لعوب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صفاء جمال الدين

"الست بتطلق مرة واحدة!"

أجابت راويه ساخرة تداعب حبات اللؤلؤ في عقدها وهى تستعد للمغادرة، تسمرت للحظة أمام المرآة البيضاوية المعلقة على جدار غرفة نوم بثينة المواجه لسريرها.. تابعت:

"افرضي إنك اتجوزتيه ومعجبكيش الحال، إيه أسوأ سيناريو؟ ح تطلقي؟!ّ"

ضحكت فملأت ضحكتها الصاخبة أركان الغرفة التي اتحد في سمائها شعاع النهار المودع وضوء النيون الأبيض:

“انت فعلا مطلقه ومش ح تاخدي اللقب مرتين”

انحنت على الكمودينو الصغير المجاور للسرير والتقطت حقيبتها وفي أثناء ارتفاعها مالت تقبل بثينة المنكمشة على طرف السرير ضامة ركبتيها على صدرها..ودعتها بجملة كاشفة:

“اتوكلي على الله يا بثينة، انت خلاص معندكيش حاجة تخسريها!”

ألجمتها النصيحة فتجمدت الردود على لسانها، بجملة واحدة افقدتها صديقة العمر كل ما تملك ولم يعد لديها ما تخسره!

غادرت راوية، وابتلعت بثينة ريقها وتداولت خياراتها البائسة.

********

نسمات آخر الليل تعانق أكتافها العارية، مطلقة، رعشة اهتز لها جسدها للحظات،تمسح بكفيها ذراعها المكشوفة وهي تجول بعينيها تستطلع السقف والجدران كأنما تراهما للمرة الأولى . فجأة ينطفئ النور اتوماتيكيا بعد انقضاء الدقائق المحسوب ،أصابها خوف إضافي فنهضت وساقاها ترتعشان، تحسست الجدار بيدها بحثا عن مفتاح الكهرباء، طعنته بطرف سبابتها فعاد النور وتلألأ له الجدار الاملس والرخام الفاخر ،استقرت جالسة على نفس الدرجة وقد دفأت الخضه جسدها المرتعش.

************

أمها حائرة دوما …يغرقها التردد ولا تستطيع اتخاذ قرار ملائم …يتنازعها خيارين :

تفصح عن نبأ طلاق البنت الحيلة وتتحمل شماتة الأهل والأصدقاء، البايرة والحاقدة وصاحبة الثأر، أما كان خراب بيت ابنتها بفعل أعينهن اللي تندب فيها رصاصة.

أو تحتفظ بخيبة ابنتها الثقيلة كسر عائلي يقسمون عليه بأرواحهم كعائلات المافيا العريقة، لكنها بذلك تخاطر بفرص البنت –الضئيلة أصلا-إذا ما ذاع نبأ عودتها إلى السوق مرة أخرى.

زوجها لا يريد أن يناقشها ولا يقبل منها استشارة، ضاق صدره خاصة لو كان الأمر يتعلق ببثينة التي يريد أن ينساها وينسى ما جرى لها.

*********

عود كبريت مارق من كيس زبالة مفتوح وقع عليه نظرها الذابل،انثنت ومدت يدها زاحفة على الرخام إلى أن التقطته بمقص من اصبعيها السبابه والوسطى .عاودت النهوض اتجهت بحرص صوب مفتاح الكهرباء العابث ضغطته إلى أعلى وشبكت عود الكبريت في أسفله واضعة حدا لمناورات الضوء والعتمة،عادت لجلستها منكمشة تسند رأسها ذا الشعر المعقوص على الجدار . سقطت يديها فى حجرها ولم تقاوم وأرسلت عيناها تحدق في الشباك المقابل وقد انعكست

أضواء الحمامات عبر المنور.

 

***********

والدها الوديع فجرت الأزمة بداخله ينابيع الشر، تسيطر عليه رغبة الانتقام، يقضي لياليه في مكتب محاميهم العقر الذي وعده بشفاء غليله والثأر لهيبته التي مرغ صهر الندامة بها الأرض. رسم الخطوات باقتدار كي ينقذوا ما بقى لهم من كرامه أراقها الندل على سلم العمارة بعملته الشنعاء.

 

بداية لابد من استرداد الأثاث قبل أن يبدده على ديون المخدرات ،اختطاف سيارته الغالية في عمليه نظيفة يقودها ” نادر”  ومقايضتها بمؤخر الصداق لإنقاذها من براثن الأخ الهائج الذي لا يضمر إلا الشر ..كل الشر .

أما نفقة المتعة فضحيتها بثينه ،سوف تحتمل من أجلها مالا يندمل من امتهانات المحاكم. وقد اقترحت التضحية بهم في خلع يأتي لها بحريتها على طبق من فضة وهى تنفض عن روحها غبار الفضيحة على شاطئ الساحل الشمالي ،إلا أن زئير والدها وأد الاقتراح في مهده:

“عايزه تبريه بعد اللي عمله فينا يا عديمة الكرامه!

حالت أمها بينهما فلم تطالها كفه الممدودة بالأذى ،بصق على يمينه مكملا:

“كلبة و أخدتي على الذل!”

*********

فردت ساقيها على درجات السلم التالية ،أخذت تمدد أصابع قدميها وتنظر لهما بلامبالاة لحظية ، قبضتهما فورا عند سماع صوت اصطكاك احد الابواب في طابق آخر . عاودها الرعب وهى تنتظر الجار المغادر ،لحظات من التوتر تعرق لها جسدها كله وحبست فيها أنفاسها …..تبدد الذعر مع طول الانتظار الذي لم تقطعه وقع اية اقدام على السلم فاطمأنت مؤقتا

عاودت الانبساط على درجات السلم بعدما التصقت للحظات بالجدار على امل الاختفاء الذي تلخصت فيه كل آمالها في تلك الليلة الطويلة.

*******

واعدت العشرات من الصديقات الجدد والقدامى، دائما تلغى مواعيدها في اللحظة الأخيرة وبأعذار شتى بعضها واهية كأنما صاحبتها لا تكلف نفسها عناء الخروج بعذر مناسب. الكل يعتمد على فطنتها التي تدرك بموجبها أنها “كمطلقه” يعرض الظهور بصحبتها الرفيقة -آنسة كانت أم مدام- للكثير من الأسئلة وسط عواصف الهمسات التي تضع خطا تحت ودائرة حول كل من تقترب منها فيتحول الاسم الناصع الى لبانه تلاك في أفواه سيدات مجتمع الفراغ اللانهائي .

ناهيك عن استضافة قنبلة موقوتة من الحقد ،ان لم تنسج شباكها حول زوج المضيفة – في خضم سعيها الحثيث للانتقام من المجتمع الذي ينبذها – ،قد تصيب بعينها سعادتهم او حتى شقائهم العائلي الذي حرمت منه.

ووضعها البائس في بيت ابيها لا يشجع على الزيارة .

********

برودة السلم اصبحت محببة!

 تسربت إلى نفسها المذعورة  بعض الألفة غير المفهومة ، شبكت أصابعها الطويلة وفردت ذراعيها متثائبة حتى قفز الدمع الى مقلتيها .

طوعت لها نفسها المأخوذة إحداث بعض الإيقاعات بخبطات متوالية من قدميها على الدرجة السفلى ولا قدرة لها على دفع التثاؤب الذي اغرق وجهها بالدموع .

*********

“بتتزوقي لمين يا بثينه؟! مش كفاية اللي صابنا على ايديكي ؟..فكري ف اخوكي ونسايبه، الناس كلت وشنا !

اغسلي وشك وغيري الهدوم الملزقه دي ، لحمنا معدش مستحمل نهش الناس فيه!”

صعقتها كلمات شقيقها المؤلمة فهرولت باكية إلى والدها تستغيث من افتراءات الأخ المسمومة:

“عايزه تخرجي ليه الساعة دي ؟ …الجو هنا عيبه إيه عشان تغيريه ؟ ..اخوكي كل اللي بيطلبه منك شوية إحساس بالمسئولية…..انك تستوعبي وضعك الجديد..وده مش كتير ”  

ثم هجرها الأب مغشيا عيناه بالجريدة .

 

“الشغل بيخلص الساعة تلاته ، أنا لسه فاكر مواعيدك كويس!” هاجمها الأخ المتحفز جاذبا ذراعها في غضب .

“آخرنا معاكي تلاته ونص  ، أنت معدتيش النغه الطايشه اللي بنحايلها . أي استهتار بكلامي ح يعرضك للحبس… لا خروج ولا شغل!”

افلتها بغيظ والوالدين شهود.

***********

افاقت على سقوط رأسها الذي انسحب عبر الجدار الأملس بعدما غفت لوقت لا تعلمه ،آذان الفجر يشق  سكون المكان معلنا انتهاء ليلتها وبداية سعي سكان العماره وما يتطلبه من خروج من خلف الأبواب المغلقة

الفكره قضت على السكينه التي احتوتها  ،هربت الدماء وتركتها فريسة للسعات برد الفجريه الخريفي ،حاولت الاستدفاء على نيران غضبها بتصور ما يمكن أو لا يمكن من نهايات لهذه الليلة اللعينة.

تطلعت إلى الأبواب الموصدة حولها ،فكرت ان تطرق احدها مستجدية نخوة ما في هذه اللحظات اليائسة . الجيران اعتادوا تجاهلها منذ يومها الأول في العقار…من يريد التدخل بين مدمن سليط اللسان وزوجته؟!

عاد مخدرا يهذي و ينكفأ  كالعادة ،استغل ما بقي من وعيه في طردها من الشقة ….في الثانية صباحا، هكذا وبملابس النوم. تتحمل جزء من المسئولية لأنها اختارت الوقت الأسوأ لمناقشة مستقبل زواجهم الذي لم يكمل بعد عامه الأول ،  لكنها حاولت التكفير عن هذا الخطأ الهائل بتوسلات متنوعة ،تشبثت بكل ما وجدت في طريقها من غرفة النوم وحتى الباب مستجدية فرصه لترتدي ما يليق بنومة الشارع لكن الشيطان الذي تلبسه أجاب كل توسلاتها بجواب قاطع:

“بره..بره..بره!”

اغلق الباب خلفها مترنحا ولم يفتحه رغم استماتتها في الطرق!

********

الشائعة تملأ الأجواء وفراغ الموظفين الذي لا ينتهي :

“أستاذ سامي اتقدم لها من أسبوع !”

“الزميلات “لاحظن عليها بعض التغيير! حضور مبكر على غير العادة، تسبقه إلى الإمضاء في دفتر الأحوال الحكومي الطاهر بتهتك غير خافي تنحني على المكتب لنقش اسمها ثم تشيعه بنظرة مدربة يرتجف لها القلم بين أصابعه وقلبه بين ضلوعه.

“امبارح كانت في البوفيه.. اتجهت ناحيته في دلال تغني صباح الخير يا أستاذ سامي!. بصوتها المرقع….مدت دراعها تجيب كوبايه من على يمينه …اتبرع  يساعدها “فتلاشت المسافة اللائقة بين وجهيهما “..” بحسب رواية إيمان نضرجي البوفيه.

انه حقدها تنفثه في الرباط المقدس على أمل حل عقدته حتى تلحق كل نساء الأرض بركبها الخائب.

“استفردت بالراجل المسكين مستغلة “أزمة منتصف العمر” اللي  بيمر  بيها  ونصبت حواليه الشباك،وهى سنها صغير والشيطان شاطر” ساهمت مها من خدمة العملاء.

“إنما ربنا موجود ..مطلع وعادل ، الأستاذ سامي طلقها !! بعدما اتجوزها عرفي يدوب شهر واحد. الراجل رجع لعقله لما أم العيال المصدومة في عشرة السنين خيرته بينها وبين الحية دي.. . باعها فورا واشترى بيته وولاده . اومال! ..دي كانت نزوة والراجل يلف يلف ومسيره لبيته وولاده” بحسب رواية نبيلة سكرتيرة الضحية موضع نصب الشباك.

الحق انها عندما سعت في الطلاق خدعتها الحسابات على طولها ،فقد صورت لها أنها ولابد مستفيدة من سوء سمعته .  سوف يتعاطف معها الجميع ،الجيران اللذين شهدوا مرارا عودته مسطولا يشتبك مع احدهم او يصدم سيارة آخر .

اهلها اللذين اكتشفوا ادمانه بعد فوات الاوان وعقدوا له جلسات استماع كثيرة انتهت جميعها باقتراحه الأبدي على من لا يعجبه  حاله بأن يخبط رأسه  في الحيط.

زملاء العمل،هؤلاء بالأخص كثيرا ما حرضوها على شكوته فى القسم لما شاهدوا إصاباتها المتكررة.

********

“فكري كويس يا بثينه ، العريس مسافر بعد أسبوع وعايز ينجز . صحيح اكبر منك بعشرين سنه ،وعنده ولدين من جواز سابق غالبا مش ح يدوكي فرصه تتهني ، وعامل عملية قلب مفتوح يعني ح تقضيلك شويه في الأول بتمرضيه…! .بس أنت شاطره و ح تلاقى حل ،دا انت مرات مدمن سابقا أد الدنيا ههههههههههههه….. فكري يا بثينه وافتكري كلامنا المرة اللي فاتت  ..الطلاق مرة واحدة .وأنت معدش عندك حاجه تخسريها”

 أكدت عليها راويه في نهاية الزيارة.

*******

دار مقبض وسمعت بوضوح صوت باب يفتح ، نهضت بارتباك تبحث عن الباب المفتوح، وكان خلفه واقفا.. يهرش في شعره المنكوش وملابس الأمس لا تزال تكسو جسده الازرق الناحل . نظرت إليه في قرف وحيرة ويأس فكرت للحظه في جريمة بشعة يمكن أن ترتكبها الآن وترتاح الى الأبد ،لكنها تذكرت دبيب الارجل على السلالم وقد أوشك أن يداهمها والفضيحة التي تلوح في الأفق  فطوت ليلتها الطويلة بكوابيسها وتنبؤاتها وخطت إلى الباب المفتوح وعبرته مطرقة إلى الداخل فأوصده خلفها.

مقالات من نفس القسم