فالانسان قادر أخيراً أن ينتصر أو في أقل القليل أن يبتسم ربما تفتح ابتسامته تلك أبواباً جديدة للأمل ، ربما كان بوسع تلك البسمات أن تمنح هذا الكائن الهش حيوات جديدة و قدرة إضافية على المواجهة والصمود ، ولهذا وبرغم حزن شفيف يلف أغلب قصص المجموعة مصدره خيبات متوالية وفقدان أحبة وعدم تحقق وانسحاق الحلم بين واقع الحال ، فإننا لا نلمس صوت الفجيعة ونسمعه إلا خافتا يتداعى برهافة في المسكوت عنه ” ألحان منسية ” ” في طريق العودة من الجامعة كفك تضم كفى ، أضحك للورود ، على الأغصان وللزحام ولحرارة الجو ورائحة الدخان ، يتسرب اللحن صداحا وعذبا فألمس تحولنا إلى غصن زهرة ، مركب للشمس ، لؤلؤة وحيدة في أعماق البحار ، غزالة برية ، شجرة أغصانها تعلو إلى السماء ، موجه بحر تصل إلى الشاطئ ، ولكن الشعاع الأخير للشمس يختفي فجأة ، فأجفل وأحاول سحب كفي بينما يختفي اللحن في هدوء .
في عديد من قصص المجموعة نحن أمام هذه التفاصيل الصغيرة ، تصنعها علاقة الإنسان ليس فقط بالآخرين وإنما بالأشياء من حوله ، بما يتعامل معه يومياً دون أن يلتفت إليه ، دون أن يخط في نفسه دلالة ما : شعاع شمسي ، قطرات ماء تسقط متكاسلة من صنبور ، شعيرات بيضاء تبدو فجأة في سواد الرأس ، ظلال متفاوتة ، زخات مطر على أوراق شجر خريفية ، لحن يبزغ ثم يخبو .. هذه هي التفاصيل الصغيرة أو الاهتزازات التي تعتمد عليها الكاتبة في إحداث الأثر النفسي للقارئ و هذا ما يشكل إجمالاً العالم القصصي – وربما الإنساني – لنجلاء علام .
بعض ممن تناول قصص نجلاء علام بالنقد رأي أنها تمزج بين التقنيات السينمائية وتقنيات السرد عبر حياد يخفي المشاعر الحقيقية وسط التفاصيل الحياتية اليومية .
والقارئ لقصص نجلاء سيتوقف بالضرورة عند هموم حقيقة عند صراع هادئ واشواق ” مترددة ” للتغيير أقول مترددة لأنها في الأغلب محكومة برؤية ترى في هذا الصراع قدرا من العبثية يحد أية رغبة مغلبة نحو التغيير ما يعني أن الأمور ليست عصية على التحول لكنها أيضا ليست يسيرة ويبقى للإنسان الأمل وشرف المحاولة .
هل تطرح الكاتبة على نفسها تساؤلات ما قبل الشروع في الكتابة ؟ هل ثمة نسق نظري معرفي يغلف العملية الإبداعية لديها ؟ تنفي نجلاء ذلك ، وتضيف : لم أكن أبدا أطرح على نفسي أي أسئلة نظرية قبل أن أبدأ الكتابة ، فقط أتناول القلم وأبدأ وحتى الآن أجد صعوبة في طرح هذه الأسئلة على نفسي ، لماذا أكتب كيف أكتب ، ما هي رؤيتي للعالم ، ماذا غيرت وماذا اضفت ، وتؤكد نجلاء أنها أجلت هذه الأسئلة حتى تجيب عنها الكتابة نفسها لا النظريات ، وتشير إلى أنها حاولت في مجموعتها الأولى ، أن تقدم خصوصية ما داخل هذه الكتابة كما حاولت أن تستفيد من خبرات حياتية معاشة عبر رصدها لتحولات نفسية .
تقول نجلاء : أكثر ما حرصت على تقديمه هو الإنسان المجدول بإحكام داخل هذه الضفيرة الأبدية من الموت والحياة والتي يعلو فيها الموت تارة وتعلو فيها الحياة تارة أخرى ، أحياء يعيشون كالموتى بلا فعل حقيقي ، وموتى يحيون في الذاكرة بحضورهم المسيطر .
ميزة أساسية برأيي تضاف إلى كتابة نجلاء علام أنها انفلتت بعكس كثيرات من بنات جيلها من خدعة الكتابة النسوية من فجاجة وسطحية كتابة الجسد التي تبحث عن شرعية وجودها عبر مقولات فارغة عن تحطيم التابو والاستجابة لاشواق الذات ، وهي تخفي في حقيقة الأمر هشاشة التجربة وضعف الموهبة ، ورغبة في لفت الانتباه وتحقيق شهرة في مناخ احتفى بهن ، لا بإبداعهن وترفض نجلاء مسمى كتابة البنات والكتابة النسائية وتقول : اعتقد أن هناك كتابة جديدة تتشكل وكأي جيل يحاول بناء نفسه يبحث عن أسلوبه الخاص الذي يناسبه ويناسب متغيرات عصره والحقيقة أن هذا لا بد أن يأتي بشكل تلقائي لا اعتساف فيه ، واعتقد أننا استفدنا كثيرا من منجزات الأجيال السابقة وخصوصا جيل الستينات والسبعينيات في القصة والرواية ، فقط أشعر أننا في مرحلة كثيرة المعطيات والمتغيرات وكثيرة هي الأصوات التي تتحدث حتى إننا اتخمنا بالكلام فلنترو قليلا حتى يتضح القادم .
…………………
* جريدة الوفد ،: 15 أبريل 1997 م .