عرفتُ شريف رزق منذ اللحظة الأولى شاعراً صاحب توجه ووجهة نظر يربط كتابة الشعر بنقده ومناقشته ومحاولة الإحاطة بكل أذرع وأقدام وأنفاس هذا الفن العصي …كان اليوم وكانت الساعة بالنسبة له تعني الشعرولاشئ غيره إما إبداعاً أو تنظيراً أو تنقيباً في أسراره وحيله وآلائه وفخاخه كذلك وهكذاارتبطَت معرفة الآخرين به دائماًوأبداً ، بالشعرالذي وَهَبهُ حياته عن رضا ومحبة…كان يعمل في مجلة “الشعر”أيام كان رئيس تحريرها الروائي الراحل خيري شلبي ،صاحب الرأي المعلن والدائم في رفض قصيدة النثر لكن شريف لم يمل أبداً من إقناعه وكان هو المسئول عن تسريب قصيدة النثر للمجلة وإقناع العم خيري بأنه لا يصح منه وهو المتسع المنفتح على كل أشكال وأنماطالفن ومن شتى الاتجاهات أن يرفض الجوال كله بكل مافيه ، كل بضاعة وفيها الجيد وفيها الردئ ، ربما لهذا كان شريف يرد على من يرسل شعراً للمجلة لا يرى فيها الجدة والابتكار ردوداً عنيفة جعلتني أخاف من مقابلته وأرسم صورةً ذهنية عنه قوامها شخصٌ غليظٌ لا يتورع عن قتل المبتدئين في طموحهم ويقينهم الطفولي الهش، شخصٌ متطرفٌ للشعر ولا يعبد سواه وكانت المفاجأة حين تم اللقاء أني وجدتُ إنساناً بسيطاً وخجولاً ودمث الأخلاق لأقصى امتدادات العبارة لكن ولاؤه للشعر كان صحيحاً وإن استبدلتهُ بفكرة وفلسفة “مَن أحب شيئاً وَالاهُ” لهذا قامت حياة شريف بكل وضوح على محبة الشعر والانحياز لهذه السكة في الفن دون سواها …انتمى شريف رزق عمرياً لجيل الثمانينات في الشعر المصري مع إبراهيم داوود ومحمودقرني وفتحي عبدالله وعلي منصور وعاطف عبدالعزيز وسميردرويش وفاطمةقنديلوعماد غزالي والسماح عبدالله وغيرهم وهم وإن كانت تجاربهم وانتمائاتهم الجمالية مختلفة وأداؤهم متمايز ويبتعد خطوات عن التصور العجيب بأن ثمة اتجاهات عامة قد تجمع المجموعات الشعرية المتوافقة زمنياً – فإن مايجمع جلهم فعلاً ويكادوا يتفقون فيه هو اعتبارهم أن الجيل السابق عليهم – جيل السبعينات ، بولائاته الجمالية المرتبطة باللغة وبالتشكيل – يمثل انحرافةً في مسيرة الشعر الطبيعية عند الرواد وصولاً إليهم ، وربما كان أعنفهم في طرح ذلك هما محمودقرني وفتحي عبدالله لكن شريف رزق كان الأكثر هدوءاً وتصميماً على تأكيد هذا الأمر وإثباته مجدداً كلما تناساهُ الناس…كان شريف يرى وهو القادر على الكتابة في شتى التوجهات الشعرية أن الكثير من الشعريات استنفذت طموحاتها وأن اللعب المبالغ فيه على شعرية المفارقة – مثلاً-قد أوصل بعض النصوص لدرجة الطرافة التي تكاد تقترب من أن تكون نكاتاً ومُلَحاًبقدر ما تبتعد عنها الشعرية . واتساقاً مع يقين تملكه أن الفن هو القادر الوحيد على التعبير عن خراب العالم ،اختار أن يكتب شعراً تجريبياً ثائراً على القديم ، مكثفاً ومكتنزاً بالصور الخاصة والتشكيلات التي تتسع لعدد لانهائي من التأويلات ،امتد ، كحلقات ملضومة تنحت وترسم صور وآليات ومظاهر وأشكال وأسرار الخراب المحيط بنا ، سواءً أدركنا وسمعنا دبيب النهاية أو لم يصلنا، ولنتأمل عناوين دواوينه : “عزلة الأنقاض “1994- “لا تطفئ العتمة “1996- ” مجرة النهايات” – ” الجثة الأولى “2001- ” حيوات مفقودة “2003 الذي وصل فيه لقمة إحساسه بالنهاية تاركاً فجواتٍ أو ندوب روحية كبيرة لتضع فيها أيها المتلقي جثتك قبل أن تتعفن وهي تسير في العراء وسط مثيلاتها من الأرواح المتفحمة… ويعبر شريف مرحلة الاغتراب الوجودي إلى مرحلة أخرى هي الاقتراب من الحميمي والبسيط ليكون دليلاً وحده على خراب الروح والعالم ،اكتشف شريف أن السيرة الذاتية لواحد من آحاد هذا العالم تصلح لانتاج الدهشة بلا معاظلات ولا احتياج لوضع خط غليظ أوفتح قوسٍ كبيرٍ للحزنالقاروالدائمفينا يتلوى كثعبان مهول وهكذا كان ديوانه ” أنتَ أيها السهو ، أنتَ يا مهب العائلة الأخير “2013 ثم أنشودته الأكثر عذوبة ، ربما لأنها التغريدة الأخيرة للبجعة – ديوان “هواء العائلة “2016 الذي وصل فيه الشاعر لقمة توحده مع تفاصيله وفتح ذاكرته لتخرج اللحظات التي تشبهنا جميعاً وتتقاطع مع حيواتنا ولحظاتنا الحية البعيدة القريبة :
لنفترض مثلاً يا أبي أنني أخطأت
يُخطئُ العيل ويجري إلى أحضان أبيه
ألستُ ابنكَ البكر الذي تكمنيتني
وطلبتني من الله؟
وعلى الرغم من أنكَ لم تأخذني إلى أحضانكَ مرةً
أو تأخذني إلى رحلةٍ
-كما يحدث في المسلسلات والأفلام –
فإنني لم أُخطئ يوماً الطريقَ إلى محبتك.
ويأتي الوجه الثاني من وجوه وعلامات شريف رزق وهو وجه الناقد والمتابع والمناقش لغالبية الدواوين الشعرية الصادرة ثم في السنوات الأخيرة يكرس جهوده بشكل بطولي تماماً ومتبتل للتأصيل لقصيدة النثر في التربة العربية متتبعاً جذورها وبداياتها وإرهاصاتها وحتى وجوهها المتعددة وحالاتها الجديدة وتجلياتها الراهنة.هذه القصيدة التي كان يرى أننا نعيش زمنها بامتياز وبجدارة وإن كره الكارهونوأنها أنقذت الشعرية العربية من طريقها المسدود …وفي غضون سنوات قليلة استطاع أن يصنع كتباً في تواليها وتراتبيتها تعد مرجعاً أساسياً يعبر عن مشروع متكامل لاغنى عنه لأي باحث في هذه القصيدة الإشكالية صاحبة الألغام التي لا تريد أن تهدأ …وهكذا كانت كتب : ” شعر النثر العربي في القرن العشرين “2010– ” قصيدة النثر في مشهد الشعر العربي “2010 – ” آفاق الشعرية الجديدة في قصيدة النثر”2011– ” قصيدة النثر المصرية : شعريات المشهد الجديد”2016 – ” الأشكال النثر شعرية في الأدب العربي “2014 – شعريات ما بعد (شعر) : قصيدة النثر العربية في السبعينيات والثمانينيات ” – ” تحولات القصيدة العربية عبر العصور “…ورغم أن نشاط شريف الأبرز كان في القاهرة إلا أنه آثر أن يستمر في بلدته الصغيرة ربما لأن روحه الطيبة رغم وعيه الممتلئ والمعقد تؤثر البساطة وتهرب من الضجيج والزحام والتكالب على المكاسب الصغيرة والتصارع اللآدمي وربما لأنه كان يبحث عن هدوء وسَكينة لينتج ، لكن هذا الهدوء للأسف أغراه بالعمل ليل نهار حتى ضج مخزونه ثم انتقلت الروح إلى عالم ربما يجد فيه تفاصيل أكثر رحابة من عالمنا وقسوةً أقل …
رحم الله هذا الإنسان المخلص لدرجة التوله والدءوب لحد الانتحار، هذا المثقف المستقل الذي كان يهاجم الفاسدين بعزمٍ لايلين وعزيمةٍ لم تكن تتورع أن تفضح الشُطِّار والجاثمين على الصدور في كل مكان دون اعتبار لحساباتٍ صغيرة ولا مكاسب زائلة…ذلك الحُرُّالذي كان حذراً أشد الحذر من أن تسلبه المؤسسة استقلاله وكبريائه ومنتبهاً أشد الانتباه لمبادئه ونزاهته التي استعصت على التدجين.