يحتاج التحكم إلى قبضة، إلى ثنى أربعة أصابع، مساحة ليست أقل من ٥ سم مربع ولا أكثر من ١٠ سم مربع، هذه المساحة هى كل ما أريد أن أدرب نفسى على التحكم فيه، لا أريد لقبضتى أن تفلت شيئا، أريد ألا يتسرب منها نفس. ربما لو استطعت التحكم فى هذه السنتيمترات القليلة أستطيع التحكم فى مساحة أكبر، وقد أتجاوز الحيز الشخصى لى وأعبر خطوط أو تحصينات أحدهم وأوجه قبضتى لوجهه.. ليست كل الأحوال بهذه العدالة، أحيانا ما يصادر الآخرون كل فرصك، كل خياراتك، يقلمون أظافر أصابعك، يصوبون أوامرهم لجبهتك.. افرد يديك، أبق يديك بجوار فخذيك، لا تقبض يدك، فلا يصبح لديك أى أمل فى تحكم مشروط أو حتى ذاتى.. فهل أستسلم؟ لا. ما لا يمكن مواجهته ينبغى مراوغته، التلاعب نوع من التحكم الخفى.. لا يشعر الآخرون بخطورته، بتأثيره لكنه، يتسرب لنفوسهم.. إطفاء وإضاءة لمبة الأباجورة، الضغط على أزرار الصوت بالريموت.. أسرسب تحكماتى الخفية. إذا ضغطتُ زر القناة وغيرتها، سينتبهون رغم أنهم لا يشاهدون التلفاز، يحلو لهم النوم أمامه ويستيقظون من غفوتهم إذا غيرت القناة.. سبيها إحنا صاحيين. يمكننى أن أخفض الصوت درجة درجتين، أستمتع بهذه التحكمات المختلسة، تغيير درجة الإضاءة، درجة سطوع الشاشة.. وكى ينجح تحكمى ليس علىّ المغامرة بإحداث تغيير انقلابى أو شامل، فقط تغييرات فى الدرجات متقاربة وغير ملموسة.. ضغطة.. ضغطة.. يوما وراء يوم.. حتى تصل الضغطات المختلسة إلى أن يصير التباين التراكمى شديدا مثل انفجار نووى وسحابة ضخمة من حيرة وأسى عالقة فى الهواء، ويبدأ زوجى فى إعادة ضبط ألوان التليفزيون، مع همهمة ممتعضة.. التليفزيون ده لم يعد مضبوطا.. أخيرا يشكون فى شىء، ويبدأ اهتزاز خفيف لثقتهم فى ماركة التليفزيون المفضلة التى يدافعون عن جودتها، وكأنهم موكلو توزيعها الحصرى، يحتاج الأمر منى ضغطات ثلاثة شهور ثم ثلاثة شهور، ثم ثلاثة شهور، ليتحدثوا بفتور عن جودة ماركتهم.. ليكفوا عن إسداء النصيحة لمن يريد شراء جهاز تليفزيون جديد.. ليفكروا فى تغيير ماركة تليفزيونهم.
أقبض يدى، وأشعر بتحكمى المتلاعب، لكن قبضة أخرى لرجال لا أعرفهم شخصيا تتوعدنى، فهل يمكن للعاملات فى مصنع أن يتغافلن عن ذنبى غير المتعمد تجاه ماركتهن؟، وأن يغفرن لى الإساءة لمنتجهن؟، هل يمكن لأحد أن يدرك أن ما أردت التحكم فيه كان أقل من طفل تنجبه، ترضعه، تطعمه، ويكون لى فطريا حق أن أعطيه أوامر تلقائية من النوعية المتعاقبة، المتكررة.. لا تأكل هذا، لا ترفع صوتك، لا تتكلم بسرعة، تكلم بأدب.. دون أن يصادروا تلك التعليمات، أو يفسدوا مفعولها، ويسمموها بالسخرية والاستهزاء، أو بإعطاء تعليمات مناقضة فى اللحظة نفسها فيتشوش طفلى، ولا تتولد لبوصلته حساسية الاتجاهات للخطأ أو الصواب، لكن غريزته الماهرة المشحوذة، تخبره أين تكمن القوة فينحاز لها ويتمسح بها، ويعرف أن أمه لا حول لها ولا قوة، فيتعاطف معها قليلا، ويمسح دموعها نادرا، لكنه فى كل الأحوال سيكون فى ركب الأقوى وسيتغذى على ضعف أمه وعلى هذه المتناقضات، وينمو داخله وحش سيبتلع الجميع حتى الذين يطلقون له العنان، ويرخون له كل الحبال، وفى النهاية وأيا كان شكل المستقبل سأكون دوما أنا الخاسرة.