجاعيد الشيخوخة بين حناياه؟! .. أليس لجسدي حق كما لروحي حق؟! .. الجنس ليس خطيئة، لقد خلقنا، بل كل الكائنات خلقت ليكون الجنس محور حياتهم..

– لا أوافقك هذا الرأي.

– إن أردت الكلام عن الجنس وقذفت عرض الحائط بكل ما أخبرتك به فاعلم أني لا أرى أي غضاضة في الكلام عنه .. أنا لست غلاميَّة الهوى.. ولا أنكر أنه بعد اليوم الذي شعرت فيه برجولته الكاملة، عادت لي مشاعر الأنثى بكل فيضانها.. كتنين ينفث ناره في صدري وجسدي.. كنت أتلوى كلبؤة شرسة، أتمنى أن يعتصرني بين ذراعيه.. أن يلتهم شفتيَّ.. أن يغرقني في طوفانه فلا أنجو.. الجنس يا سيدي نوعان: نوع منه يشبه ما تقوم به البهائم والكلاب .. ونوع آخر ما تحسه في عشق العصافير.

– لا تكلمني عن الجنس وإلَّا أخبرتك بما لم تره يومًا.. الجنس إن خرج من رحم العشق كان حياة.. بل أروع من الحياة.

لم تكد تتم عبارتها حتى أردت أن أصرخ بكل ما في جسدي من مشاعر التهبت.. إلا أن جسدها عاد من جديد يتزلزل ألمًا وينتفض بكاءً وهي تلملم رداءها الشفيف وتأتزر بملاءتها السوداء الحريرية الناعمة.. وأنا أحملق مأخوذًا ومذعورًا:

– أعرف الآن ما تكابدينه.. وما مر بك من ظلم على مر السنين ولكني لا أستطيع أن أغير من الأمر شيئًا.

ضحكتْ بهستيريا ساخرة وهي تتلوى أمامي رقصًا واتجهتْ ناحية النافذة:

– هل نسيت أمل؟!.. إنك تكبرها بثلاثين عامًا. هل ما تشعر به نحوها وهم وخداع؟! إنها قصتك أيها البائس.. لن أطلب منك أن تدافع عني.. لكن ألن تدافع عن حبك؟!

قَفَزَتْ من الشباك وقهقهة صوتها ترن في أذني كعقرب بث سمه في دمائي.. وهي تقول:

– ألن تدافع عن حبك؟!!!  

 

 

مقالات من نفس القسم