هل الكتابة الإبداعية النسوية ما زالت أحدوثة تقف عند حيز ادعاء التسامح ( من الآخر تجاهها ) وحيز الامتنان من المرأة للكتابة في العالم العربي؟ أحدوثة مخنوقة بالتمني المستحيل، والمكبوت الحاصل ، وفي التأرجح تغوص الشاعرة العربية الراهنة في ما يسميه جان ماريكو ” فضاء الاحتجاز الكوني”، ذلك الفضاء الحديث الذي يضيق فيه الجسد ويُقصى – بحسب وصف منصف عبد الحق– في بعده الإيروتيكي ؟
هل الأمر كذلك فعلًا ولكن بخصوصية في كتابة القصيدة العربية المعاصرة للمرأة التي تحاول أن تجعلنا نصدق ونرى أن القصيدة ” انكتبت ” ونظل نحن نصر أن صاحبتها هي التي كتبتها وأنها تكتب نفسها وتسجل – بالشعر – يوميات وارتكابات ؟
وهل المرأة شريكة – بقصد أو بدونه – في تدعيم التعامل الأسطوري معها دفاعًا عن صورتها عن نفسها ، صورتها المستعارة المفروضة من الآخر، تلك الصورة التي تعجبها وتخنقها إذ تحاول التمرد عليها – بحساب ؟
لماذا نعيب على الرجل المثقف إصراره هو الآخر على النظر إلى المرأة كأسطورة؟
أليس جسدها المنشىء، المقفول على سر التخليق، الرحم، الأصل، أسطورة حقيقية لذلك، أو شيء ملتبس ما بين حقيقة و أسطورة إذن؟
هل يهيمن الارتداد إلى الاحتفال بجسد الأم على لا وعي الكتابة النسائية الشعرية – لكي لا نسرف في إيلام الآخر ( القارئ والشاعر والمثقف الرجل )؟
ثمة ظروف كثيرة مرتبطة بالشرط الاجتماعي الذي لا سيطرة كبيرة للمرأة العربية إجمالا عليه، لابد من توافرها قبل أن يتغير تعاطي أغلب القراء (اسمحوا لي بالتعميم على غالبية العالم العربي) مع إنتاج المرأة الشعري ، بما يدفعها – بدوره – إلى الانحياز لمزيد من الحرية و الاختيار بدلا من إحناء الرأس أمام الاجتماعي و المقدس . و إنى لطالما سألت نفسي : كم عدد المهدر من الموهوبات ، الكاتبات و العالمات و التشكيليات و المخرجات التي يحتويهن ظلام الأمية و المنع من التعبير و تخنقهن التزامات و ارتباطات اجتماعية حتى لو تعلمن بحيث يضحين طواعية بما يرغبن و يبرعن فيه ؟ كم موءودة إبداعيا في كل جيل ؟ . كم عدد النساء اللاتي ” يخترن ” و كم نسبة المبدعات بينهن التي ” تختار ” ، في مصر مثلا أو السعودية و منطقة الخليج و ليبيا و العراق و سوريا الخ ؟
في الاختيار، المحذوف لا نهائي وهو واعٍ والمستبقى ( بفتح الحرف الأخير) كذلك. وكل هذه المواصفات والمواءمات – للأسف – قد تصب في إنجاز شعري لأسباب غالبًا ما تكون غير فنية .
إن كان الشاعر العربي يراوح بين الاقتراب من مراعاة السائد والسير بعيدًا عن المسكوت عنه أو محاولة اختراقه بقدر، ولا ينجو دائمًا كما تدلنا محاكمات الفن سواء تمت تبرئة العمل أو لا ( ما حدث مع رواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر وما حدث مع ” أخبار مجنون ليلى” في البحرين ضد قاسم حداد ، ومارسيل خليفة وما كان قد حدث معه حين غنى لدرويش قصيدة اختار الرجعيون حصرها في المساس بأحد الأنبياء وما حدث مع نجيب محفوظ ومحاولة اغتياله بسبب” أولاد حارتنا” وما حدث مع حلمي سالم وأحمد عبد المعطي حجازي ولمجلة إبداع بسبب موقف الإسلاميين من قصيدة سالم” شرفة ليلى مراد” و قصة ما عرف بأزمة الروايات الثلاث في مصر أيام مبارك و طبعا نعرف سجن الروائي و الصحفي المصري أحمد ناجي في قضية ما سمي بـ ” خدش الحياء العام ” عن روايته ” استخدام الحياة ” ) إذا كان هذا نصيب المبدع العربي من المحاكمات و محاولات القتل ( لم أشمل المفكرين المجددين دينيا ) فكيف يكون موقف المبدعة ؟.
السؤال لأن هناك من سيظل – جمهورا و قضاء – مصرًا أن من يتحدث في النص هو كاتبه وأنه بالتالي يدلى باعترافات.
تربية القارئ المخبر أو المحقق ليست أمرًا يملك المبدع السيطرة عليه وإن طمح في تغييره بالكتابة، ضمن ظروف أخرى تخرج عن حدوده، لكن ما أود قوله هو إنه حتى عندما تتوافر شريحة من القراء تنجو من هذا التعاطي مع الفن فإنها يندر أن تمده إلى الإنجاز الإبداعي – رواية وشعرًا – للمرأة العربية .
لا توجد دراسات تحت يدي في أي من النقاط والأسئلة والحدوس والافتراضات التي أطرحها هنا بصوت عالٍ .
ما ألقيه هنا هو نتاج قراءات امتدت لأعوام و ما زالت خاصة لإبداع المرأة العربية ، وملحوظاتي الجندرية تخص النخبة أكثر من العامة ، وهي تحملني على افتراض أن المنطوق الشعري الحداثي بل والراهن للمرأة العربية – و باستثناءات شجاعة متفرقة على أسماء وأقطار عربية – يبدو محكومًا باستنطاقات لا تنتهي تحمله على ضمير الأنا المتكلم الذي يبث ويحاول أن يراوغ ويخفي أو يلقي جملة ثم يبدو نادمًا عليها ومستدركًا في محاولة اعتذارية لشرحها ، لتبرير ما تثق الذات الشاعرة أنه التأويل الوحيد ( الذكوري الاجتماعي ) للتعامل مع متنها الحياتي لا الشعري . بل حتى والشاعرة العربية تكتب في نصها عن نموذج إنساني نسائي وتُغيّر الضمير – جماليًا – مثلًا إلى الغائب خاصة لو كان بصيغة الحاضر أي المضارع ، يترصدها إصرار الشريحة التي أشرت إليها سالفًا وهو أن الضمير في حقيقته ليس سوى ضمير المتكلم ( متكلمة ) لأنه باختصار ضمير محبوس في حالة الاشتباه وفي الشعر الذي هو توق أصيل – بحكم طبيعته – لقول الأشياء ورفعها ونسفها ومحاذاتها والسخرية منها وبناء علاقات جديدة بينها، ومهما كانت تقنيات الأقنعة أو المرايا الخ… فإن القارئ الرجل، وحتى المبدع أحيانًا ، يعجز عن التحرر من سلطان المطابقة بين النص وصاحبته ليبلغ مرحلة أخرى من الاستمتاع بالنص لا تتحقق إلا بالتظاهر – كما يقول أفلاطون – “بأن الشاعر (ة) ليس هو (هي) المتكلم”.
ربما بعض المجتمعات العربية ( مثل تونس ) التي تميزها قوانين منصفة للمرأة توفر قراءًا أكثر انفتاحًا في تعاطيهم مع الإبداع إجمالا و ما تنتجه المرأة خصوصًا، لكن و بدون أن تكون تحت أيدينا دراسات و إحصائيات نستطيع أن نطمئن إلى الفكرة الرئيسة التي أملت عنوان هذا المقال ” قسوة القراءة لشعر المرأة ” ليس فقط نتيجة الدعم المتصاعد من الوقائع لها ( المعاداة أو الاسترابة في الإبداع و أهله ) و لكن لأن تراجع الحريات بعد انتكاسة ” الربيع العربي ” أضافت في تصورنا إلى سخط رجل الشارع على فكرة الحرية .
نعود إلى المهزلة الأكثر شيوعًا بين القراء في كثير من العالم العربي .
إنه – أي القارئ – هكذا يُحوِّل الاستنكاه إلى استكناه. لماذا يفعل القارئ هذا بنفسه وبالنص ؟. لماذا لا يفطن إلى كونه مفعول به من خلال فعل قراءة اجتماعية ، مشفرة النوايا تظل كالفعل الجنائي تعمل لصالح إعادة إنتاج ما يرتاح إليه ويفضل عدم تغييره هادفًا إلى تبرئة مستمرة للنفس والإدانة المستمرة للآخر؟. وكيف نمنع ” التربص” بما يراه أي ما يقوم بتأويله لدى قراءة نص شعري نسائي بوصفه إدلاءًا ” فرديًا أنثويًا ” ؟ ، طالما أن العلامة الأكيدة للحداثة هي ما يراه البعض من رسالة العداء التي تبثها الحداثة لنفسها وذلك بالنقد الذي ينحو إلى التدمير الذاتي، أي الإيلام، وهي أمور تدربت عليها المرأة العربية جيدًا وبلا اختيار، لذا نجد الحداثة التي هي بحسب بودلير نوع من ” جلد الذات ” هي قصيدة مستمرة للذات المهزومة، التي تجذب الأعراف والتقاليد من أنوثتها ما يفوق احتمالها ويؤدي صدمها للقارئ في النصوص الشعرية النسائية إلى استنفاره لكل حمولة وميراث أفكاره الاجتماعية بحيث نملك القول بضمائر مرتاحة أنه ومع استثناءات قليلة فإن عنصر الحوار الخالص والفعّال مع النص الشعري العربي النسائي ليس موجودًا خارج النخبة ( و أحيانًا ليس داخلها ) ، إنما هو معتدى عليه.
يحب القارئ الرجل هذا الحال من السيطرة على القصيدة ” الأنثى ” ( القصيدة لأنها مؤنث أصلًا ) ولو أن ” النص” مُذكر لكن التحالف مع المجتمع يُنجَز بعدوانية مضاعفة أحيانًا لدى تعاطى قصيدة كتبتها شاعرة . وأليم أن تكون الصيغة الوحيدة لطمأنة النفس هي في إخضاع الآخر – بصفته الإنسانية لا الشعرية ولا الفنية – للمعياري السائد. فما بالك حين يتجمع كل هذا ؟ . إنها عملية كولاج اجتماعي لاصطياد الأشباح تُقسِر النص عن إتاحاته وإمكاناته لصالح تلك الرغبة المسبقة في أدائه المختلف حال العجز عن دمجه فيما يعرف بالتماثل أو التوحيد consonance .
والفن أكثر من مجرد محاكاة ، كما أن المحاكاة تمثل نوعًا من الإظهار الذي لا يعنى – بحسب هانز جيورج جادامر في ” تجلي الجميل” – “عرض شيء ما كما لو كان برهانًا نبرهن به على شيء ما لا يكون متاحًا لنا بأية طريقة أخرى. فنحن عندما نظهر شيئًا ما، فإننا لا نقصد بذلك إظهار علاقة بين الشخص الذي يُظهِر والشيء الذي يتم إظهاره. فالإظهار يتجه بعيدًا عن ذاته . فنحن لا نستطيع أن نُظهر أي شيء للشخص الذي ينظر إلى فعل الإظهار ذاته، كما هو الحال بالنسبة للكلب الذي ينظر إلى اليد التي تشير ……………………..لأن المحاكاة تمكننا من أن نرى ما هو أكثر مما يسمى بالواقع . فما يتم إظهاره إنما يُستخرَج – إن جاز التعبير – من صيرورة الواقع المتكثر “(1) (الوصف بأكمله لجادامر) و في نفس السياق يؤكد جادامر على كلام أرسطو من أن “ الشعر يجعل الكُليّ مرئيًا على نحو يفوق ما يمكن أن يفعله السرد الأمين للوقائع و الأحداث الفعلية التي نسميها التاريخ “. (2)
وفي بعض الأحيان قد يأتي تحرز المرأة من ” صورة ” ذاتها ( في حسابات غير شعرية ) لدى المرأة المتلقية أيضًا أو شريحة من الفريق الآخر . وقد يحسم الأمر اختيار الكتابة عن جزء من الذات باسم مستعار شعريًا ، مع توفير كتابة شعرية أخرى للعلن أي تقسيم الذات ما بين سري ومعلن، وذلك لأجل مُسيّجات وقيود أخرى. وليس من غرابة كبرى فتقليد الكتابة باسم مستعار منذ أيام جورج إليوت و من قبلها، لكن فى عصر الإنترنت صيغة الاسم المستعار لفترة مؤقتة ثم تغييره – باستمرار دون إفصاح ، وموازاة هذا – دون إعلان – بالكتابة بالاسم المعروف لصاحبته.. هذه الثنائية تعكس المأساة وهي بذاتها تعرض للوجه الآخر من الأزمة. إن المبدعة لا تستطيع كتابة كل ذاتها وتوقيع اسمها بعد ذلك . بالاختباء وخلق اسم مخترع تشعر بأمانٍ نسبي وأنها تستطيع أن تقول ما لا تقوله كله حين تكتب باسمها. إنها الكتابة بالحبر السري أو كما تقول هيلين سيكيو بالحبر الأبيض ، وهذا يُذكِّر باعتراف الكاتبة أليفة رفعت ذات ندوة قديمة بالقاهرة كنت حضرتها ، أنها لما تزوجت كان الأب والزوج قد اشترطا عليها عدم الكتابة وتم إجبارها على القَسَم على ذلك على القرآن ، وبعذابها وعنه كتبت ، لكن حكت أنها كانت تمزق كتابتها و تلقيها في المرحاض!
وربما تمتد المأساة في علائق أخرى سلبية إلى أدب السيرة الذاتية النسائية في العالم العربي إذ يكاد ينعدم، لكن القارئ المُصرّ على الاسترابة في الكاتبة استعاض عن هذا بالتركيز كما قلنا على ساحة المعركة في الشعر وعلى محاولات موازية تعكس تخريب التلقي للرواية النسائية كلما أمكن للدفع – في بعض الأحيان – بأنها ليست سوى سيرة ذاتية هي الأخرى ( أي اعترافات حريم ).
آسيا جبار تدرك كأنثى ما نعرفه جميعا. تقول ” إن هذا الجسد ليس مسلحًا لكي يواجه كلمات الآخرين “. و طبعا الأمر لا يتوقف على الكلمات فحسب بل قد يتجاوزها إلى الضرب والسجن والقتل. و كلها أمور تدعم وتحرض أكثر على النشر باسمٍ مستعار خاصة في بلدان معينة.
حيث يطغى الوجه الثقافي على الجانب أو الحقيقة البيولوجية للجسد تُختَرع له لغة – هي المجاز. فالمخيال العربي الإسلامي بسياج محرماته لا يسمح للحرمة المحرَّمة المسئولة عن الحرام لزامًا ( وحدها! ) و بشكل أبدي إلا بالعبور المزركش المقهور في قافلة هوادجها محجوبة ( العبور غير المرئي ) وهو ما علّم المرأة أن تتكلم دون أن تُسمَع ( بضم التاء و فتح الميم) وتحاول الارتكان – كما تذهب بعض الناقدات الأوروبيات – على جسدها لتكمل خطابها إن كانت تلقيه في جمعٍ ما. ولعل المبالغة في التشديد على الجدية هي الوجه الآخر لنفس إشكالية الجسد والصوت المحبوسين، المقهورين، المعتذرين عن أنوثتهما. إن كل أنثى عربية في بلد إسلامي تعرف معنى إجبار قدميها على سرعة الحركة في المشي حين تكون وحدها ولو صباحًا ، وكل أنثى في العالم تعرف غضب عدم القدرة على التمشي بمفردها أو مع صديقة في الشوارع والغابات بعد منتصف الليل . هذه الأحزان المستديمة التي يتم تلقيننا الوعي بأهميتها تبقى معنا كنساء حتى الموت .
المرأة – غالبًا – وهي تتكلم في مكان عام، أمام جمهور، يكون عليها أن تجاهد لنسيان أن الجمهور لا يتناسى أو يتجاهل أنها امرأة تتحدث أو تخطب . وهذه ليست خصوصية عربية فقط فمن المضحك أن الناقدة جوليا كريستيـﭭا ذات الصيت اللامع تعرضت أثناء الإدلاء بمحاضرة مرة لتعليق ذكوري كان مفاده ” أن ساقيها جميلتان “.
بل إن كاتبة هذا المقال شهدت مرة مثقفًا مرموقًا يهاتف شاعرًا بالتليفون أمامها في مكتبه ، يدعوه ليأتي إلى مكتبه في الحال لأن به من تريد مقابلته – وكانت المتحدث بشأنها مستعرِبة فرنسية تسعى للتعرف على إنتاج الشاعر المدعو ومقابلته لدراستها فقال له المثقف يشجعه – أمامها : ” نعم، جميلة “ ولم تُعلِّق المستعربة الجميلة ، رغم أنها تنتمى إلى ثقافة ترى هذا تجاوزًا و تحرشًا لا مجاملة في هكذا سياق.
وثمة موقف آخر . لدى قيامي شخصيًا بالتعقيب على ترجمة شاعر مصري معروف لسونيتات شكسبير من سنوات بعيدة ، مقارِنة إياها بترجمة جبرا إبراهيم جبرا ، أصدر حكمه دون معرفتي أو رؤيتي أنني لابد – كما بلغني من الزملاء – وأن أكون ” دميمة معقدة “.
إن الكتابة المجازية ربما كانت ابنة للحياة المجازية .
الكتابة كأنثى، كامرأة .. لماذا بدأت مقالي هكذا ؟ ولماذا فكرة اللغة وما تفعله المبدعة بها لتسيطر علينا كقراء ، اللغة كمتن اعترافي أو بيان للنفس ؟ هل لأن بكل كتابة جزء من هذه الحقيقة ؟ اللغة كتجريب أو اللغة الغنائية، أو تلك التي تحاول تحقيق قدر من التخطي الذاتي بالتمرد على طرائق التعبير والصور المألوفة ( ونحن جميعًا أسرى )، أو تلك التي يمليها تفكيرنا عن صورتنا لدى الآخر ومجموع شروطه أو متطلباته وأحكامه ، ” سجن اللغة “ هذا ” يجبرني ” كشاعرة وكاتبة ، فهي إن كانت سجنًا بمعنى ما لكل كاتب وللكاتب العربي بأكثر من معنى فهي كثيرًا ما تكون السجن الانفرادي للمبدعة العربية، ما بين غنائية ، أو لغة تتمرد بتصور مسبق ( وبالتالي منمط ) عن أن التحرر الجمالي مقرون بالصدم من خلال قطع مسافات في مناطق إيروتيكية أو التوسل إلى ثيمات ما ، أو لغة مشبعة بعدوانية تجاه أشكال أقدم في الكتابة الشعرية أو البدايات الأولى لأجيال سابقة كما تشهد صفحات التواصل الاجتماعي على ذلك بينما مثلا من يتأمل استيعاب المجتمعات الأكثر حرية لأنواع الشعر المختلفة و طرائقه و أساليبه يفهم أن القمع امتد عندنا إلى داخل القصيدة التي يكتبها الرجل والمرأة لو ستواجه المحرمات ، لكن الحدة و العنف التي لا يقدر الشاعر أو الشاعرة على إخراجها تجاه المتسببين فيها ( خارج النص أو القصيدة ) تصبح بركانًا يثور من الشاعر والشاعرة تجاه ” ابن أو بنت ” الكار” بقسوة لا مزيد عليها .
لا نفهم رد الفعل إلا من خلال الفعل وأحيانا فعل اللا فعل ، كمتوالية نرى منها الحركة الأخيرة فيصيبنا الصدم . نحب أن ننسى أن كتابة المبدعة العربية تشبه كثيرًا رد فعل متصندق بداخله رد فعل آخر وهكذا.
هذا لا ينفي المساحة الخاصة الصادقة التي يتفلت منها صوت المرأة أوقاتًا خارج هذه الجدلية المُحكمة وما يتضح هو أن الهوية الأنثوية تهيمن على الهوية الشعرية وتتقاطع معها في كتابة الشعر وحتى ما لا تكتبه نساء عربيات، بوصف الشعر فيضًا قد يشبه فيوض جسد المرأة المشبع بالمعنى والخلق والسوائل ، بوصفه فيضًا آخر لكائن حقيقة جسده تكاد تنتظم في الانسكاب والسيولة ومفارقة المنع والمنح ، ومعضلة الإتاحة والاحتجاز. وأيضًا الشعر – واليوم سنكتب عن الشاعرة العراقية الكردية كولالة نوري وديوانها ” تقاويم الوحشة “ – مهما تعددت تعريفاته أو معانيه ، هو في رأي سيكسو فنٌ تمثيليّrepresentational ( هي لا تراه كالرواية ) ، و يمكن المجادلة أنه بصدد تحولات عميقة في راهن قصيدة النثر و ما تستدعيه و تنفتح عليه الآن مع تجارب البعض في مصر حاليا وفي العراق مع أجواء التذابح الطائفي ، ولنتأمل تجارب مازن المعموري وعلي ذرِب مثلا ، ويمكن لأن مداره ومنبعه الخصيب الرئيس هو اللاوعي. ويمكن أن نقول نفس الشيء عن الموسيقى و التشكيل و النحت.
ليست كتابة المرأة الشاعرة ( العربية ) من مناجم اللاوعي حرة متفجرة كما نتمنى لها.
إن ما نطمح إليه يتجاوز كثيرًا مفهوم كتابة الجسد وبالتأكيد أيضًا هي كتابة ( المأمول بها، الأكثر حرية ) تأنف في أعماقها من استنساخ التواشجات الذكورية القديمة والقائمة. ولأن الاستنساخ المفاهيمي ليس معديًا فحسب إنما أيضًا يعطل لفترة أطول الصوت الحقيقي للمرأة الشاعرة وحيث أنه يعبر عن سطوة مفاهيم الطرف الأقوى في أية علاقة ، واجتماعيًا وتاريخيًا ظل الرجل هو الأقوى ، فإن أفكاره وتوقعاته وردود أفعاله كطرف فاعل أثناء الكتابة الشعرية للنساء وكمُتلقٍ خارج النص ( الذي شارك في تحريره بوجوده المستمر في لا وعي الشاعرات ).. هذا يجعله عنوانًا للبوصلة الذكورية الحاضرة ، أنموذج للآخر المتحفِز، المرشِد،” القاضي”، الحَكَم والجلاد الذي يشكل لا وعي الكتابة ولا وعي التجربة الإنسانية الخاصة بالنسبة للأنثى.
هكذا يحدد الرجل إجمالًا للمرأة وللشاعرة العربية خصوصًا إملاءات الصمت ، موضوعات الكتابة ، طرائقها ومكونات العملية الإبداعية للذات الشاعرة للمرأة العربية التي أغلب الوقت ما تكون في حال المثول.و حتى حين أمشي في الشارع في مصر أو أجلس في كازينو أو مقهى أجد هذا المنظر المستمر : رجل يتحدث و امرأة أو فتاة مستمعة ، و لوقت طويل جدا . أشعر أن هناك حالة ” ردم ” جندرية تتوازى مع اضطراد أنواع القمع في بلدان عربية عديدة و منها مصر منذ سبعينيات القرن العشرين.
إنه أمر شبيه بما يمكن أن نعتبره كتابة مستترة لنص موازٍ للنص الظاهر – مقروءًا أو مسموعًا- للمرأة ، ولعل في بعض النماذج الشعرية النسائية لبعض دول الخليج ما يشير إلى أن الرجل هو الكاتب ” الحقيقي” ( بالمعنى الاجتماعي الضاغط ) لكثير من النصوص بينما الشاعرة تُمهر أو توقّع العمل باسمها وقد تقنع نفسها أنها كاتبته . هذا هو الحال حين تستنسخ اللغة سجن الخارج وتصبح سجنًا بذاتها لا العكس. و المعروف أن السجين ، حتى بعد خروجه من السجن يظل يكتب ربما لسنوات وربما للأبد كأنه ما زال بداخله .
يحرم هذا القارىء كثيرًا من جاذبية التحولات، من فرصته في مغامرات خيالية ولغوية أكثر تنوعًا ، من شجاعات متلهفة تحب غيبوبتها وتتحرى أشواقا وحريات أكبر ، من الحلم بلغة ثالثة عابرة للجندر تنتمي إلى مناخ ومعجم نفسي اجتماعي مغاير، “ميتالغوي” وليس مفتعلًا أو مزيفًا لأن مشكلة كتابة الجسد في شعر المرأة بأكثر العالم العربي ، أنها بذاتها تمثل خروجًا واعيًا بنفسه كذلك. وهذا الوعي لا يناوئ فقط لا وعي الشعر حد التقويض الجمالي للنص أحيانًا كثيرة ، بل يمثل حلقة قد تكون أكثر زيفًا من الكتابة ” الغنائية ” النزوع لدى الشعر النسائي العربى الراهن. إن الفارق يتعلق بتصوراتنا عن درجة تماهي النص مع الآخر حد تقمص شروطه الجمالية ومتطلباته الاجتماعية داخل سياج النمط.
فهناك نص يعرف أنه ليس حرًا. وهناك نص يتصور أنه تحرر.
كيف سأختار بينهما ؟
أميل إلى تصديق ما يذهب إليه قلبي ويمس شيئًا بداخلي، ما أراه شعرًا أو فنًا ويكفيني. بالوقت ذاته – ولعل هذا المقال عن ديوان كولالة يُترجَم كوثيقة اعترافية لي بدوره – أجد نزوعًا ابن التشبع الثقافي الذي أنا أسيرة له، لما هو غنائي بمعنى التيمة والصورة داخل قصيدة نثر الشاعرات العربيات اللاتي أنا منهن ، و أتململ عليه بالطبع تجريبًا و ثيمة أو أحاول. لهذا وبشجاعة أخلاقية وجمالية فأنا أفضل النص الذي يعرف أنه ليس حرًا. أصدقه فهو أقل ادعاء.
مع هذا لا أنفي و لا أحب أو أتصور نفي نص الجسد. فأنا حاولت كتابته منذ ديواني الأول ، وربما أفرح به و بمحاولاته لدى غيرى أيضا ، لكن بنفس الصدق يمكن القول إنه إذا تراجع الجسد عن المشهد الجنسي فالنص الذي يكتب عنه يتراجع أو يصمت بدوره . إن محاولة ” إجباره ” ( إجبار النص ) وقتها على الاستمرار في تلك الكتابة لن تكون غير مسايرة مزيفة لمتطلبات نقدية أو مفاهيمية تشدد على أهمية حالة المسايرة تلك، و ثمة فكرة متحيزة في جوهرها تربط الشغف على نحو يكاد يكون خالصًا بالرغبة الجنسية وحدها. المنطق أن لا ننفي الشغف عما يقع خارج الحب بل و يجب أن نعيد تعريفه كعلاقة مركزية يحسها صاحبه تجاه الكون والأشياء فيه.
ثم نحن مهما كتبنا لا نستطيع أن نكتب جسدنا، الجسد سابق على الكتابة ، لكنها لا تستطيعه ، لا تستعيضه. ومنطقه قد يتقاطع معها – الموت والفناء – الشلل – النشوة – الخلق الخ، لكنه لن يكونها لذا فالكتابة تخونه أو هي خيانة مستمرة له من حيث تحاول ببؤس ( التوثيق ) له بأقرب وأرهف وأعنف ما تملك وأقصد الكتابة الشعرية.
حيث الكتابة الشعرية للمرأة لا تنوب عن جسدها، تظل محاولات هتك اللغة ( اللغة من حيث هى مؤنث ) فعلًا غير مكتمل يمتاز بالطواف الإيروتيكي الذي تختلف طريقة توظيفه ما بين المرأة الشاعرة التي تكتب نصًا حسيًا وإن بدرجة، والرجل الشاعر الذي يكتب من منطقة أخرى – بالحتم الاجتماعي والتاريخي.
وحين تسأل الناقدة ” شانتال شوّاف “: “ أليس الهدف النهائي للكتابة هو التعبير بفصاحة عن الجسد ؟ “ ، أجد السؤال ينطق من انحياز مسبق لا يخلو من الحقيقة نوعًا.. لكن لأنه سؤال واثق هكذا، يقينيّ الإجابة، تُحسَب لها، لا عليها هذه الجرأة النقدية. سؤال كأنما لا يحتاج سوى إجابة بالإيجاب، لكن ربما يجب طرح سؤال مختلف ؟ مثلا ، الهدف الأعلى للكتابة هو الحرية والتجديد والبحث عن مرامٍ ومحاولات ومعانٍ أو لامعاني جديدة ، فتح مناطق و بؤر أوكسجين أعمق وأكثر بداخل النفس والاستمتاع بدون وصفات نستبدل بها قمع الخارج بصيغ قمع من داخل تصورات وطرائق ومقاربات ومفاهيم أخرى .
سأعطي مثالا أتمنى أن يوضح بشكل مباشر نوعًا. الكل حولي هلل كثيرا لرواية ” قواعد العشق الأربعون “ لإليف شفق خاصة في ترجمتها العربية وأنا وحدي وصديقة لي لم تعجبنا الرواية كما لم تعجبنا مثلا ” عمارة يعقوبيان “ للروائي علاء الأسواني وقت الحالة الاحتفائية الهائلة التي حصدتها وبلغ الأمر أننا كنا نخاف وقتها الإعلان عن رأينا. فما معنى هذا ؟ و هل هناك ” تريند ” للكتابة ضمن سياق ثيمات معينة ، مثلا زنا المحارم في “قواعد العشق “ أو فكرة المثلية الجنسية في أعمال أخرى لتكون أكثر مسايرة للعصر ؟
طبعا لا أتكلم عن المِثلية ذاتها فهذه منطقة حقوق وتفضيل. معياري هو مدى قدرة العمل الفني على النفاذ إلى عقلي و روحي، و لا شك أن ما يعجبني لن يعجب غيري، و أعرف أن هذه مرحلة ربما تكون لا مفر منها قبل أن ندخل مرحلة عارمة أخرى نتحرر فيها حتى من رغبة الصدم ، فمن الذي يستطيع أو يحق له الاعتقاد أنه بدون صدمات ( ولو لم يقصدها هكذا ؟ ) بيكاسو و دوشامب والسريالية والدادا و غيرهم كنا سنصل إلى ما حققناه اليوم ؟.
بالتأكيد لا يجب أن يُفهَم من كلامي أني لو أحب شوبان فلا أريد الميتال والهارد روك أو أني عاجزة عن الاستمتاع برواية أو قصيدة جميلة عن المِثليين وزنا المحارم، بل قد أحلم بكتابتها. ما أقوله هو أني لا يجب أن أتعرض لإرهاب عدم التصريح أني لا أحب الميتال أو الـﭽاز مع تمسكي بضرورة وحتمية وجودهما مثلا. ربما ما يعجبني عميقا هو ما يجعلني أحبه ، سأكون قد صدقته والصدق الفني الذي قصده ديستوﭬسكي وجعله أهم شروط نجاح وتأثير العمل الفني هو هذا .
ترى ” شوّاف” أن: ” التجاور الحسي للكلمات له وظيفة واحدة… تحرير المادة ( الحية ) كما أن اللغة، عبر الكتابة قد تحركت بعيدًا عن مصادرها الأصلية: الجسد و الأرض . لفترات أطول من اللازم كان الله يُكتَب أكثر من الحياة. الكلاسيكية والعقلانية كلاهما بتر الوثنية الكلامية للعصور الوسطى و عصر النهضة، اللحم اللغوي تم قمعه ببيوريتانية، التجريد جوّع ( قام بتجويع ) اللغة لكن الكلمات يجب أن تموت، إذ أن لديها خاصية استشعارية . إن مهمتها أن تُطوِّر الوعي والمعرفة بتحرير لاوعينا واستعادة الأمل بالوقت نفسه”. (3)
إن ما تعنيه ” شوّاف “ يبدو في نظرتها للكلمات حين تُكبّرها بعدسة مكبرة فتراها – كما تقول – ذات طبيعة “ مُحَبحَبة “(من الحبوب) أو مجعّدة أو لزجة. وهي كحرفية، كما تقول عن مهنة الكتابة بوصفها اختصاصها، فإنها تقدم الكلمات لكن يمكن لها( الكلمات) أن تُلمَس وتُؤَكل. و بعيدا عن الجسد ، نعرف أن ثمة تجارب في الشعر الإنجليزى انصبت على إشعال حسية صورة ثمرة يتم وصفها ووصف التهامها باعتماد كليّ على صوتيات اسم الثمرة مثلا. و إني لأبحث أثناء كتابتي عن ذلك اللحم في لغتي ، أبحث فيها عن لحمي لكن لا أحب أن يقال لي ” لا يوجد سوى ذلك اللحم “، أبحث في رغبتي أن أصنع شيئًا جديدًا بها ، في شبق البحث عن ما يؤدي لالتئام جرح ، يرقد في المسافة بين المتخيل / المتمنى سابقا أو باستمرار وبين عالم ضد ، عن طراوة و نداوة تنزل اللغة من التحليق حين يجب أن تنزل في القصيدة. ربما ميزة التجارب الحسية المبكرة أنها تقي اللغة ذلك التجريد الذي تنتقده شوّاف. حقا التجريد العقيم جوّع اللغة وأتفقُ معها ، هناك لغة جائعة وهي ربما أكثر جوعا وحرمانًا في الواقع العربي الراهن و هناك لغة أيضا تتجه إلى الروحاني والصوفي ولا ينبغى إخافة تلك اللغة وترهيبها بالإلحاح على الحداثي و ما بعده فقط أو حتى بفكرة أن الحداثي – كتعريف حصريّ – هو الكتابة فقط ودائما عن الجسد. إن قلقي من عبارتها وتشخيصها ” أليس الهدف النهائي للكتابة هو التعبير بفصاحة عن الجسد ؟” ينبع من رائحة الإقصاء القوية فيه ، من الافتراض الحصري الذي يشير إليه و إن كنت أتفق معها أن ” اللغة عبر الكتابة قد تحركت بعيدًا عن مصادرها الأصلية” و أنه في السياق العربي ( و إن كانت هي تقصد السياق العام للبشرية ) ظل “الله” يُكتَب لفترات طويلة ومازال أكثر من الحياة.
لعل أبرز ما يؤكد لي حجم التجريد اللغوي ليس فقط أن الواقع العربي كثقافة و مقروئية يطالبنا كإناث في الأداء و الإبداع بالمزيد منه طول الوقت، بل إن ذائقتي التي كانت تعجب بقراءات معينة أيام الجامعة تغيرت جذريًا و لم أعد قادرة على حب و إعادة قراءة من كنت أراهم و أراهن آلهة الكتابة. ربما ماركيز استثناء عندي على هذا. وقد يكون ذلك نتيجة حسيّته التي لم أنتبه لها في أعماله القديمة ، و بمعنى أصيل يمكن تعقب تلك الحسّية لدى شكسبير و ” ألف ليلة و ليلة “وفي كثير من الشعر العربي القديم .
وإذا ما نظرنا إلى المفردة بوصفها كيانًا مستقلًا ( لا أدرى كيف أو ما الذي يعنيه هذا بالضبط – هذا اعترافي ) عن استخدامها سيكون لها ما تراه شوّاف” حياة عضوية تخصها ” ولكن النظريات باعترافها تشطح وتحرمنا من دوامات حرة قادرة على أن تحملنا بشكل طبيعي إلى تبرعمنا، وولادتنا مرة أخرى.
لهذا تُعلي الناقدة من الشفاهية فهي ترى أنه لكي نعيد ربط الكتابة بالجسد باللذة لابد أن نقوم بتفكيك أو نزع الثقافة عن الكتابة. إن في كل اللغة – بالنسبة لها – ما يستنهض حسيتنا ويوقظها من جمود عدم الحركة. وتمد استعارتها كثيرًا في هذا الطموح الذي يقارب حلم مالارميه باللغة الأصلية الأولى Adamic Language التي سقطنا منها ( كالجنة ) ولم يعد بإمكاننا الرجوع إليها، فتقول إن اللغة المادية القديمة بالنسبة للنساء تقابل مكاننا التاريخي وهو الميلاد، وهي لغة تثق الناقدة كثيرًا في تطويرها كموسيقى للأنوثة سوف تنبع من قمعها وتتجسد في الجسد المعاد اكتشافه.
ترى النسوانيات أن سوائل الجسد الإنساني إذ تخرج تطلق طاقات الجسد وتمنحها من جديد للعالم ، هن يرين – بتعميم مخيف مني – أن اللغة الأنثوية يجب أن تعمل على إخصاب الحياة ، تعيش و تطير و تنطلق بشغف وعلم و شعرية وسياسة لتجعل الحياة قوية. و كنت شاركت من سنوات في ورشة تمثيلية بمسرح الهناجر ( كانت ورشة مشتركة للجنسين ) وكانت المدربة ممثلة مسرح تونسية جعلتنا ننتبه إلى الرعشة في أصواتنا. ثم اكتشفنا أننا لا نعرف كيف نمشي كل هذه السنين ونحن نظن أننا تعلمنا المشي في الطفولة.
السؤال الرئيس الشاغل لدى كثير من النسوانيات هو إذا كانت النساء يفقدن أغنيتهن، ألا يجدر بهن النوح على أصالة ما ؟( لكن قصيدة النثر المصرية الراهنة خصوصا لديها حساسية عالية من فكرة و حقيقة النوح بكل أنواعه وطرائقه ، هي مفردة يفخر الحداثيون المصريون بإدارة ظهورهم لها منذ استخدمها فريد الأطرش وليلى مراد في أغانيهما و بدأت إدارة الظهر لها كلفظة لا كمضمون منذ أغاني عبد الحليم حافظ المُجدِد ) .ربما كنا حاليا في مصر ، و أقصد بكلامي نفسي وشعراء وشاعرات قصيدة النثر بوجه عام – في مرحلة إعلان العداء السافر مع الغنائية و لعل فيسبوك يشارك في المعركة ضد مفهوم ” النوح ” كإرث ثقافي شرقي يمتد خارج الثقافة العربية إلى أختيها الثقافة الفارسية و الثقافة الهندية.
نحن ننظر إلى الغنائية (معشر المجددين لقصيدة النثر المصرية والعربية أو من يرون أنفسهم كذلك ) كما ينظر شخص إلى أثر ما أو اكتشاف أركيولوجي في متحف لكنه يختلف عن زائر المتحف كونه لا ينظر باعتزاز أو احترام لـــ ” التحفة ” و هنا أختلف عن أكثر زميلاتي الشاعرات.
تسأل النسوانيات أو النسويات لماذا تفقد النساء تلك الأغنية السرية الطبيعية أو التي تجعلهن في تناغم مع الطبيعة؟ أليس السبب الواضح هو المجتمع ؟. نعم ، لكن في حال الشاعرة العربية تحديدًا – الأغنية – المحرمة أصلا لم تجد متنفسها إلا في الشعر لعقود طويلة ، لكنها لما نزلت في الشعر لم تكن أغنية المرأة ، بل أغنية مستعارة، بدلت هويتها ، تعكس ما قبلت النساء معاملتهن به وهي منطقة يندر أن تغادر السخرية أو إسباغ المثالية عليهن وهذان – بحسب باختين- هما ضلعان لما وصفه بـــ Tradition Gauloise (4) حيث الضلع الأول – السخرية من النساء وتحقيرهن – هي ، بحسبه ، مفهوم قروسطي والضلع الثاني ، بحسب باختين هو ما أسماه Abel Lefranc التقليد الرامي إلى إسباغ المثالية عليهن وهو ما تم تدعيمه من جانب الشعراء ” المتأفلطين “ Platonizing والذي يقوم في جانب منه على تقاليد الفروسية للعصور الوسطى التى يبدو لي أن أغلب البلاد الإسلامية ما زالت تعيش فيها زمنيًا .
طبعا هناك شواهد و أدلة كثيرة على رأيّ أبرزها استمرار إنتاج المجتمعات الإسلامية لفتاوى إهدار الدم وتنفيذ أي شخص لها أحيانًا وليس بعض الأنظمة فقط ( من باكستان إلى السعودية و حتى مصر ) مقارنة بحقيقة أن آخر مواطن بريطاني تم إعدامه لما يسمى جريمة إزدراء الأديان أو التهكم والتشكيك في فكرة الثالوث المقدس في بريطانيا كان توماس آيكنهيد عام 1697 . نحن كمجتمعات إسلامية نعيش في 1697.
تلك الغنائية تحاول كثيرات منا من أجيال مختلفة نفضها والتخلص منها لصالح الأغنية الحقيقية للذات التي لا يرغب أحد في سماعها ، ربما ولا الشاعر الرجل .
“لوسى إيريجاري” تقول العلة: ” المرأة ؟ “لا وجود لها” فهي تستعير التمويه الذي من المتطلب منها أن تتخذه ، تنسخ كالبانتومايم الدور المفروض عليها والشيء الوحيد المتوقع منها هو أن تحافظ – بنجاح – على دورة الادعاء بتطويق نفسها بالأنوثة “. (5)
في الحقيقة تختنق اللغة والصوت ومغامرة الكتابة بإزهاق منطقة الاختلاف الحتمية في أي نص حين نتظاهر بأن النص الجيد لا هو مذكر ولا مؤنث، وهي حقيقة بالطبع لكنها توحي بنفي حقيقة أخرى وهي أن هناك – إلى حد كبير – نص مذكر أو ملامحه تشي بأن صاحبه رجل وآخر مؤنث يسهل تبين ” نوع ” صاحبه ولو دون رؤية الاسم للتأكد أن الكاتب أنثى ، على الأقل أرى أن هذا ما زال يحدث في أغلب الكتابات الشعرية للشعراء الرجال والنساء في منطقتنا العربية ، لأن المسافة بينهما خارج الكتابة كما بين كوكب عطارد وأورانوس. وكما أن صمت النساء يختلف عن صمت الرجال، كذلك كتابة النساء تختلف عن كتابة الرجال. والقول بغير ذلك في بلادنا خاصة أراه ضربًا من الكذب. تعجبني أوقاتًا كتابة الرجل التي تغادر منطقة الذكورة إلى أرض وسطى أو حتى إلى منطقة تقمص لصوت أو وضع الأخرى ، أو الكتابة كأنه أخرى. المناوآت المتناثرة الفردية هي البداية ، شرط عدم الافتعال .
ومن جانب آخر فإن ” تجنب ” الكتابة عن الجسد خيانة مضاعفة له خاصة في المعجم النفسي للشاعرة العربية .
كيف لا نكتب عما يُستلَب ويُقهر ويُضرَب ويُستخدَم ويُغطى كل يوم ؟
كيف نقبل أن يظل في منطقة المسكوت عنه ؟
وعندما نفعل ذلك ألا نكون شركاء متواطئين مع مجمل الظروف التي أدت بهذا الجسد إلى كتابة نص يضيف إلى ظلمه ؟
مؤخرا قلت لشاعر صديق بشأن استخدامي وشاعرة أخرى لمفردة جنسية أو عضوية في شعرنا أنها طول الوقت تتحرك كبندول فوق رأس الشاعرات. وأضفت موضحة : عدم استخدامها بشكل شائع شعريا معناه الوعي بها وتعمد ” تجنبها ” طول الوقت .
كم شاعرة وروائية منا تستطيع أن تتبع – بإخلاص – دعوة الروائية الفرنسية ” مارجريت دوورا “ حين نصحت ” :
” اِقْلِبن كل شيء . اِجْعلن النساء نقطة مغادرتكن في الحكم. اِجْعلن الظلام نقطة مغادرتكن للحكم عما يسميه الرجال النور. اِجْعلن الغموض نقطة مغادرتكن للحكم عما يسميه الرجال الوضوح”. (6)
بهذا تتلاقي ” دوورا “ مع معظم رائدات النسوانية اللواتي – على اختلافهن الفكري – يرين أن الرجل قد جعل من نفسه مرجعيته ومرجعيتنا. وحيث تتوه اللغة التي تحاول الانعتاق وتشعر المرأة أنها سجينة مفاهيم تضاد إنسانيتها، حيث تشعر أنها غريبة داخل مجتمع الفرجة والتلصص، مضطرة كالغريب لترجمة نفسها باقتباسات من الآخر حد تملق جمالياته والدفاع كثيرًا عن مفاهيمه واسترضائها، فإن لغتها تشحب وصوتها وأداؤها يزداد اضطرابًا ، وتزداد المشكلة حين تتجه إلى محاولة كتابة الجسد لأنها تفعل ذلك دون تحرر اجتماعي شامل معلن ينبع من جذر الروح ، دون تحرر موازٍ لدى شريكها وهذا الواقع يُلقى بظلاله على النص الشعري النسائي على وجه الخصوص، بل ويربكه ، ويؤصل لانشطارها ومن ثم انشطار نَصّها، بينما في الغناء تستطيع أن تلتقط أنفاسها الشعرية وتختبىء خلف قصيدة نثر حيث كثيرا ما يتم استنساخ أو إعادة إنتاج الصيغ والصور وطرائق التعبير الخاصة بكل نوع ( وعفوًا للكلمة ) أي ذكر أم أنثى، مع محاولات كما أشرنا إلى كسر هذا الطوق. لكن بعد نصيحة دوورا ، هل هذا كل ما هنالك ؟
” ولأنني واضحة كالروبوت/ أفتقد المغفرة من أبي “.
هل يمكن أن تكتب هذا سوى أنثى بل و أنثى تعيش تحت نير الثقافة العربية ؟ هذه كولالة .
إنها الكتابة والتنفس والحياة تحت الركام. وكل ما نفعله كنساء حين نكتب، هو استجابة للمد والجزر بين الذاتي والاجتماعي في كل ديوان شعر. نعطّل شرعية النص إذا نؤجل حريته، بحسب لعنة المونولوج المهيمن سياسيًا وذكوريًا ، ولعنة تشفير رؤية المرأة للكون ولنفسها وتشفير رؤية الرجل لها ولعنة الخوف من الانشقاق على المتن جماليًا واجتماعيًا التي طالت الخيال.
لعل كل الكتابة الشعرية الحديثة للمرأة العربية هي المشروع الناقص ومن ثم المستمر لكسر الثنائية التي تبدو كالحتمية التاريخية: إما الغنائية (طورت أشكالها وصيغها في قصيدة النثر الراهنة وبالطبع لم تختفِ ) التي تتمحور حول الذات في علاقتها بالآخر/ الرجل ( أبًا أو أخًا أو حبيبًا أو قارئًا )، أو الاحتجاج بنص يحاول أن يتزيا بالإيروتيكا. لكن خطر في بالي الآن مسألة أخرى . لقد بدأنا نلمس التجرؤ بثيمات عن المِثلية لدى بعض الروائيين وشباب الشعراء المصريين ، و هي بادرة لا شك في صالح الإبداع لكن متى يمكن أن نحلم بكتابة شاعرة أو روائية مصرية مثلا عن نفس الثيمة ، طالما نتكلم هنا عن وطأة الجسد على موضوع الكتابة سواء بحضوره أو بتغييبه ونفيه؟ إن حتى من بدأن في مصر إدماج الإشارة إلى المِثلية في كتاباتهن السردية ، يجعلنها مشهدًا يخص آخر أو مجموعة أخرى من الذكور هن الشاهدات عليه ، لأن المجتمع ما زال لا يتحمل وصف الكاتب الرجل للعضو الجنسي للمرأة إلا بالتظاهر بأنه لم يقرأ أو يرى ، لكن إن ” قرأ ” ( ولو فردٌ واحد ) فلا بد من العقاب كما حدث مع أحمد ناجي.
هكذا المرأة العربية محكومة لزامًا بشرط الكتابة في الظلام – ذلك النص الذي لا تكتبه ولا تنشره أبدًا وتقدم كتابة أخرى تسرب إليها جزء من كينونتها، بمضاعفة الرقيب الداخلي عن زميلها الشاعر أو الكاتب، محكومة بشرط كتابة الجندر وهاجس الطيران ومأخوذة سرًا بفكرة الساحرات الشريرات اللواتي – فقط لخروجهن عن المألوف – كن ُيتهَمن بالزندقة ويُحرقن في أوروبا عصور الظلام. نعم هي خفاشة ترى في الظلام وهي تمد يدها بالقليل المسموح إلى منطقة النور، مهما أنكرت وقاومت، مُنتِجة بهذا ما تسميه أمينة غصن – في سياق آخر – ” نص المحنة “. لكن لا أنكر ، و لماذا أنكر ؟، أني فرحة بالنص الغاضب الذي أكتبه وتكتبه المرأة شاعرة أو قاصة في مصر منذ فترة، و أحلم بما بعده ، بما لا أعرف ملامحه لكن أريده حرًا ليس فقط مما خنق كتابتنا وأغنيتنا سابقاة ، بل من تصورات قد تعتدى على الجمال والحرية باسم مجاراة مفاهيم حديدية عن متطلبات الحداثة.
حين أقرأ قصيدة نثر جميلة لشاعرة عربية، كيف أستمتع بها ؟
أستمتع بقدر ما تعودت ذائقتي المدجنة اجتماعيًا ( وربما جماليًا ) أن تفرح بهامش من الاختلاف والطزاجة بوصفهما تثويرًا. لكن هذا الهامش صار شرهًا و يطلب المزيد و المزيد . أفكر في نص جميل بعد كتابته كما يستمتع السجين بفرجة هواء من قضبان الزنزانة إذ يقول معزيًا نفسه : وماذا لو لم تكن هناك نافذة ؟ ” حيث حيلة المقارنة بالأسوأ أول مظاهر اضطراب حيثيات الشرط الإنساني. الطبيعي هو أن يظل يقول لنفسه : ماذا لو لم أكن في السجن ؟
وفي ديوان كولالة نوري المحاولة ليست لكتابة الجسد، ليست لجعل الجسد مسموعًا ، بل لمحاكاة ألم الجسد بالتشديد على ما تطمئن ( نطمئن ) أنه الأكثر قبولًا لدى تعبيرنا عن معاناته وهو ألم النفس. لكنه أيضًا وأساسًا نحن، وإن تداخل مع همّ الجسد وإشكاليته في الواقع العربي، بالأخص للمرأة وبالتأكيد القصيدة الجميلة لشاعرة تكون كذلك ليس بقدر ما تكسر من التابو فذلك لا يخلق فنًا في حد ذاته. كما أشك كثيرًا في كتابة الجسد في نصوص أنثوية عربية شعرية طالما ينشط ميكانيزم قمع المرأة للجسد من المجتمع عبر السلطة الأبوية فهي لا تكون حرة تمامًا وهي تتعاطى مع كسر التابو الجنسي في الكتابة. مجرد تمارين أو تدريبات على حرية مفتعلة أو مشتهاة لكن ما زالت بعيدة ، أما من تكتب عما مارسته بحرية فقد تكون نصوصها جميلة أو لا تكون . هنا ميزان الموهبة و لا غيره.
بمعنى أخير، حيث المرأة العربية فى العموم غريبة عن جسدها، راجمة له ، خائفة منه و عليه كما علموها ،كيف لها أن تكتب عنه ؟
لابد سيأتي التجريد والمجاز وقتها لا بوصفهما منقذين بل حتميين إلا في أحايين ساطعة.
بعيدًا عن تجاسرات و شجاعات و فن كتابة و أخرى يمكن ملاحظة ذلك الإعجاب النقدي الذي كنت أرصده أحيانًا من بعض الناقدات لنصوص شعرية نسائية اقتحمت التابو الجنسي فحسب، بدون عمق أو جماليات بديلة تكون نعم منزوعة المجاز و لكن ليس فقط للمباهاة باستخدام كلمة هنا و هناك ،مثل ذلك الإعجاب و الاحتفاء بنصوص صماء أوقاتًا أراه تدليسًا على الذائقة يختصر الأزمة في العارض، فبعض هؤلاء الناقدات كن يكتفين بما يرينه الحل وهو تسريب كلمة أو صورة ، وبهذا تكون الثورة بشقيها الاجتماعي والفني قد أُنجِزت ، و بدون توصيف و تشريح أعمق لإشكالية المداراة و الكشف المفتعَل أو التلويح الاستعراضي المبتسر لأن بعض كتابات شعراء رجال يمكن أن تكون بدورها متهمة بهذا .
إن الكتابة الشعرية للمرأة العربية سلسلة من الأنشوطات. لعلها تحتاج إلى حيل إلتفافية أكثر في التعامل مع خطاب الرجل العربي والشاعر العربي معًا. أو تحتاج إلى كل اللامبالاة الممكنة في مواجهة ردم الروح بالمستقر ، لعلها تحتاج إلى تجاوز شعورها بالرغبة في التماهي مع نص الرجل أو تكمله، بالإجابة عليه. ولعلها تحتاج إلى تجاوز الخطاب مفرط التحفظ في التعامل مع الآخر ، لكن هل يمكن إنجاز هذا في الشعر وحده و بمعزل عن علاقة المرأة بالرجل خارجه ، في الشارع والبيت والعمل ؟
ومع هذا فالطاقة الانقلابية في النص تقاس كذلك – جماليًا – بمدى تأزمه من الاندراج وتخليق حلوله الفنية الخاصة.
تنجز المرأة الشاعرة كتابتها وهي عارفة أن المتلقي يريد منها بالأساس لغة عذرية وحداثة الشكل الراهن لقصيدة النثر العربية أو لبعض موضوعاتها لا علاقة لها بتلك الرغبة لدى القارئ.
وبالطبع الغنائية ليست احتكارًا أنثويًا لكنها أوضح في قصيدة المرأة العربية بصورة عامة رغم كل محاولات تمردنا. وقد تكون ذات صدقية عالية فيما يتصل بالسيكولوجية الناتجة عن التدجين، لكن ما دمنا ذكرنا ” التدجين ” أين يكون ” الصدق ” ؟
نجد شيئًا بداخل الغنائية يراوح بين نبر إدانة الآخر ونبر التبرير للذات، لهذا عندما تقول كولالة نوري :
“لم أقترف سوى كأس
رفعتها
في صحة حبك “.
( النبر التبريري كاعتذار عن الحب، أو استجداء العفو من الرجل ).
أو:
” أكمل الرهان أو أكمل الغابة بشهود عابثين
و أنا بأبجدية طفلة
كنت أبحث عن أصابعك التي أنكرتني”
فإنها تشبه صوتًا أدونيسيًا كتب مرة:
“لكن حياتي، مثل كلامي ، تأويل”.
وتشبه نصًا بعنوان ” حساسية “ لحلمي سالم في ” الشغاف والمريمات “ ذلك الديوان عالي الغنائية ضمن تجربة سالم الشعرية العارمة والمتنوعة بتجريبها طبعا:
“بوغتُّ أصرخ جنب روحي
كلما تركت قميصًا عند عازفها المنحف
وانثنت قرب اليدين.
احترت في جسدي
وقلت: ” كان أبيضها المرهف ضد شعري
ثم مست ركبتي”.
وتشكل استعارات اليمام واللؤلؤ وغير ذلك – المتبادلة بين الجنسين- في وصف المرأة جُل قصائد ” الشغاف والمريمات ” الغنائية السمت، والكثير من درويش في بعض مراحله والغنائية السارية كذلك في بعض دواوين فريد أبو سعدة وغيرهم. وفي ” الشغاف” مثلًا المرأة : ” قطة ” و” نرجسة ” و” سوسنة ” و” غزالة ” و” فراشة ” الخ. إنها صور في السيكولوجية الخاصة بالرجل الشرقي تجاه المرأة. وقصيدة النثر الراهنة لدينا في مصر تحررت من كثير من هذه الصور في تجارب الكثيرين و الكثيرات بعد جيل السبعينيات الشعري .
الأجيال الحديثة تحاول شيئا جديدًا ، لكني أيضًا لا أطمئن دائما لحالة ” الانتباه ” لضرورة أو الرغبة في إلغاء شيء أو تجاوزه وتحديثه ونلمس نصوصًا عديدة ليست ابنة مرحلة جيلية بقدر ما تعكس الرغبة في مجاراة الآخر عبر صفحات التواصل الاجتماعي. فقط الوعي الإرادي ذاك لا أرتاح له تمامًا ( هو يطرح نفسه أيضًا فى الرواية المصرية التجريبية الحالية أحيانا بتصادمية تبدو حتمية قبل أن نصل إلى شرط الحرية و هو ” الاسترخاء ” كخلفية أثناء الكتابة رغم ما تخلقه داخلنا و تستنفره من تأزم ، أو حيث تسيطر ثيمة مستعارة من فوكو تحديدا على أغلب تلك الكتابات المدهشة مثال فكرة المخطوط و الصندوق الخ )، كما لا أرتاح تماما لكل ” قرار” مسبق على لحظة كتابة الشعر، إلا لو كانت النتيجة فذة ومدهشة بالطبع، وهذا كثيرا ما لا يكون بنية قرار على أية حال.
الذي أقصده بالغنائية في ديوان مثل ” تقاويم الوحشة “ ليس بمعنى قابلية النص لأن يغنى، فقدرة الشعر الحديث على تفتيت وحدة الصور التخيلية لصالح تفجير المفردة بخصوبتها الناتجة عن أشياء قد تبدو منفصلة، لا تنفي أثر تلك الطاقة التفجيرية في اللغة والصورة المدهشة التي تتراكم في طبقات واحدة تلو الأخرى لتصنع معنى ما وموسيقى ما – المعنى البديل للمعنى المألوف، المعنى الناتج عن النسف والذي يفتح حوارًا على خيال القارئ في القصيدة الراهنة .
والغنائية البديلة، أو في صورتها الحديثة في النصوص الشعرية للمرأة العربية، هي المخزونة بميراث يُضيء النص برائحة المجاز لكن قد يصل به إلى التعتيم بالإفراط ، رغم محاولات ( في ” التقاويم “) الاختراق باليومي المحسوس. كذلك تتمثل في الانكفاء على موضوع النفس، من خلال الآخر / الرجل، ( و لعل الآن بزغت ملاحظة على نماذج أشعار أجيال شابة من الشعراء الرجال في مصر ، الغزليات المكثفة تجاه الحبيبة ، و هذه تحصد الكثير من الإعجاب على فيسبوك و لا يتهمها أحد بأنها تؤدي إلى إضجار الآخر أو الأخرى شأن ما يسم أو تُتهم به مناجاة المرأة في قصيدتها عن الحبيب مثلا ) ورثاء الذات الأنثى وفي تقصد انتقاء مفردات وتشبيهات تندرج ضمن الإطار التخيلي للجماعة على المستوى الثقافي داخل دائرة قد توحد ” الحالة ” التي تميد بها قصائد النثر العربية النسائية التي اعتمدت هذه الحيلة الجديدة لإخفاء الغنائية المطورة لنفسها داخل قصيدتهن.
فإن كانت المرأة باستمرار قطة أو غيمة أو غزالة أو عصفورة حين تصف نفسها في شعرها، ألا يستحق الأمر أن نسأل ماذا لو اتسع خيالها أكثر خارج دائرة هذه المسموحات الاجتماعية ؟. لو لم يكن هناك – على سبيل التخيل اللحظي – رجال في العالم، هل كانت المرأة ستكون قطة أو غيمة أو غزالة ؟
إنها استعارات الرجل والشاعر، التي أعارها إياها وقبلت بها المرأة العربية الشاعرة لوصف نفسها، وكاتبة هذه الكلمات ليست بريئة من هذا النقد، ولا حتى على المستوى الشخصي في تصورها لنفسها. لكن استخدام كلمات تجريحية للمستقر الاجتماعي في تصوره عن الأنثوي يبزغ هنا كفعل بطولي لكسر دائرة الملل ، دائرة الطبشور المرسومة حول كل امرأة و التي لا نراها إلا حين نغامر بالقفز خارجها !
الغنائية ابنة نسق ما. وفي ديوان ” تقاويم الوحشة “ لا نستطيع تجاهل النزوع إلى ” معنى”. هذا المعنى يحتشد بأن يحاول طمر أشياء وقول أشياء وسرد أشياء ووصف أشياء وإقناعنا بأشياء أو أحيانًا عدم الاهتمام بما نظن – ولكن في حدود لدى كولالة.
إنه معنى غائر في أنوثته وفي جرح تلك الأنوثة . ولأن الغنائية أيضًا تكرار ثيمة أو صوت، فنحن أمام هذا الانحياز في المتن، وبجلاء.
” ليس لدى النهر
ما يضاهيك في المسرى
ليس لدى الشمس
ما يباريك من دهشة الفجر
أو حرقة الغروب،
ليس لدى المطر..
نغزة الحياه كأصابعك !
ليس لدى الريح
ما يفوقك من عبثية الهبوب
وليس لديّ سوى الطفولة
لأحمي سماءك “.
إنها سوناتا.
عنوان هذه القصيدة ” ليس لديّ سوى الطفولة ” ويتقارب مع هذا الصوت في قصيدة ” لحظة ينام الدلفين ” : اِنهض / يا دلفيني النائم/ لا تهيء الرخاء للتدليس/ الوحدة../ الوحدة تموجني حوله/ واندس ببطء موجع.. معي / تحت الغطاء”.
والزمن انكفائي داخل النص:
” أوقف يا قبج
دوران الساعات
فالانتظار مطرقة من يأس
يا قبج
لك تسع وتسعون من نبضي
مقابل شمة واحدة من نبضه
أقسم بصوتك يا قبج
هل لك ضحكة من عام 1995″.
هذه الأبيات من قصيدة ” تحالف لاستدراك أوميد ” ( و القبج طائر يعيش في جبال كردستان يراه الكرد رمزًا لهم ) وأيضًا في ” بيت الندى ” تقول :
” تغزل الزمن من ألوان وقتي
وأنت تحاور الأمكنة “
وفي “ Happy New Year ؟؟؟ “
“عام آخر
أمدد قلبي على أغاني الحب
وأهدهده على النغمات الحزينة
الأصدقاء يظلون أصدقاء
وأنت .. أنت “.
وتتوالى القصيدة برثاء لعام آخر كل بضعة مقاطع. وأيضًا في قصيدة عنوانها ” حين تمطر الأكاذيب ” تكتب الشاعرة : ” يا إلهي كم كنت أحب الشتاء” والهدف توكيد توقف الزمن بمعنى توقف الفرح، فنجد :
“الوقت دود لحوح
والحب التفاتة ساهية للقدر..
كيف تكون لي..
وكلما نغتبط
يتذكر القدر سهوته؟ “
لماذا أحببت ” تقاويم الوحشة ” وأرهقني المجاز فيه – هامشيًا ؟
لأنه – ضمن رؤية غنائية للعالم وللحب وللنفس – يمنحنا بعض الاختلاف ولا يسقط في فخ تعبير مفتعل عن شيء لا تحسه صاحبته ،كما أحسسنا ، بدعاوي لا تتجاوز تحديث النص وشروط أو مواصفات تلك الحداثة. لكنه أيضًا أنموذج للكتابة الشعرية النسائية التي ليست مرهقة في تراكيب المجاز مثل بعض شاعرات عربيات أخريات قرأت نصوصهن المتاهية إن على مستوى الصور أو المفردات. وديوان كولالة يخضع ، مثلما تخضع أغلب دواويننا وربما دون دراية واعية من صاحبته ، لدائرة المحاذير التي نعلمها ونتنفسها، وتسم كتابات البعض و هي لا شك ورت نفسها بعده. وكتعبير عن أنثي تحب أو كانت تحب يُنشأ ( بضم الياء ) الديوان على الحنين للماضي الذي نعلم ماذا يعني على المستويين الجمعي و التاريخي للعربي ، وأيضًا على المستوى الشخصي الذي تؤرخ الشاعرة هنا لتقويمه.
ثقافيًا نحن مجتمعات ” الما فات “، لأن مافات دائمًا أكثر جمالًا ومدعاة للطمأنينة الكيركجاردية مما ينتج عنه عملية إمحاء مستمرة للحاضر.
وقد يصبح الفعل المضارع طموحًا أو قد يستخدم لوصف الماضي استنهاضًا على أنه الراهن.. بما يشحذ هذه الغنائية المضطربة في حلم الوثب خارج القفص.
إن سطوة الشعور بالزمن الذي هو التنين المنتصر وجوبًا ، وللعربي هو سجل خيباته و تاريخه المعتدى عليه، هذه السطوة مسربة في الديوان:
” الوقت دود لحوح
والحب التفاتة ساهية للقدر..”
وفي قصيدة أخرى تقول :
” يهرم الشتاء
لأنك لست لي !!
حتى الغبار يهرم
ولا ينفعه ندى فجر غريب..!
السلام المهاجر جر أعمارنا
ولكي نسد الغياب
نقتعد وبأيدينا مفاتيح الأبواب
لا تطل إلا علينا.
وأنا أنتظر”.
وكأنثى شاعرة بالوقت تكتب : “خمسة عشر فطامًا / بلا هدهدة منه/ خمسة عشر معطفًا / دون أن يضمني معه شتاء/ خمسة عشر مساء × (12 × 330) / دون ( أوميد ).”
هنا ” مقاعد مهجورة ” و ” قناصون أشباح ” و ” حنين فائض لتواريخ منشرحة صالحة للتدوين “. والشاعرة تشاطر “المرآة بقايا عام / فينبت بكاء/ تتزاحم فيه خطوات أنوثة عاطلة / ويدان مستسلمتان للفراغ “. وهناك ” عتمة .. وحوافز ذكرى “.
وفي قصيدة “عطر أخضر” تقول :
“سأنام قليلًا
على طرف نافذة
مثل خيمة عنيدة
على ركام منزل
أو ابتسامة تُطل
على قرية من صراخ
سأعاقب قلقًا يتبعنا
ونحن نمسك احتمالية الفردوس”.
أما في قصيدة لابنتها فتكتب ” وأورثك أسئلة / وزوارق لم تغادر موانئها أبدًا / ورغبات/ لم تألف قلبًا يؤويها”. وفي قصيدة أخرى ” أوقف … دوران الساعات”.
هذا الزمن الواقف أو توقيفه، هذه المقاومة للتبدل وعدم تصديقه هي موقف غنائي شجني ونوستالجي بامتياز. اللغة الشعرية المرتبطة بهذا الموقف تستنسخ آليات كبح تخييلها، فهي إذن ” كابتة ” لنفسها إلا في مساحة التغني بالألم، بما نظنه قَدَرًا فيما هو إنجاز سوسيو ثقافي صار نحن .
تتألم كامرأة عربية من قسوة مزدوجة للزمن والحبيب فتكتب :
” تغزل الزمن من ألوان وقتي “
هكذا الجسد غير موجود إلا حين تتذكره وتذكره صاحبته :
” حين تعبر كل يوم بلا استفهام
في أنفاق انتظار جسدي
أنكسر مرتين:
مرة .. لجفافك
وثانية لكومة ليال لا تنام”.
ولديها مراوحات ما بين التغني بالنفس أو رثائها وبين إدانة الآخر:
” لك في حرفة الزخرفة
أربعون عقدًا
لم أكن سوى نقشة أنيقة
على آخر وسادة “.
وأيضًا :
” هرب من ضوئي
سرجه لا يصلح إلا لظهر ظلام”.
إن الزمن يتكتل و ينحل في فعل الكتابة عنه أو يعيش أحد أطواره ( ماض – حاضر ) والمستقبل ليس مغريًا للكتابة بنفس القدر. ويتسق مع الزمن المرثي في النص تلك الاستدارة إلى الوراء التي تحتضن أنشودة النفس بتأملاتها وعذاباتها وذكرياتها. الفجائعية ما زالت رهينة نفسها .
إن تكرار مفردات أو صيغ أسلوبية ليس حيلة جمالية فقط. إنه تقنية للتعامل مع الزماني ربما تعكس فلسفة معينة تنطوي على دعم فكرة التوقف الذي قد يكون مكانيًا أو زمانيًا كذلك، أو الثبات في مرحلة نفسية ترفض أن تسدل الستار على الماضي أو على الذاكرة بوصفها ماضيًا مجلوبًا مُبعَثًا وقويًا. إن تكرار مفردة ما يؤكد الغنائية بمعنى إيقاع
موسيقي ما، والإيقاع الموسيقي هو إيقاع الفكرة وإيقاع الإحساس الذي يكشف عن التغني ، و يقترب من بكائية على الطلل .
“مهيأ تمامًا
وأنت تعبئ في
بآخر ما لديك من قسوة
قبضة من نثار القلب
أو زرقة من انتحار غيمة
مهيأ تمامًا
لتسدل على الذاكرة
ما طاب من طين
مرصع بأغصان
لأحلام مشردة “.
هذا في ” انتحار غيمة “. ولأن الماضي هو المنطقة المثلى للحلم الذي يُفتّق الغنائية ( لكونه المنطقة الحصرية للحنين ) تفور النوستالجيا المعترفة بامتداد المتن في قصيدة حادة في وخز المقارنات بين الأنا والآخر بعنوان ” أنا أحلم ” :
” أنا أحلم،
وأنت تعد أنّاتي نبرة نبرة
أنا أحلم
وأنت تعد صباحات فائتة
أنا أحلم..
وأنت تعد للآتي تفاصيل الحساب
أنا أحلم..
وأنت تشذب حدود الخطوة
أنا أحلم..
وأنت تبتسم بوقار
أنا أحلم….”
إن الحديث عن ” ذكرى قديمة ” و ” غبار يهرم ” و ” حوافر ذكرى ” و” موتنا المتكرر” وأسئلة استنكارية ناضحة بالعتاب وعدم التصديق وتقرير ما هو أهل للسخرية من حقائق : ” حتى الشتاء يهرم ؟ “، ” كيف نلتقي في الغياب “، ” بتر للذاكرة / بتر/ حين أمسك قلبك/ بتر للحواس بالخدر”.. كلها شكوى من الألم الذي يعطل السلام منثنيًا على نفسه كأنشودة طفل مهووس بعالم ينفجر ضد طاقتها على العذوبة والإخلاص لولا أن كولالة تفعل هذا، أى تنشد نشيدها أو نشيجها ليس بصراخ إنما بمجاز يكثر على أغلب النصوص حيث المجاز ضرورة لغناء الروح . غيرها يفرط في هذا أكثر منها أحيانًا.
لكنّ التعاطف الإنساني ممزوج برثاء الذات المشجوجة ، يتحقق في قصيدة تهديها ” إلى روح العتّال أبو ناهدة ” أحد ضحايا العنف الهيستيري في العراق من أبرياء الشارع والقدر، فيما ” تشكيلة أخيرة للوطن ” بتقسيماتها إلى خمسة مقاطع تتجاوز رثاء النفس إلى رثاء وطن على خلفية اعتقال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وإشاراتها إلى سجن أبو غريب وفظاعاته في ظل الاحتلال الأمريكي وعلاقة الأمومة – البنوة في التعامل مع واقع ممرض باختراع التهم للمواطنين.
وهنا ذكرتني إحدى القصائد بمقاطع مطولة من رواية غادة السمان ” ليلة المليار”. مقاطع كولالة حواريات موصولة السخرية ومشبعة بالهم الإنساني والتفجع و الحيرة على فكرة استبدال الألم بالألم. ولأنها كردية وقبل هذا إنسانة وشاعرة فالوطن يظل شرخًا – مضاعفًا عن شرخه بالنسبة للعربي المستلبة أرضه.. فقبل أن تغتصب أرضك، يجب أن يكون لك أرض ، ليتم اغتصابها. إنه ( الوطن )كما تقول وتصفه هي في الديوان ( و رمبا تغير مفهومها عنه الآن ): ” موت قديم وحرب قديمة . موت جديد وحرب جديدة “.
إن صدمة اتهام الآخر للذات تتواشج في الديوان إما بأسئلة دائنة للآخر وتعلي نبر التبرئة للذات أو تدخل في حال من تدويم الاعتراف الرومانسي .
ومرة أخرى هذا نزوع شعري يكاد يكون لا إراديًا في المتن لصالح الغنائية. يجب أن نصدق أن النثريين يقدرون أن يكونوا غنائيين ، و يختارون ما بعد ذلك إما التمرد ، أو الاستمرار .
وهي غنائية بمعنى ذهول النفس في مواجهة العدوان على المعنى، الحاجة للاطمئنان إلى معنى في العالم وله. هكذا تلتصق الحداثة بالنص كآخر حائط للمعنى وللنفس وهي تتشرخ وتعاني من ذلك ، تدركه وأيضًا تقاومه.
المعنى أيضًا إحساس بقيمة راسخة، شعور ما وتصديقه على نحو يقيني، هو احتياج لفكرة ، لشعور ما يُستَمد منه الرغبة في الحياة ، الحاجة إلى ” فهم “. كما أنه السياق المنطقي الافتراضي لمنظومة علاقات سببية يُخلف نسفها أو قلب معادلتها نسفا واجتزاءًا للروح تظل أحلامها ومشاعرها تملي الحيرة والانشقاق وعدم الفهم بإزاء الحصاد، وعدم الحرج في الإعلان عن الحاجة لمعنى، للفهم.
تأتي بساطة تكرار الاعتراف ( كما في قصيدة عنوانها ” رومانسية ” تبدأ ” أحبك ” ويبدأ مقطعها الثانى ” أحبك فعلا..” و الثالث ” أفتقدك” و الرابع ” اشتقت إليك ” ) كلها إنشادات أو أناشيد تتعالق مع القليل من مفردات اليومي داخل النسيج النصي للتقاويم صانعة قصيدة نثر مأخوذة برغبة العالم في التفكيك فيما الذات الشاعرة لا تدري ماذا تفعل مع هذا، وهي – هنا – ذات نزاعة للربط والترابط لكنها تجد ” أشياء مخلوطة بين الموت واللاموت “، و ” التفكك عال في لغة الكلام/ ونحن نتساقط منا ” ( من قصيدة ” طاعن في الخيبة ” ).
عدم فهم طبيعة ( هل هي الكلمة الصحيحة ؟ ) الخداع، وراء حالةعدم الفهم و تفكك الكلام أو ما يبدو كذلك. هذه ساحة السخرية والمرارة ضمن استنساخ الألم لذاته توليدًا ذاتيًا قد يدعمه الآخر بالتكرار، ونرسخه نحن بقبول متجدد :
” للمرة الأكثر تواطؤًا
مع جرح أجدده طوعًا كوحشٍ بري”.
وأيضًا تقول:
” ولا قارب لي سوى
أمنية مكررة “.
وتكرار ” يا حبيبي ” بخصوصية ودفء النداء وحالته، غناء أنثوي فياض . إنه – بكلماتها في سطر من قصيدة لها – ” حنين فائض لتواريخ منشرحة صالحة للتدوين “، أو كما تقول هي في نفس القصيدة ” طاعن في الخيبة “:
” وأغنية شوق جنوبية ليكتمل المشهد
(….. ردتك تمر طيف
… ردتك تمر ضيف) “.
إلى أن تصل الصورة في ذروة غنائيتها ( والأخيرة مقتطفة من أغنية عراقية قديمة لابن البصرة الفنان الراحل فؤاد سالم ) وشاعريتها إلى أن :
” تدق الساعة..
لا أمراء
ولا شبيهات ساندريللا !
تدق الساعة
والغطاء محكم
والبرد محكم، وصداك شاهدة على تبجح الجغرافيا !
فجارك اللصيق جدًا
لا يشبهك أبدًا
وجهك مقطوف من بحر غريق
وجهه منتفخ من شدة الحياد
تستند على نشيدك الأخرس المحاصر بغبار يثيره
حصانك المطعون..”.
ترث كولالة الغنائية – إرثنا العظيم. ترثها كــ” باراﭬان ” أو حاجز لكنها متوحدة معها، مع ذلك الحاجز كتكتيك وحيلة نفسية لا فنية – كأغلبنا ( النساء خاصة في اللجوء للغنائية وليس الشعراء الغنائيين الرجال مثل درويش و غيره ).
دوافع الغنائية ليست نقية ولا حرة حين تستعين بها شاعرة عربية معاصرة. قد تكون اختيارًا فنيا لكنها أكثر من ذلك لأنها مشوبة بأشياء، بخصوصية ميراث ” النوع “، بأنوثة المرأة في مجتمع قامع.
وما أحببته في الديوان كان مساحات الحرية المخطوفة ، حين تكاد الشاعرة ” تنسى”، ( لكننا نعلم أنها لم تنسَ ) فتقول:
” كثيرون
هم الرجال
لكنهم ليسوا سوى ضجيج “ .
هذا انتقامها التوصيفي الصادق من كل تلك الذكورية .
وأعجبتني دقة فهم الأنثى لأغوارها، بحسرة لا تدعي عدم وجودها. الحسرة التي تستحق نوط الألم .
” للمرة الأكثر تجاهلًا للأعراف
أعد لك جلبة قصوى
من دم مهزوم
وقلب يستيقظ على مشرط
للمرة الأكثر تجاهلًا للكرامات
أنام تحت شرفتك
ثلاثين دهرًا
قد أنهض بمنطاد وهم ( كما تقول ).
باتجاه النبذ
……”
وفي نفس القصيدة:
” للمرة الأقل أملًا
في أن يكون للأحلام مأوى “.
وهي بحرية تلقيها في وجوهنا قد تتعابث – تحاول لتثأر من ألمها :
” أفتقدك
ليس دائمًا !!
حولي الكثيرون ليفقدوني
إغماضة عيني آخر النهار كي أزاولك “.
و هذا انتقامها من حبيب محدد .
أو مثلًا تقول :
” جسدك ربوة
مفخخة بالنحل
وجسدي أدلاء خونة !! “
المرأة ليست حرة في أن تجن.
يسمح فقط بالتظاهر بجرعات مضبوطة محسوبة من الجنون وليس فقدان العقل، فقط لكي يضيف الجنون لرصيد أنوثتها وإغوائها، أي بقدر ما تصير أكثر جاذبية وموضع رغبة لدى الآخر ماسك السوط أو صاحب مفتاح الزنزانة. إن عليها أن تكون مزيفة حتى في الجنون !
ويسمح للشاعرة الأنثى بالغضب – طالما موضوع ذلك الغضب ومسببه هو الرجل، لكن فى حدود كذلك. ها هي كولالة تغضب لكن بمجاز :
” أغرز أصابعي
في لسانه
يفاجئني بهلاميته
أخترق زجاج النافذة
ينزف الشباك صور غواصين
وصورة دلفين نائم”.
وها هي تتوعد:
” سأقشرك بانطفاءة
وأخرج باخضرار قلب
وهو ينأى عنك “.
وفي ” لقاء عبر الأقمار الطبيعية ” نقرأ لها :
“هل أنت من الساسة ؟
– لم أفهم السياسة يومًا..
هل أنت مراقبة للوضع الراهن ؟!
– أنا أخاف حتى من مراقبة شِعري
هل أنت مناصرة ؟!
– النصر.. ! المناصرة..؟
مفاهيم معقدة !
هل أنت معادية ؟
نعم .. عدوت طويلًا كي لا أتعب .. الآن !
لم تفهمي .. أقصد هل أنت من جهة الأعداء ؟
– أنا من جهة العراق.
حسنا بما أنك من جهة العراق..
هل مررت بعربة الموت بالتحديد ؟
– هل هناك عربات أخرى ؟
يبدو أنك متبعة .. دعينا من السياسة..
أنت جميلة .. حدثينا عن أنوثتك؟ “.
وبآخر المقطع تقول :
” انظري ابنتك تلوح للأمريكان..
– وأنا ألوح للأمل بدمعة “.
وتكتب شيئًا جميلًا في جزء من المقطع الأول من ” تشكيلة أخيرة للوطن ” :
” هذه صورة الوطن الأخيرة إذن..
الدكتاتور يفغر عن فيه
ونحن أيضًا
هو كي يعيش أكثر .. ربما بضعة أوهام أخرى
ونحن كي نمرن الشفاه خارج أوتار الصمت
البلد يدور
ولا رأس له كي يراجع جيش اللافتات في الشوارع
الديكتاتور يحتفل في سجنه بعيد ميلاده مع كعكة أمريكية
و ” أبو غريب” يحتفل مع داعرة أمريكية
وهي تجرب كبتها الحضاري…
الجسد يرفض هذا المساء
تفاصيل الجسد”.
وبهزيمتها تكتب :
” فالرقعة نفسها
بالأبيض والأسود
وأنت لست الملك..!!”.
وبصدقها و أمومتها تكتب لابنتها:
” سأقرأ عليك
كهوف رئتي
التي تسعل من شدة الإخفاق!
وأورثك أسئلة
وزوارق لم تغادر موانئها أبدًا
ورغبات لم تألف قلبًا يؤويها
……..
……..
………
لم تجديني جميلة
احرقني العناء
لن أخفي وجهي عنك”
وبسخريتها كأنثي:
” تارة
يجهز المن والنشوى
كلما فطن
أن ما وقع على رأسه ليس بحجر
إنما أنثى..!
فجأة
يلفني بشظايا حوار
ناسيًا أنني لست من صفيح !.”
إن المرأة تعودت خاصة في العالم العربي أن تكون مادة، موضوعًا للكتابة والإلهام. ومحاولتها انتزاع مساحة لصوتها المشوه المُخرَس يعني خلخلة المعادلة لأنها تريد أن تكون ” أنا ” فاعلة وقائلة على المستويين الشخصي والتاريخي فكيف تنجز هذا وتبعد اليد النازلة بحسم على عنقها أو لسانها؟ كيف تقول ” أنا حرة ” ولا تؤول إلى ” أنتِ بغيّ ” ؟ بدون الدخول في الحديث عن حقوق و إنسانية من تختار أن تكون بغيًا فهذا ليس مجال ورقتنا ( يشير أحد مصادري التي استعنت بها للمقال إلى عرائض و مطالب النساء البغايا من منطقة ليون بفرنسا أثناء حركة الحقوق النسائية ).
كيف تكون المرأة صادقة حين لا تكتب عن جسدها وغير صادقة حين تكتب عن حبها الرومانسي ( أو بالكاد صادقة فيه فقط ) وهي الاثنان معًا ، الروح والجسد ؟
وإلى متى يظل استلهام المبدع العربي للمرأة للكتابة عنها مدموغًا برواسب وآليات تعصب اجتماعي ذكوري تفضل باستمرار الشابة العذراء – الملهِمة الأسطورية – الأم في ثالوث لا يحتمل مزاحمات أخرى بصور أكثر انشطارًا و تعددًا و حقيقية للمرأة ؟ وهل هناك دراسة ما تحصي لنا عدد مرات إيراد كلمة ” بنت ” أو فتاة ” مقارنة بعدد مرات إيراد كلمة ” السيدة ” أو “المرأة” في الشعرية العربية الحديثة و بالأخص في قصيدة نثرها التي يكتبها الرجل ؟
وبالنهاية بعد كتابة مقال كهذا ورغم أن رأيي في نفسي هو الفيصل، لماذا أريد أن أؤكد لمن لا يعرفني كم أعاني من رومانسيتى ؟
لماذا – لوقت طويل مضى – كان يهمني رأي زملائي الرجال ؟
*تم نشر المقال من قبل بعنوان ” أقرؤك كامرأة ، يقرؤنا كرجل : ملاحظات على قسوة القراءة في ديوان ” تقاويم الوحشة ” لكولالة نوري ، في مجلة “مقدمة” (كتاب غير دوري يعنى بقصيدة النثر العربية ) والتي أصدرها الشعراء: سامر أبو هواش (فلسطين)، عاطف عبد العزيز، غـادة نبيـل، محمود قرني ( مصر ) ومحمد فـؤاد ( سوريا ) العدد ، ديسمبر 2007 و نسخته هذه بعد تعديل العنوان عقب مراجعته و تحيينه و إضافة بعض المعلومات .
الهوامش:
(1)هانز جيورج جادامر : “تجلي الجميل” تحرير روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح: د. سعيد توفيق، الطبعة الأولى عام 1986 . مطابع جامعة كمبردج، ص 261 – 262 (2)المرجع السابق ، 262 |
|
Elaine Marks and Isabelle de Courtivron:” New French Feminisms: An Anthology”. First published inU.S.A (3) |
|
(4) فكرة ميخائيل باختين عن النظرة للمرأة في العصور الوسطى من : Miller, Jane :”Seductions : Studies In Reading And Culture ” Virago Press, 1990, ,p.144 |
|
(5) المرجع قبل السابق ، صفحة 108 (6) المرجع السابق ، صفة 174 و 175 |
|