تدور القصة حول تشرفياكوف الذي يعطس أثناء جلوسه لمشاهدة العرض في “الصف الثاني من مقاعد الصالة”، ليكتشف أن رذاذ عطسته أصاب رجلاً يجلس أمامه، وعرف تشرفياكوف في ذلك الشخص الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية، واعتذر له كأي شخصٍ طبيعي في موقف كهذا، ورد الجنرال ببساطة “لاشيء، لاشيء”. ولكن شيئًا ما منع تشرفياكوف من فهم رد الجنرال واعتباره قبولاً للاعتذار، فألح في اعتذاره مما دفع الأخير لنهره حتى يتمكن من متابعة العرض. وعند هذه النقطة يتحوَّل حدثٌ بسيط لا يستحق التوقف عنده إلى حدث مركب محمَّلٍ بدلالاتٍ تستحق التوقف؛ فيتحوَّل إحساس تشرفياكوف الذي لم يكن يشعر “بأي حرج” ليشعر بالحرج “على الفور”، وكان “يشعر بنفسه في قمة المتعة” ثم “لم يعد يحس بالمتعة”. وتتصاعد مشاعره في ذلك الاتجاه المُمِض حتى يتحوَّل هو نفسه من الحياة إلى الموت.
يتكرر وصف تشرفياكوف للجنرال في بداية القصة بكلمة “غريب” التي تحمل معنيين، فيقول لزوجته: “كان غريبًا، لم يقل كلمة مفهومةً واحدة”، كما يقول إن الجنرال “غريب” بمعنى أنه ليس رئيسًا له في العمل، وبالتالي ليس لديه سلطة وظيفية عليه، ولكنه زوجته تكرر الكلمة “غريب” لأنه ينتمي إلى طبقة أخرى. وهنا تفرض الأعراف الاجتماعية سلطتها. فذلك “الجنرال”، الذي يجلس في الصف الأول في المسرح، ويرتدى القفاز في قاعةٍ مغلقة، ويستقبل الزوار في غرفةٍ خاصة ملحقة بمكتبه، لا بُد -كما يرى تشرفياكوف- أن يُبذل له الاعتذار مرَّاتٍ ومرَّاتٍ حتى يرضى، وإلا ظن، كما قالت له زوجته، أنه لا يعرف كيف يتصرف في المجتمعات. ويسهب تشيخوف في وصف كل مرة من هذه المرات في تكرار قد يصيب القارئ بالملل وربما بالحنق نفسه الذي أصاب الجنرال، وقد يصل الأمر إلى السخرية من ذلك الموظف وافتراض الطابع الكوميدي في القصة إلى أن يصطدم بنهايتها.
ورغم أن القارئ قد يستنتج للوهلة الأولى أن تشيخوف يقصد من قصته نقد الواقع الطبقي في مجتمعه، إلا أن جنراله لا يتيح الفرصة للقارئ كي يصب عليه مشاعر السخط، فهو لا يظهر في القصة ظالمًا أو متسلطًا بقدر ما يظهر غير مكترث، ومع ذلك، فهو عدم اكتراثٍ مهذب، يجعله يخاطب تشرفياكوف قائلاً: “من فضلك”، “يا سيدي الكريم”، وفي مرَّاتٍ أخرى يتذمر بنفاد صبر ولكن دون توجيه إهانةٍ مباشرة إلى الموظف العجيب الذي يثير إلحاحه اللزج حفيظة الجنرال في نهاية الأمر. أما الموظف فهو يستخدم أسلوبًا مبالِغًا في الاحترام في مخاطبة الجنرال بصيغة الجمع للتفخيم، وبالألقاب المناسبة “صاحب السعادة”، حتى يصيبه الحنق بدوره جراء عدم قبول الجنرال اعتذاره بشكلٍ صريح، فيصفه بالمتغطرس، وينفعل كأي إنسانٍ طبيعي قائلاً لنفسه: “فليذهب إلى الشيطان”، مقررًا أنه لن يذهب إلى الجنرال معتذرًا للمرة الخامسة بعد ان اتهمه الأخير بالسخرية منه وسيكتفي بكتابة رسالة! ولكن هذا لا يحدث، فتقوده قدماه مرةً أخرى وأخيرة إلى مكتب الجنرال لتكرار الاعتذار، وهنا يفقد الرجل ضبط النفس الذي حافظ عليه منذ بداية القصة فيطرد تشرفياكوف من مكتبه بصوت كالزئير وقد اشتعل غضبًا، ليرد الأخير “ماذا؟” بصوتٍ هامسٍ وقد ذاب رعبًا، يجرجر بعده قدميه “آليَّا” إلى أريكة في بيته، حيث يستلقي بكامل ملابسه الرسمية، ويموت.
يصوغ تشيخوف موقف بطله تجاه حادثة بسيطة بلغةٍ بسيطة تظهر مشاعره التي تكشف شيئًا فشيئًا عن شخصيةٍ مركَّبة. فتشرفياكوف، كما يبدو، مستسلمٌ تمامًا لوضعه الوظيفي والطبقي، سعيد بحضور عرضٍ في الأوبرا وجلوسه في الصف الثاني، حريص على الانتماء لطبقته وملتزمٌ بمكانه بشكلٍ ينطبق مع المثل الشعبي “العين ما تعلاش عن الحاجب”. ولكن مع تصاعد السرد تطل عقدة النقص بوضوح، كآلية دفاعية تمكنه من التعايش مع انسحاقه التَّطوُّعي أمام من هم أعلى منه مركزًا ومقامًا. فهو كما يظهر منذ بداية القصة، فاقد الثقة في النفس، إذ تجعل تلك الحادثة البسيطة “القلق يعذبه” ويجعل عدم اكتراث الجنرال “وجهه يشحب”. وهو مفتقرٌ إلى الإحساس بقيمة الذات، فهو لا يتجاسر على إزعاج الجنرال بالاعتذار المتكرر إلاَّ “من واقع الإحساس بالندم”، ويتساءل: “وهل أجسر على السخرية؟”. كما أنه ممتلئٌ بالشكوك، فهو “يتطلع إلى الجنرال بشك” ويعيد التفكير عدة مرات في لا مبالاته ويعجز عن فهم رد فعله. ويضاف إلى هواجسه الشعور بالتأخر عن المستويات الاجتماعية الأعلى، فهو يتكلف التأنق حين يتأهب لملاقاة الجنرال ويرتدي حلةً جديدة ويقص شعره. وتعبر طريقة تفكير تشرفياكوف وطريقة تصرفه عن عقدة النقص كما وصفها الطبيب النفسي ألفريد إدلر بأنها “أسلوب حياة”.
ربما أراد تشيخوف أن يوحي بأن الموظف مات منذ لحظة إدراكه أن رذاذ عطسته أصاب جنرالاً موتًا معنويًّا، قبل أن يموت جسديًّا على أريكته، لكن تشرفياكوف، ومن مثله، يوحون بأنهم ميتون وإن كانوا يسيرون على أقدامهم، ويتأنقون، ويحضرون عروض الأوبرا. فهم يُميتون في أنفسهم، وبكامل إرادتهم الحرة، إحساسهم بالمساواة الإنسانية التي تضمن حدًّا أدنى من الكرامة، ويمحون خطًا رفيعًا لا ينبغي تجاوزه للحفاظ على ماء الوجه، كما يقتلون عمدًا ذلك الحس السليم الذي يمكنهم من معرفة الفرق بين التهذيب واللياقة وبين التزلف والضَّعة. وربما ألحَّ هاجس تبيان ذلك الفرق على تشيخوف، ليكتب قصة “البدين والنحيف” في العام نفسه وينشرها في المجلة نفسها، ولكن من زاوية أخرى، فهنا موظفٌ آخر “نحيف” يقابل صديق طفولته “البدين” مصادفة على رصيف محطة قطار، ويخبره ذلك الصديق أنه أصبح مستشارًا سريًّا وحاصلاً على وسامٍ رفيع مرتين، لتنقلب لهجته الودودة إلى لهجةٍ لزجة مبالِغَةٍ في الاحترام وتتبدل حفاوته الحميمة بصديقه إلى الانحناء له في دونية، مما يُشعر الصديق البدين بالغثيان، فهو لم يمارس استعلاءً من أي نوع، ولم يفرض وضعه الاجتماعي الأعلى على صديق طفولته بل نفر من تغير لهجة الأخير معه، فينصرف عنه في برود وإعراض. ولكن هذه القصة أكثر قسوة، فالموظف هنا لا يموت جسديًّا، إذ يبدو أنه استمرأ موته المعنوي، فالازدراء وعدم الاكتراث لا يمثلان له أي مشكلة، ويستمر في ممارسة الانسحاق وشعوره الطبيعي بالدونية حتى تنتهي القصة على صوت ضحكاته اللزجة.
نجح تشيخوف ببساطةٍ بارعة أن ينقل لقارئه إحساس الحنق في القصة الأولى، وإحساس الغثيان في القصة الثانية، لينزع منه أي تعاطفٌ مع هؤلاء المنسحقين إراديًّا، وكأنه يريد أن يقول إن التفاوت الوظيفي والاجتماعي وإن كان أمرًا واقعًا ومفروضًا من جانب من يملكون السطوة بأنواعها، إلا أن تضخيمه واستدامته رهنٌ بمن يستمرئون الخضوع، ويستعذبون التدنِّي، ويستسلمون دون مقاومة، حتى لو كانت تلك المقاومة على مستوى الإحساس والإدراك، وذلك أضعف الإيمان.