كل هذه الأفكار ممكنة، واللقطة تحتمل أفكارًا أخرى ستكون صحيحة بشكل ما، لكن ما كان يشغلنى ليس ما يريد أن يفعله هذا الواقف فوق أحزانه، فقط كنت مشغولا بتأمل رجل استطاع أن يرصّ أحزانه حزنًا فوق الآخر، كنت مشغولاً بجمال اللقطة، وفكرتُ بأنى لو معى كاميرا فلا يمكن أن أفوّت صورة بهذا الجمال.
“الأذكياء يتحدثون فى الوقت المناسب”، كان ذلك من أول الحالات التى لاحظتها فى “كيرياليسون”، فالشخصيات كلها تتحدث فى الوقت المناسب فقط، وفى حياتنا العادية يضيع الكثير من الكلام المهم لأنه يقال فى وقت غير مناسب أو بطريقة غير مناسبة، فى حياة “كيرياليسون” كل الجمل الحوارية مهمة لأنها قيلت فى الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، الحوار هنا ذكى، بسيط، نصادفه مرات قليلة، لكنه فى كل مرة سواء كانت الجملة بلسان إحدى الشخصيات، أو يسردها الكاتب عن الشخصية نفسها، فإن هذه الجملة تنقل حدثًا ما للأمام أو تلخصه، أو تختصر مساحات من السرد، وأجمل ما كانت تفعله أنها كثيرًا ما كانت تلخص شخصية كاملة، فقط جملة بسيطة ذكية فى الوقت والمكان المناسبين تلخص شخصية كاملة، فعندما يغنى “الشيخ ثابت” كل ليلة فى الفجر بأعلى صوته ويقول: “انت وبس اللى حبيبى.. يارب.. يارب مفيش غيرك ع البال”، سيحصل هذا الشيخ منك فورًا على ابتسامة يستحقها، وتتمنى أن لو تصادفه كثيرًا فى حياة “كيرياليسون” وهى أيضًا أمنية يستحقها، “الشيخ ثابت”، هذا الرجل المُحب المخلص على طريقته، رجل يغنى لله، يغنى لربنا بشجن ومحبة وفرحة، وفقط بهذه الجملة: “انت وبس اللى حبيبى يارب.. مفيش غيرك ع البال” جعلنى أراه، أستطيع أن أصيغها هكذا: “أراك وأعرفك يا شيخ ثابت”، هذا الرجل الذى يستيقظ فى هدوء الفجر ويغنى بصوت مجلجل: “انت وبس اللى حبيبى يارب” دون خجل من الجيران، دون خجل من الله كما يتوقع الآخرون الذين لا يفهمونه، هو لا يخجل بالطبع من ذلك.. لأننا كلنا نفعل ذلك بطريقة ما، كل منا يخترع طريقة ليتواصل بها مع الله، كلٌ منا يحب أن تكون له طريقة خاصة فى هذا التواصل، ربما ليشعر بحب خاص وعلاقة مميزة، وعندما يتعجب منه الآخرون يرد عليهم بأن: “الله يعرفنى ويعرف لماذا أفعل ذلك وأقوله”، هذا ما كان يفعله “الشيخ ثابت”، لكنه لم يكن مهتمًا بتبرير ما يفعله، فمن وجهة نظره الأمر واضح، وعنده الحق فى ذلك: هو رجل مُحب، وبجملته الجميلة القصيرة رأيته فى جلباب أبيض ومسبحة طويلة بحبّات بُنيّة خشبية، يلف المسبحة حول أصابعه عدة مرات، ويرفع ذراعيه للسماء ويجلجل بصوته، وابتسامة على وجهه ودموع حلوة فى عينيه، ويغنى: “انت وبس اللى حبيبى يارب”، لولا هذه الجملة لكان “الشيخ ثابت” مجرد شيخ طيب وينتهى الأمر، ولم أكن لأراه، أو لم يكن ليستطيع أن يرينى نفسه، لكنى/ لكنه بهذه الجملة المليئة بالشجن والحب على طريقته رأيته/ أرانى نفسه، هل أرى نورًا ما حوله؟ أستطيع أن أقول هذا، وذلك ليس لأنه رجل له علاقة بنور ما، رغم أن هذا غير مستبعد، إلا أنه لا يعنينى كثيرًا، ما يعنينى بالدرجة الأولى أنه استطاع أن يجعل من نفسه مميزًا ومرئيًا (أظن أن علاقة هذا الرجل بالنور ستعنينى أيضًا، كل ما يخصه يعنينى بالدرجة نفسها).
“ناجح” الشاب الذى سيقف فوق أحزانه، وأحيانًا سيكون أسفلها، أحيانًا أخرى سيدور حولها/ تدور حوله، أو يختبئ داخلها/ تُبعد عنه العالم، لتكون أحد أسوار سجنه المعنوى، هذا المدرس الشاب عندما يذهب لأحد تلامذته ليدرِّس له فى بيته، ستقول له أم التلميذ: “اتفضل يا أستاذ ناكح”، وهى تبّدل حرف الجيم بالكاف، وبهذا التبديل البسيط تحدد شكل علاقتها به، وتلخص مشاعرها تجاهه وما تريده منه، وفى الوقت نفسه تسرد نفسها لنا، فيمكن أن نتخيل كيف ستقولها، وما ترتديه فى هذه اللحظة، وكيف أنها لن تفتح الباب كفاية “لناجح” فيكون مضطرًا-كما يحب طبعًا- لأن يلمسها عند دخوله، يمكن رؤية كل هذا بسهولة دون أن يضطر الكاتب لسرده، لم يكن عليه أن يفعل أكثر من أن يبّدل حرف الجيم بالكاف فنرى تلك المرأة.
السخرية لا يستطيعها إلا الأذكياء، فقط الشخص الذكى اللمّاح هو من يمتلك مهارة السخرية، فى “كيرياليسون” نصادف مقاطعًا وجُملاً حوارية يمكن قراءتها بنبرة ساخرة رغم أنها غاية فى الجديّة، وتكون السخرية فى أعلى حالاتها عندما تظهر فى المواقف الجادة، وإذا تتبعنا “مشاعر النص/ الرواية”، سنكتشف بسهولة أن السخرية من أقوى المشاعر التى تحملها “كيرياليسون” تجاه العالم، وتمارسها معه بمهارة تليق بفعل لا يمارسه غير الأذكياء، حتى تبدو تلقائية فى الرواية، تمامًا كما فى الحياة، التى هى بالأصل ذكية بما يكفى لأن تمارس السخرية بتلقائية مع الجميع.
فى “كيرياليسون” السخرية ليست للضحك، فهى أعلى من فكرة السخرية لأجل الضحك، هى هنا لاذعة، شجيّة، ولا تخلو من مفارقة أو مفاجأة، كأن يجيب “ناجح” عندما يتساءل بينه وبين نفسه عن معنى الحرية فيقول: “الحرية مقهى فى باب اللوق”، حتى إن الكاتب أحيانًا يُنهى أحد الفصول بجملة تسخر من كل ما تم سرده فى هذا الفصل، كما أن هامش الرواية- وله قصة أخرى- لا يخلو من السخرية، فمنه سنعرف أن والد “ناجح” كان يُلقى درسه الإسبوعى ذات يوم عن الأذكار والأدعية فينصح الرجال “بجدية” أن يذكر الواحد منهم دعاء الركوب عندما يعتلى زوجته فيقول: “سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين”، ثم هناك مقاطعًا يسردها “ناجح” عن نفسه، ويمكن لأى أحد أن يقرأها ليسخر بنفسه “لناجح” من العالم، ثم ليسخر مع “ناجح” من العالم، أو ليسخر مما يحدث بين “ناجح” والعالم، وما وصلت إليه حال الإثنين.
“ذاكرتى أصبحت كمصفاة، حياتى تتسرب من فتحاتها الصغيرة”، هكذا يصف “ناجح” ذاكرته، فنفهم لماذا لم تكن لغة الرواية فى حاجة لما نسميه “جماليات اللغة”، ذلك لأنها كانت سترهق وتشوّش هذه الذاكرة المثقوبة التى تحكى الأشياء وتصفها لنا، تلك الجماليات كانت ستعمل وكأنها أكياس من الرمل تثقل جسد اللغة فتعوقها عن التحرك بخفة والتنقل بين العوالم والشخصيات والحكايات، تلك الحكايات التى لم تكن لتكتمل، بما يناسب اضطراب الحياة وإيقاع الهامش، فنراها تختفى، أو تنقطع، ثم تعاود الظهور، وأعتبر أنها أحيانًا كانت تعاود الظهور فى حياة أخرى، فكل حياة فى “كيرياليسون” تتقاطع بشكل ما مع الحيوات الأخرى، وفى النهاية فإن مجموع الحيوات يصنع حياة “كيرياليسون”، مثلما يحدث فى الحياة، لذا تخلصت اللغة فى “كيرياليسون” من كل عبء، حتى لم يكن لديها وقت لتتوقف عند امرأة جميلة لتقول لها”انت امرأة جميلة”، كان عليها أن تتحرك بسرعة وخفة تناسب سرعة مفاجآت الحيوات وتنوعها، ثم ستقول للمرأة الجميلة: “أنت امرأة جميلة” بطريقة وبلغة تناسبها.
فعلتْ اللغة فى “كيرياليسون” ما رأت أنه يناسبها، فنطقت كما تحب الشخصيات أن تنطق، ومنحتهم المفردات التى يفضلونها، بالطريقة التى تناسبهم، فطريقة النطق نفسها واحدة من أهم عناصر اللغة، وإذا كانت “اللغة” هى ما يمنح أسباب الحياة لكل عناصر الرواية بشرط أن تكون تلك العناصر صالحة للحياة بذاتها، فكل ما هو موجود فى “كيرياليسون” ليس فقط صالحًا للحياة بجدارة، لكنه أيضًا قادر على الاستمرار فيها، ثم كانت اللغة المناسبة لهذه الحياة، لغة من لحم ودم شخصيات وحكايات وعالم الرواية.
أعود للحوار فى “كيرياليسون”، بحوار يدور بين “أم العِفِش” وهى امرأة عجوز تساقطت أسنانها، و”عم شوقى” وهو رجل عجوز بظهر محنى، تجلس “أم العفش” فى مكان مثل مقهى وتطلب شاى وشيشة، فيأتى “عم شوقى” ويدعك صدره بطريقة موحية ويقول لها: مش هنلعب طاولة بقى يا جميل؟.. تلاقيها وحشتك.
هو بالتأكيد لا يقصد “الطاولة”، لكنه يُلمّح لأشياء تفهمها “أم العفش”، رغم أنهما يعرفان أنه لم يعد قادرًا على االلعب الذى يُلمّح له، وهى امرأة لن يكون لعبًا من هذا النوع ممتعًا معها.
ترد “أم العفش” على “عم شوقى”: الطاولة عايزة راجل.. دانت تلاقى زهرك اتمسح يا راجل.
“الطاولة” لعبة رجالى بالدرجة الأولى، قليلاً ما ترى امرأة تلعب الطاولة، لكن “أم العفش” عندما ترد بهذا الرد لا تقصد أنها تريد أن يجلس رجلاً بدلاً منها ليلاعب “عم شوقى”، هى تلمِّح أن الطاولة _تقصد نفسها بذلك- تريد رجلاً ليلاغى أنوثتها غير الموجودة بالأساس، لكنه فقط ذكاء الحوار، وذكاء وسرعة بديهة الشخصيات التى تتحدث، أيضًا بسهولة يمكن أن نتخيّل.. حتى إن الأمر لن يحتاج للتخيل، فهذه “اللعبة” ترسم نفسها، الشخصيات فى “كيرياليسون” تلخص وتسرد نفسها من خلال حوارها، وواضح جدًا هنا كيف ستتحدث “أم العفش”، وكيف سيتحدث “عم شوقى”، يمكن رؤيتهما من خلال الحوار وهما يلعبان الطاولة/ الجنس اللغوى.
فى “كيرياليسون” العديد من الشخصيات التى تستدعى التوقف أمامها، سأختار “أبو حليمة” الذى تم شرح قصته فى هامش الرواية، هو يبدو كرجل يقف على باب اللذة، يؤجر الشقة التى بمواجهة شقته، ويفرش أرضها بالحصير، ويضع فيها أجهزة فيديو وأتارى يؤجرها للصبية، ومن بينهم “ناجح” الذى سيكتشف فيما بعد أن “أبو حليمة” كان فى الوقت نفسه يؤجر امرأته وابنته “حليمة” فى غرفة مجاورة، بينما يتظاهر-أبو حليمة- بتغيير الأفلام، ما يشغلنى فى قصة هذا الرجل هو اسمه: “أبو حليمة”، أتسائل هل لو كان له اسم آخر غير هذا الاسم فهل كان سيعطى الإحساس نفسه، ويرسم الصورة نفسها عنه وعن أسرته الصغيرة، تلك الأسرة التى تبدو وكأنها معمل صغير لإنتاج اللذة، هذا الإسم جعلنى أتجاوز الرجل إلى ابنته هذه “الحليمة”، وأراها بوضوح، وتكون هى بطلة هذه الأسرة وقصتها الصغيرة، كما أنها العنصر الأساسى فى معمل اللذة.
أفكر بأن هناك بعض الأسماء التى تخص المرأة، تلك الأسماء ترسم فورًا شخصية للمرأة التى تسمى بأحدها، بما فى ذلك شكلها ومشاعرها وطريقتها فى استقبال العالم واستقبال العالم لها، وكأن الإسم هو أحد العلامات أو نقاط الضوء التى تقود صاحبته للطريق دون أن تدرى/ أو ربما تدرى، أو أنه أحد الممرات الهامة بين صاحبة الإسم والعالم، ويمكن ملاحظة ذلك فى الحياة مع استثناءات قليلة كما هو حال كل شىء، فهل يصح ذلك؟ أحب أن يصحّ، أنا أصدقه وأعرف أنه حاصل هنا مع “حليمة كيرياليسون”، فأية “حليمة” لا يمكن إلا أن تكون فتاة أو إمراة ممتلئة الأنوثة، دافئة، حنطية البشرة، ثم أنها تعطى بسهولة، ليس المقصود هنا أنها سهلة المنال أو أنها تفرّط بسهولة، وإنما ببساطة تلك هى طبيعتها: أن تعطى، فأنت تنالها ليس لأنك تدفع، أو لشىء مميز فيك، ولكن لأن الشىء المميز موجود فيها، لأنها تعطى بسهولة، بغض النظر عن كونها امرأة عادية مثل أية امرأة تحت سقف أى بيت، أو كانت أنثى فى معمل لإنتاج اللذة مثل “حليمة”، هل من الممكن أن يصنع اسمًا، مجرد الإسم هذه القصة؟ أعتقد أن “هانى” لم يتعمد اختيار هذا الإسم-أبو حليمة- وأن الحياة لم تتعمد اختياره “لأبو حليمة”، ولكنها نفسها الحياة التى تسرب لكل شىء ما يناسبه دون قصد منها، وهى الكتابة التى تسرب نفسها للكاتب، فهى-الكتابة- تحب أن تكشف فى نفسها عن علامات ومساحات خاصة لأشخاص تختارهم بعناية، تمامًا كما تفعل أية امرأة وأية حياة.
الهامش -أقصد هامش الصفحة- فى “كيرياليسون” مهم جدًا ولا يمكن الاستغناء عنه، و”كيرياليسون” من أفضل الروايات التى ظهرت فى الفترة الأخيرة واستغلت الهامش -سواء هامش الصفحة أو عالم المهمشين- وأقصد هنا الاستغلال الفنى/ الإنسانى الجميل.
هامش الصفحات فى “كيرياليسون”، أحيانًا ما يفسر شخصية أو يسرد حكايتها كاملة، مثلما الحال مع “أبو حليمة”، وبذلك لا يمكن حذف هذا الهامش أو فصله من متن الرواية، وبرأيى أن “كيرياليسون” لم تفكر ولم تحب أن تصنع علاقة بين أهمية هامش الصفحة لمتنها، وحال المهمشين بالنسبة للحياة، بحيث توحى لنا أن أهمية هامش صفحات الرواية معادلاً لأهمية المهمشين فى الحياة، “كيرياليسون” برأيى لم تفكر في هذه العلاقة ولم تحب أن تصنعها، الأمر بالنسبة لها
-كيرياليسون- أجمل من ذلك وأهم، ثم إن “الهامش” فى الحياة هو الحياة الحقيقية، لأن به المادة الخام للحياة، وأظن أن “كيرياليسون” تفكّر بطريقة أخرى، وتتبنى نفس فكرة الحياة عما تعتبره هامشها ومتنها.
لم أحب الدائرة التى كتبها/ رسمها “هانى” ليوضح بها الوضع الصعب الذى يمر به “ناجح”، وكانت عبارة عن دوائر متتابعة كلٌ منها تؤدى للأخرى بسهم، أحسستها وكأنها جزء صناعى داخل الرواية، مثل قطعة من البلاستيك تم تركيبها داخل قلب حىّ نابض، ستؤدى الغرض منها لكنها تظل غريبة عنه.
فى “كيرياليسون” مقاطع كثيرة تخلق صورًا وأشكالاً وحالات إنسانية، أحب منها هذا المقطع: “الطين راعينا، نتنفسه، نأكله، ننام عليه، لولاه ما عرفنا مصيرنا، ألا يستحق يومًا للاحتفاء به، يومًا نبتعد فيه تمامًا عن الأماكن الجافة، نتمرغ فيه، نشكره، إذ وهبنا الحياة”. …………………..