لذا، فإنَّنا نطمحُ إلى تقديمِ رؤيةٍ كُلِّيةٍ، قدر المُسْتطاعِ، حولَ ملامحِ مشروعِ شريف رزق الشِّعريِّ عبْرَ استنطاقِ نصوصِه، بُغيةَ الوصولِ إلى ملامحِ هذا العالمِ، وأبرزِ محطَّاتِه، باستخدامِ نهجِ القراءةِ النَّقديَّةِ الكُلِّيَّة لمُجملِ المشروعِ، دونَ الوقوفِ عندَ قصيدةٍ أو كتابٍ بقراءةٍ مُفصَّّلةٍ، وإنَّما تنظرُ إلى مُجمَلِ السِّيرةِ الإبداعيَّة ومنجزِها الإبداعيِّ، وبالطَّبعِ لا تدَّعي شَرَفَ الإحاطةِ؛ فهذا أكبر من طموحِها، بقدرِ ما تسعى إلى إيضاحِ أبرزِ معالمِ وملامحِ التَّجربةِ، و خطوطِها الأساسيَّةِ، وأوجهِ تعرُّجاتِها وألوانِها، وتلكَ مُهمَّةٌ نحتاجُ إليها، جنبًا إلى جَنْبٍ مع الدِّراساتِ النَّقديَّةِ التي تتناولُ كتابًا أو قصيدةً أو قصائدَ مُتعدِّدةً، وبعبارةٍ أخرى: فإنَّ نهجَ القراءةِ النَّقديَّةِ الكُليَّةِ لتجربةِ شاعرٍ، تُمثِّلُ إطارًا واسعًا، يمتلئُ بالدِّراساتِ النَّقديَّةِ للقصائدِ والدَّواوينِ، وتتلوه أيضًا دراساتُ نقدِ النَّقد؛ التي تُناقشُ ما قيلَ عن التَّجربةِ، بجانبِ مُناقشةِ كتبِهِ النَّقديَّةِ والأدبيَّةِ.
هذا، ويُمكنُ تناولُ أبرز هذه الملامحِ ضمنَ رؤيةٍ أفقيَّةٍ للتَّجربةِ في محاورَ، وستكونُ محاورُنا جامعةً بينَ الجماليِّ والرُّؤيويِّ؛ فكلاهما غيرُ منفصلٍ، بلْ هُما بُعدانِ لإبداعٍ واحدٍ، خاصَّةً إذا كانتْ التَّجربةُ في أساسِها الفكريِّ والشُّعوريِّ مُعتمدةً على فلسفةٍ تتَّخذُ من الذَّاتِ/ الجسدِ منطقةَ تلاقٍ للعالمِ والآخرينَ؛ فانصهرَتْ الصُّورةُ والرَّمزُ والمفارقةُ في بنيةٍ شكلانيَّةٍ ورؤيويَّةٍ واحدةٍ.
(1) كثافةُ اللغةِ واغترابُ الذَّات:
تتشكَّلُ بنيةُ اللغةِ الشِّعريَّةِ منْ الكثافةِ التَّعبيريَّةِ، المُستندَةِ إلى رؤيةٍ تتَّجهُ نحوَ بلاغةِ التَّكثيفِ، المَشحونَةِ بدوالٍ وقدرَاتٍ تعبيريَّةٍ لا حدودَ لها، تنهضُ على الاقتصادِ الشَّديدِ في اللغةِ إلى درجَةِ الزُّهدِ، على ألاَّ يخلَّ ذلكَ بالسَّلامةِ التَّعبيريَّةِ؛ ففي التَّكثيفِ الشِّعريِّ، هناكَ حدٌّ سِريٌّ خفيٌّ تبلغُهُ اللغةُ الشِّعريَّة في أعلى درجاتِ تجلِّيها وتثميرِها وإبداعِها النَّوعيِّ، يُمثِّلُ تجاوزُه والعملُ خلفَه خَرْقاً لسلامةِ البنيَةِ التَّعبيريَّةِ في اللغَةِ، وهذا شرطٌ لابدَّ أن يضعَه المبدعُ في حسبانِهِ؛ فقد وجْدَنا بعضَ الشُّعراء يُحيلُ نصوصَه إلى ألغازٍ؛ مُدَّعيًا أنَّ الغموضَ حافزٌ على التَّفكيرِ والتَّعمُّقِ في النَّصِّ الأدبيِّ، ولكنَّ المُحصِّلةَ أنَّ اللغةَ تدخلُ في متاهةِ الإغماضِ والإبهامِ والإغلاقِ، ونجدُ هذا واضحًا جليًّا لدى الشُّعراءِ الشَّبابِ، الذين يظنُّونَ أنَّ المُتلقِّي على قدرِ عقولِهم، ويفهمُ مراميَ تراكيبِهم، فإذا لم يجدوا مَن يُرشدُهم ، يظلُّوا على تلكَ القناعَةِ الزَّائفة، التي سبَّبتْ هجرةَ النَّاسِ من عالمِ الشِّعر في العقودِ الأخيرةِ، وهو ما يُمثِّلُ عدمَ القدرةِ على التَّوصيلِ، وهذا من شروطِ الإبداعِ، بجانب استنفاد الشَّاعر لطاقتِهِ التَّعبيريَّة فيما لا يُفيدُه ولا يُفيدُ المُتلقِّي، لأنَّه يضربُ في بحار الرِّمال المُسمَّاة بالإغماضِ الشِّعريِّ، ممَّا يُؤدِّي في النِّهايةِ إلى مشكلةٍ تعبيريَّةٍ وأسلوبيَّة تخلُّ بالشَّرط الإبداعيِّ لبنيةِ اللغةِ الشِّعريَّة، ولكن يظلُّ التَّكثيفُ الواعي، ذو الرِّسالة الإبداعيَّة المفهومةِ، والتي يتمُّ تلقِّيها ضمنَ نصوصِ الإبداعِ أحدَ جماليَّاتِ القصيدِ.
وعندما نجمعُ نحن في دراستِنا لشعريَّة “شريف رزق” بينَ الكثافةِ والغُربةِ، فهو جمعٌ لسمةٍ جماليَّةٍ أسلوبيَّةٍ، تتمثَّلُ في التَّكثيفِ اللغويِّ: مُفردةً وعبارةً وأسطُرًا شعريَّة، وبينَ فكرٍ وإحساسٍ يتَّصلانِ بإدراكِ الذَّاتِ الشَّاعرةِ لوجودِها في العالمِ، وعلاقتِها بالنَّاس والشُّعراءِ، ويكونُ السُّؤالُ: ما دلالةُ الجمعِ بينهما؟، ويكون الجوابُ: أنَّ ذلك من ملامحِ الشِّعريَّة عامةً، وتزدادُ كلَّما اشتدَّتْ غربةُ الشَّاعرِ، وارْتقى في نظرتِهِ إلى العالمِ؛ فتضحِي تعبيراتُه كثيفةً مُوجزةً؛ لأنَّه يُطالعُ العالمَ والنَّاس من ارتفاعٍ، فتبدو الأرضُ، بما فيها، أشبه بالمُربَّعاتِ والمنمناتِ، وأقرب إلى النِّقاطِ، في حينِ تتضخَّمُ ذاتُه وتتعاظمُ.
ويُضافُ لها في تجربةِ “رزق” تعمُّدُه أن تكونَ كثيرًا من نصوصِهِ قصيرةَ الكلماتِ والأسطرِ، مُستحضِرًا مقولةَ النَّفَّريِّ البليغةِ: “كلَّما اتَّسعتْ الرُّؤية ضاقتْ العبارةُ”؛ فنجد نصوصًا اشتملت كلماتٍ تُعدُّ على أصابعِ اليدِ، وأُخرى قد تمتدُّ إلى أسطرٍ، في إصرارٍ من الذَّات المبدعةِ على الاحتفاءِ بهذِهِ الكتابةِ شديدَةِ الكثافةِ لغويًّا، والتَّمدُّدِ دلاليًّا، مُتَّخذًا من الكونيَّةِ مجالاً زمانيًّا ومكانيًّا في آنٍ، مُستخدِمًا مُعجمًا يتَّصلُ بكلِّ ما هو كونيّ: نجوم، وكواكب، شموس، أقمار، فضاء، سماء، هواء، عروج..، أو تهربُ إلى الأرضِ؛ حيثُ البراري والبحار: رمال، غابات، أمواج، شطآن، قوافل..، في إصرارٍ من الذَّات على النَّأي عن عالمِ النَّاس، والشُّعراءِ، والعلماءِ، والاحتفاءِ بعولِم ذاتِها، مُستمتِعةً باغترابِها وفرديَّتها وعزلتِها، وهيمانِها في عالمٍ حُلميٍّ، تجدُ ذاتَها ولذَّتها فيه، مُتنصِّلةً، في الغالبِ، من شواغلِ الواقعِ، مثلما نقرأ في ديوانِهِ الأوَّل(1):
” وَحْدِي سَأَخْرُجُ، مِنْ دَمِي..هَذا المَسَاء
وَأَشْهَدُ الـ… صَّدَع الأخِيرْ… “
وأيضًا:
” تَصْهَلُ أَعْضَائِي في الشِّتَاتْ…”
وكذلك: ” يَهْضِمُنِي المَشْهَدُ…”
ثمَّ يقولُ:
” لِحَرِيقةٍ في الجَوِّ أَصْعَدُ
قاذِفًا في البَحْرِ أسْلافِي السُّكارَى
قاذِفًا حَشْدًا مِنَ الشُّعرَاءِ قدْ مَاتُوا صِغَارَا
عَارِيًّا مِنِّي وَأَصْنَعُ – في رِمَالِ الضَّوءِ – امْرَأةً وَدَارَا…”
(يونيو1993)
فحالةُ الاغترابِ تجعلُ الذَّاتَ تنظرُ من شاهقٍ، أو تصرخُ في الشِّتاتِ؛ مُتخلِّصةً من دمائِها، أو محتقرة لأعضائها بالصهيل، لتترك ذاتها رهينة المشاهد من حولها. إنَّها أسطرٌ شعريَّةٌ شديدةُ الكثافةِ، تُعبِّرُ عن ضيقٍ وهروبٍ من العالمِ الدُّنيويِّ المَعيشِ، بلْ من الجسدِ الحاوي للذَّات نفسِها، بالإشارةِ إلى الخروجِ من الدَّم، مع القبولِ بإمكانيَّة التَّحوُّل إلى حصانٍ يصهلُ، أو أيّ كائنٍ آخر؛ فهو في قمَّةِ الغربةِ قابل للاندماجِ والذَّوبانِ، في خِضمِ المشهَدِ.
لقد طرحتْ الفلسفةُ الوجوديَّةُ، خاصةً كتابات “سارتر”، أسئلةً كثيرةً تتَّصلُ بوجودِ الإنسانِ الحِسيِّ والمَعنويِّ في الحياةِ؛ فالإنسانُ المعاصرُ إذا انتهى من مشاغلِهِ اليوميَّةِ، استبدَّ به القلقُ، بأسئلةٍ محوريَّةٍ عن مبتدئِهِ ونهايتِه؛ فكلُّ شيءٍ حوله هو العدمُ، ووجودُهُ ذاتُه سيفضِي به إلى الموتِ في النِّهايةِ، كما أنَّ استبدالَ أسئلةِ الميتافيزيقا، بالانكبابِ على النَّفسِ البشريَّةِ وتحليلِها، لن يُؤدِّي في النِّهايةِ إلاَّ إلى مزيدٍ من التَّخبُّطِ؛ لأنَّ النَّفسَ البشريَّةَ لن تُجيبَ عن أسئلةِ الماهيَّةِ(2)، ونرصُدُ – في هذا التَّوجُّهِ – عجزَ المذهبِ العقليِّ في الفلسفةِ عن تقديمِ تفسيراتٍ للوجودِ الإنسانيِّ، ولم يُفلحْ التَّقدُّم التِّقنيُّ الهائلُ في تقديمِ السَّعادةِ الكُليَّةِ للإنسانِ؛ لأنَّ الماديَّةَ صارتْ طاغيةً على النُّفوسِ، وتُحوِّلُ الإنسانَ إلى شبيهٍ بالمادةِ أو الإنسان الأدائيّ المُنغمِس في مُتطلَّبات الحياةِ؛ فازدادَ المللُ وتعاظَمَ الضَّجرُ(3)، ويُوازي هذا فقدان الرَّوحانيَّة والعقائد الدِّينيَّة السَّماويَّة الَّتي تُجيبُ عن أسئلةِ الوجودِ والغيبِ، فتُخبرُنا عمَّا كنَّا قبلَ ولادتِنا، وعمَّا سنصيرُ إليه عقِبَ موتِنا، بلْ وعنْ سببِ وجودِنا في الحياةِ نفسِها؛ لأنَّ الفلسفةَ الحديثةَ اعتمدَتْ الماديَّةَ أساسًا لها، وأقصَتْ الرُّوحانيَّة؛ فتوحَّشَ الإنسانُ المعاصرُ، وتعلَّقَ بالمالِ واللذائذِ، وكلُّها نكباتٌ للرُّوحِ.
لقد كانَ الاغترابُ – فِكرًا ورُؤيةً وأحاسيسَ – شائعًا في الكتابةِ الشِّعريَّةِ خلال عقود السَّبعينيَّاتِ والثَّمانينيَّاتِ والتِّسعينيَّاتِ في القرنِ العشرينَ، رُبَّما بتأثُّرٍ واضحٍ من انتشارِ الفلسفةِ الوجوديَّةِ في الإبداعِ الغربيِّ، مُتجلِّيةً في مذهبيْ السِّرياليَّة واللامعقول، معَ توافُقٍ – دونَ شكٍّ – معَ ظروفٍ اجتماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ وفكريَّةٍ في بلادِنا؛ تختلفُ جذريًّا عمَّا مرَّتْ به المُجتمعاتُ الغربيَّةُ المعاصرةُ من حروبٍ وتدميرٍ وفقدانِ اليقين، ولكنَّ نزعةَ الاغترابِ، الَّتي نُلاحظُها، كانت ضِمنَ التَّأثُّرِ بالأدبِ الغربيِّ الحديثِ بشكلٍ عام، بجانبِ السُّقوطِ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ والفكريِّ الَّذي أصابَ المُجتمعاتِ العربيَّةِ، وزيادةِ تهميشِ الإنسانِ، وتسليعِهِ، وفقدانِ معاني الانتماءِ للوطنِ.
وقد ساهمتْ الإبداعاتُ العربيَّة في انتشار نزعةِ الاغترابِ، ممَّا أدَّى إلى تعمُّق غربةِ الشَّاعرِ/الإنسانِ وانعزالِهِ، فباتَ مُتأمِّلاً للواقعِ، مُنفصِلاً عنه، غيرَ مُشتبكٍ معه أو مُتعاركٍ، وإنَّما هو مُنكَّبٌ على نفسِهِ، مُتحصِّنٌ بها، ينأى بها عن آلامِ واقعٍ طاردٍ، أو هكذا تخيَّله.
والمشكلةُ أنَّ الفلسفةَ الوجوديَّةَ بنَتْ معرفتَها على فهمِ الوجودِ منْ خلالِ الحواسِ، وفهمِها للعالمِ منْ حولِها، وأنَّ المعرفةَ ذاتَها نابعةٌ من تلمُّسِنا للواقعِ القائمِ أمامنا، ممَّا جعلَ المعرفةَ في النِّهايةِ نسبيَّةً، وضاعَ اليقينُ، واشتدَّتْ الحَيرةُ(4)، وسادَ تصوُّرٌ فكريٌّ أنَّ المبدعَ في حالةِ صراعٍ مع المجتمعِ(5)، فإنْ قبلَه المجتمعُ بفكرِهِ فهو ينزلُ من عليائِهِ، وإنْ نبذَهُ – وهذا حتمًا حادثٌ – فالشَّاعر يُمعنُ في الاغترابِ، وهذا تبسيطٌ مُخلٌّ للظَّاهرة؛ فالمبدع ليسَ في صراعٍ من أجلِ الصِّراع معَ مجتمعِهِ، وإنَّما هو عينٌ مُختلفةٌ ترصُدُ المجتمعَ، وتطمحُ لكمالِهِ وسعادتِهِ، وترصُدُ في ذلكَ أوجهَ القصورِ، بل وتُعبِّر عن المجتمعِ في لحظاتِ الانتصارِ وأزمنةِ النَّهضةِ وأوقاتِ الصُّعود الحضاريِّ، بمفهومِ الحضارَةِ الشَّاملِ لرُقيِّ الإنسان ماديًّا وروحيًّا.
وهو الأمر الحادثُ مع الذَّاتِ الشَّاعرة العربيَّة المعاصرةِ، التي تُعاني من هزائمَ وتراجُعٍ وانحطاطِ مجتمعاتِها، بجانبِ شيوع الاستبدادِ، وحضورِ تساؤلاتٍ عديدةٍ عن الهويةِ، وطبيعتها، وإلى أينَ نسيرُ، وكيف ستكون العواقبُ، وشاعرُنا “رزق” جزءٌ من هذا الجيلِ، والأجيال السَّابقة واللاحقة عليه، التي تُشاهدُ العجزَ اليوميَّ، والفُرقة والتَّشتُّت، فآثرت العزلةَ، واتَّخذت من قصائدِها ملاجئَ زائفةً تلوذُ بها.
لذا، لم يجد شاعرنا مفرًّا من الارتقاءِ إلى كونيَّةٍ متخيلةٍ، عبَّرَ عنها بالصُّعود إلى الجوِّ/ السَّماء.. أو الانحدار إلى القِفارِ والبحارِ، لا يطمحُ في كلِّ هذا إلاَّ إلى امرأة ودار؛ وهو الحلمُ الإنسانيُّ العاديُّ البسيط، لا أكثرَ، ويبدو أنَّه كان بعيدَ المنالِ أيضًا، واللافتُ هنا استعصاء الأحلام البسيطة؛ ممَّا يُوسِّعُ دائرَةَ الاغتراب أكثر؛ فيلوذُ بالسَّماء، ويحتقرُ الأرضَ، مثلما يُؤكِّد بقولِهِ:
” السَّمَاءُ: فَطِيْرَةُ الجَائِعِ
وَالأرْضُ: حُفْرَةٌ يَنْبَغِي أنْ
تُرْدَمَ… وَالْغُبَارُ:
احْمَرَّ، وَيَسْتَطِيْفُ…”
فالسماءُ ملاذٌ للجائعِ تُطعمُه، أمَّا الأرضُ فهيَ مجرَّد حفرة في الكونِ ينبغي طمسُها، والغبارُ الرَّماديُّ تلَّونَ بالاحمرار، وصارَ طيفًا؛ فتحوَّلت الرؤيةُ إلى ضبابيَّة أو منعدمةٍ، لقد استخدمَ المفرداتِ الكونيَّةَ في التَّعبيرِ عن تأزُّم حُلمِهِ، وغضبه من الأرضِ وناسِها، في نظرةٍ أقرب للسَّوادِ، وإنْ اتَّشحت بلون الغبار، وفي جميع الأحوالِ، فهو يتمنَّى العيشَ في السَّماءِ، حيث الاستئناس بالنُّجوم، والحديث إلى الشُّموس، والنَّأي عن الجحيمِ الأرضيِّ، وتجاهله تمامًا، لذا؛ فقد ينكفأ على جسدِهِ، باكيًا على ما أصابَه:
” قَرْعٌ مَا
في مَكَانٍ مَا
في جَسَدِي
قَرْعٌ مَا
يَتَمَعْدَنُ
مِنْ آيَاتِهِ
غُبَارْ…”
يُمكنُ أن نرصُدَ مظاهرَ الاغترابِ إبداعيًّا في ثلاثةِ أبعادَ:
– اغتراب الإنسانِ عن العالمِ والكونِ؛ وهو اغترابٌ ميتافيزيقيٌّ، أو اغترابٌ أساسيٌّ مُلازمٌ لوعيهِ بوجودِهِ وتناهيه.
– الاغتراب عن الجماعةِ التي ينتمِي إليها؛ بمالهَا من ماضٍ، وقيمٍ وتقاليدَ.
– الاغتراب عن الذَّات؛ وهو أخطرُ هذه الأشكالِ الثَّلاثة وأهمُّها(6).
ومنْ علاماتِ الاغترابِ في تجربةِ شريف رزق، العكوفُ على الجسدِ ببُعديه: الماديِّ والرُّوحيِّ، فنجدُ الذَّات المُغتربةَ مُمعنةٌ فيما يخصُّ جسدَها، ألمًا أو لذَّةً، لأنَّها ببساطةٍ انعزلتْ عن الآخرينَ؛ بل ورأتهم كُتلاً صمَّاء، أو لم تعُدْ تأبه بوجودِهم، وإنَّما الوجود هو ذاتها فقط، وهنا، نجدُ أنَّ قرْعًا تمدَّد، وصارَ معدنًا، ونلاحظ الفعل “يتمعدن”، بدلالته على الصَّلابة وأيضًا البرودة التي هيَ سمةٌ في المعدن، فإذا أُضيفتْ للإنسان، فهيَ تجعله مُتشيِّئًا وأيضًا باردًا، غير عابئٍ بمَن حوله، وقد لا يشعرُ بنفسِهِ ذاتِها.
وهذا نفسُهُ نجدُهُ في ديوانه: “مَجرَّة النهايات”(7)، وإنْ كان قد عاد إلى أرضِه ثانيةً، بنَفَسٍ كونيٍّ اغترابيٍّ باذخٍ، يقول:
” وَهَاهِيَ الطُّرُقاتُ التي ظَلْتَ تَعْبُرُ
قَدْ تَشَظَّتْ
كَحُزْمَةٍ مِنْ نَيَازِكَ
في ضُلوعِكَ…”
إنَّنا إزاءَ ذاتٍ حائرةٍ بين سماءٍ مُتخيَّلةٍ، وأرضٍ تمتلئُ بالحُفَرِ والآلامِ؛ فأضحَتْ الطُّرقاتُ، وهيَ علامةٌ أرضيَّةٌ، مُتشظِّيةٌ؛ مثل النَّيازك المُتساقطة من السَّماء، فاستخدمَ مفردةً سماويَّةً في نعتِ الطُّرقِ الأرضيَّةِ، والأهمُّ أنَّ الشَّظايا تناثرتْ في ضلوع ذاتِهِ، وهنا يُمكنُ القولُ: إنَّ الذَّات الشَّاعرةَ ذائبةٌ في الأرضِ والسَّماءِ، حوتْهُما في ضلوعِها، وتأذَّتْ ممَّا فيهما من حيرةٍ وضياعٍ، ويقول أيضًا:
” سَنَتَّبِعُ ارْتِحَالَك ِفي دَهَاليزِ
الفَنَاءِ، بُدَاةً، فَاتِحِيْنَ،
حَتَّى نَصِلَ إلى غِيَابِكِ،
نَازِفِيْنَ، وَسَوْفَ يَحُطُّ غَيْمٌ
فَوْقَنَا، وَسَنَسْتَبِيْنْ..”
إنَّها صورةٌ مُعبِّرةٌ عن الاغترابِ الباحثِ عن الحقيقةِ والموقنِ بفقدانِها تمامًا، وعبْرَ صورةٍ مُمتدَّةٍ احتواها مقطعٌ شِعريٌّ، نجدُ في طيَّاتِ الصُّورةِ: ارتحال، دهاليز الفناء، الوصول للغياب، النَّزف، والنِّهاية محاولة الاستبانة أو الفهم.
ويمعنُ أكثرَ في ازدواجيَّةِ الذَّات، وصولاً إلى خلعِها عنْ نفسِه؛ ليحاورَها وجهًا لوجه، مُسمِّيًا الآخر باسمِه الأصليِّ: “شريف”؛ مُؤكِّدًا أنَّه لا يملكُ فِعليًّا إلاَّ ذاتَه التي شكَّلها وصنعَها بنفسِه، أمَّا “شريف” فرُبَّما يكون الآخرون أطلقوا اسمَه عليه، وشكَّلوا شخصيَّته، ومنْ ثمَّ تأتي هذه “الاثنينيَّة” الحِواريَّة؛ أملاً في الفهم والتَّلاقي:
” كُنَّا على هَذيْن ِالمقعديْن ِمَعًا
أنَا وَشَريْفٌ
مُحَاصَريْنِ بإرْهَاب ِمُحَاربَةِ الإرْهَابِ
شَارِدَيْنِ كَجَمْرَتيْنِ
وَلا أعْلَمُ الآنَ
أيُّنَا غَادَرَ الآخَرَ بَغْتَةً
وَلمْ يَعُدْ.”
الذَّاتُ/ أنا، وشريف/ هو، كلاهُما يحويهما جسدٌ واحدٌ، ولكنَّ المقطعَ الشِّعريَّ يجعلها اثنين، وكلاهما يُعاني من المُحاصرةِ، والإشارةُ هنا واضحةٌ إلى: “محاربة الإرهابِ”؛ الشِّعارِ المرفوعِ منذُ سنواتٍ، والذي أدَّى في النِّهايةِ إلى مُحاصَرَةِ النُّفوسِ كلِّها؛ فباتَ الخوفُ عنوانًا، وأدَّى إلى تشرٌُّدِ الذَّات وجسدِها، المقطعُ هنا سرديٌّ، وتلكَ منْ سِماتِ شعريَّةِ شريف رزق، وختامُ السَّردِ فِراقٌ غير معلوم، تمَّ فجأةً، والأهمُّ أنَّهما تلاقيا مثل جمرتيْنِ من اللهبِ، في دلالةٍ على التَّنافُر، وعندما افترقا فمن المتوقَّعِ ألاَّ يعرف كلٌّ منهما وِجْهَةَ الآخر ولا يعرفُ مصيرَه.
ويقولُ في ديوانِهِ: “هواء العائلة”:
” أينَ أنْتَ الآنَ يَا جَسَدِي؟
أنتظِرُكَ على قارعَةِ الظَّلامِ،
وَحْدِي
بلا مَأوى أوْ رَفيفٍ
وَأشْعُرُ أنَّني مُحَاصَرٌ
بَيْنَ ضَحِكَاتٍ مَكتُومَةٍ تتقافَزُ مِنْ حَوْلِي،
وَرَوائِحِ شوَاءْ.”
هنُا انفصالُ الجسدِ عن الذَّات، بدلالةِ السُّؤال الذي نقفُ أمامَه مُتعجِّبينَ؛ فقد أيقن الشَّاعر أنَّ الجسدَ ماديٌّ؛ فتخلَّى عنه، وارْتقى بروجَه إلى علٍ، ومنْ ثمَّ راحَ يبحث عن جسدِهِ؛ فقد أيقن أنَّ الجسدَ ضرورةٌ في العيشِ؛ لأنَّ ضحكاتِ الآخرينَ تُحاصرُهُ، وتسخرُ منه، ورُبَّما ظنَّ أنَّ رائحةَ الشِّواءِ التي تعبقُ أنفَه هيَ لجسدِهِ المُحترقِ، الصُّورة هنا استفهاميَّةٌ في تركيبها، وقد ظلَّتْ بلا إجابةٍ، ولكنَّ ظلامَ قارعةِ الطَّريقِ يكتنفُها، والوحدةُ إحساسُها، والسُّخريةُ عنوانُها.
وفي ديوانه: “حيوات مفقودة”(8) يقول:
“تبَيَّنْتُ مُوميَاءَ لي، في المُتْحَفِ المِصْري القديْمِ، كُنْتُ في العِشْريْنَ مِنْ عُمْرِي، على الأرْجَحِ ، وَكَانَ مِنْ المُسْتَحِيْلِ على أحَدٍ، أنْ يتفهَّمَ آلامَ رَجُلٍ يلتقِي مُومْيَاهُ، مُصَادَفةً ، وَيَتَأمَّلُ فيْهَا ، غَائبًا في صَلاةٍ مَا ، وَبصعوبَةٍ يتنقَّلُ ، بجَسَدِهِ الجَديْدِ ، وَعَيْنَاهُ مُعَلَّقتَانِ ببقايَاه الأولى ، غَائبًا عَنْ كُلِّ مَا حَوْلَهُ.”
سنجدُ هنا لونًا آخرَ من ألوانِ الاغترابِ، يُمكنُ أن نُطلقَ عليه: “حفريَّات الذَّات المُغتربة”؛ فالشَّاعرُ يُنبئنا أنَّه عثرَ على مومياءَ له في المُتحفِ المِصْريِّ، يصفُ المومياءَ بأنَّها أشبه بمَن هو غائبٌ في صلاةٍ، ونُلاحظُ سرديَّةَ المَشهدِ الشِّعريِّ؛ فهو يصفُ موقفًا استشعرَه، ويتواصلُ مع المومياءِ التي هيَ ذاتُهُ، ويُحيلُنا في طيَّاتِ الدَّلالةِ إلى مفهومِ الاستنساخِ شِعريًّا، بدلالةِ قولِهِ: ” تبَيَّنْتُ مُوميَاءَ لي”؛ فهيَ هو، وهو هي؛ ومنْ ثمَّ تأمَّلها واكتشفَ أنَّها غارقةٌ في أسئلةِ الوجودِ مثله.
لذا، من المُتوقَّعِ أنْ يصلَ إلى نفي وجودِهِ هو كلّه، وبثّ الإحساسِ أنَّ كِيانَه الماديَّ مُتلاشٍ، وأنَّ روحَه مُحلِّقةٌ، في حالةٍ أشبه بالموتِ:
“لا أحَد َفي السَّريْرِ
لا أحَدَ على الكُرسِيِّ
لا أحَدَ يَذْرَعُ الحُجْرَةَ
لا أحد في المرآة
لا أحَدَ في الحُجْرَةِ إطْلاقًا
لا أحَدَ سِوَى يقينِي بالْـ لا أحَدْ..”
فباستخدام “لا” النَّافية للجنس، وبدلالة التِّكرار اللفظيِّ، نصلُ إلى لحظةِ الانتفاءِ، بل الفناء الكامل، فيما أسماها هو: ” الــ لا أحد”، ونلحظُ أنَّ المقطعَ الشِّعريَّ خالٍ من جماليَّاتِ الصُّورةِ، مُكتفيًا بتقديمِ جُملٍ مُتتابعةٍ؛ فالمقطعُ يبدأ بـ: اللا أحد، وينتهي بـ:اللا أحد، وتكون ثمرةُ اليقينِ في النِّهايةِ هيَ اللا يقين؛ فلا عجبَ أنْ يقول في مَوضعٍ آخر، وهو يستعرضُ خواطرَه طيلةَ أيَّامِ الأسبوعِ:
الاثْنَيْنُ:
” أنَا حَتَّى الآنَ لا أسْتَطِيْعُ أنْ أُجْزِمَ، تَمَامًا، إذَا مَا كُنْتُ في الأصْلِ، حَيًّا، وَينتابُنِي مَوْتٌ مُؤكَّدٌ، أمْ أنَّنِي، في الأصْلِ، مَيِّتٌ، وَأصْحُو، على فتَرَاتٍ، قليْلا.”
فقد وصَلَ إلى النتيجةِ نفسِها التي وصَلَ إليها الإنسانُ الغربيُّ في جحيمِ واقعِهِ، واغترابِهِ عن الوجودِ، وحلمِهِ بوجودٍ آخر؛ وهيَ الإحساسُ بالموتِ في خضم الحياةِ؛ فقد كفرَ بالجسدِ والمادةِ والعالمِ والنَّاسِ والأشياءِ؛ فباتَ وجودُهُ عدَمًا، والعدمُ وجودًا له.
(2) المرأةُ (الآخر والأنثى) وجماليَّةُ المُفارَقة:
تعني المُفارقةُ: ” لعبة لغويَّة ماهرة وذكيَّة بينَ الطَّرفينِ: صانع المُفارَقة وقارئها، على نحوٍ يُقدِّم فيه صانعُ المُفارَقة النَّصَّ بطريقةٍ تستثيرُ القارئَ، وتدعوه إلى رفضِ معناها الحرفيِّ، لصالحِ المعنى الخفيِّ، والذي يكون غالبًا المعنى الضِدّ، وهو في أثناء ذلكَ يجعل اللغةَ ترتطمُ ببعضِها البعضَ؛ بحيثُ لا يهدأ للقارئِ بالٌ إلا بوصولِهِ إلى المعنى الذي يُحقِّقُ له الاستقرارَ النَّفسي”(9)
وهذا الملمحُ الجماليُّ استشعرناه كثيرًا في البنيةِ الشِّعريَّة لشريف رزق، في النُّصوص التي قمنا باستعراضِها في المحورِ السَّابق، وسنواصلُ تعميقَها في هذا المحورِ، مع الأخذِ في الحُسبانِ أنَّ هذا المحورَ والخاصَّ بالمرأةِ، هو ناتجٌ ومُرتبطٌ بفلسفةِ الاغترابِ التي هيَ السِّمةُ الأساسيَّةُ لشعرية “رزق”؛ التي لابدَّ أنْ تُقرأَ في سياقِها الثَّقافيِّ والاجتماعيِّ.
إنَّ المفارقةَ تتبدَّى في شعريَّةِ شريف رزق بكونِهِ ذاتًا مغتربةً، ومعَ ذلكَ فإنَّ المرأةَ في حياتِهِ لا غنى عنها؛ لأنَّها ليستْ أنثى يحتاجُها الرَّجل فقط، وإنَّما هيَ أيضًا آخر، يُعادلُ النَّقيضَ والضِدَّ جنبًا إلى جنبٍ مع رقَّة الأنوثةِ، يقول في ديوانه: “عزلة الأنقاض”، جامعًا بينَ جسدِهِ الرّجوليِّ والمرأةِ الجسدِ والضِدِّ:
” ثَمَّةَ وَجْهِي وَنَهْدَاكِ
فَضَاءَان ِمِنْ عَاجٍ يَصُوْحَانِ
في سَحَابٍ جَارٍ .
ثَمَّةَ شَعْرُكِ مَوْجُ السَّمَاءِ
ذِرَاعَاكِ نَهْرَانِ
ثَغْرُكِ السَّادِيُّ وَأنْفَاسُهُ الاِحْتِفَاليَّةُ.”
المُفارقةُ هنا واضحةٌ؛ حيثُ نظرَ إلى المرأةِ جسدًا، فأشارَ لبعضِ أجزائِه، وجعلَ جسدَه حاضرًا معها من خلالِ ذِكرِ مفردةِ: “وجهه”؛ فالحوارُ هنا ليس كلامًا وإنَّما جسديٌّ، عبْرَ “النهدينِ، الوجه، الذِّراعينِ، الثَّغر، الأنفاس”، بنعوتٍ مُستوحاةٍ من غربةٍ تشعرُ بالقهرِ بدلالةِ لفظةِ: “السَّادي” في نعت الثَّغر، مع تحويلِ الجسَدِ الأنثويِّ إلى كِيانٍ كونيٍّ؛ فالشِّعرُ موْجُ السَّماء، والذِّراعانِ نهرانِ، والنَّهدانِ فضاءانِ من عاجٍ، وهكذا تتكوَّنُ المُفارقةُ من تحويلِ الجسدِيِّ إلى كونيٍّ، والأنثويِّ إلى ساديٍّ، والأنفاسِ السَّاخنةِ إلى أنفاسٍ احتفاليَّةٍ؛ لنصلَ إلى أنَّها ليستْ أنثى.
ويُؤكِّدُ هذا المنحى في: “مجرَّة النِّهايات” بقولِهِ:
” هَكَذَا جَاءَتْ المَرْأةُ الأخْرَى
وَفَكَّتْ لِيْ ضُلوعِي
فَجَمَعْتُهَا في جِيوبِي
وَنَثَرْتُهَا في جَحِيمٍ.”
المرأةُ الأُخرى لا نعلمُ ماهيَّتها، ولكنْ نتلمَّسُ آثارَها: لقد فكَّكتْ ضلوعَه، ثمَّ وضعتْها في جيوبِهِ، ونشرتْهَا في الجحيمِ، لم تُصبِحْ امرأةً، إنَّها أشبه بالشَّيطانةِ الأنثى، والذَّاتُ الشَّاعرةُ خاضعةٌ لها تمامًا، راضيةٌ بتفكيكِ الضّلوعِ، ثم نثرِها في النِّيرانِ، إنَّها مُفارقةٌ تُعبِّرُ عنْ موصوفٍ تعبيرًا دراميًّا؛ فالمقطعُ الشِّعريُّ هنا يُعبِّرُ عن مُفارقةٍ دراميَّةٍ، تُظهرُ المرأةَ مثلَ الكائنِ الأسطوريِّ، وتبدو الذَّاتُ الشَّاعرة كأنَّها فارسٌ يُحاربُ آلهةً تُشبهُ الآلهةَ المُتخيَّلةِ لليونانيينِ القدماءِ، ويقول واصفًا كينونتَها:
“عَرفْنَاكِ مِنَ البَرْق ِوَالعَبِيْرِ،
عَرفْنَا رَائِحَةَ انْبِلاجِك ِفي الأثيْرِ
وَالصَّبَاحَاتِ الَّتي تَتَدَحْرَجُ مِن ْكُمُونِكِ
في مَسَاءَاتٍ تُدَحْرِجُ على أعْضَائِنَا الدَّياجِيْرَ
أنْتِ كَلِيْمَةُ الصَّمْتِ وَالغُبَارِ
وَخَبِيْئَةُ الانْفِجَارِ.”
لو تأمَّلنا بدقَّةٍ وصفَ المرأةِ هنا، سنجدُ أنَّها مفارقة الصِّفات المُستترةِ أو مفارقة آثارِ الأنثى؛ فالذَّات الأنثويَّةُ هنا غائبةٌ جَسَدًا، ولكنَّها حاضرةٌ بآثارِها في الكون، ويُمكنُ القولُ إنِّ الشَّاعرَ أسبغَ عليها من كونيتِهِ الكثيرَ من النُّعوتِ؛ فهيَ مُحرِّكةٌ للبرقِ؛ لندركَ أنَّ تكوينَها ضوئيٌّ، يفوحُ بالعبيرِ فينتشر في الأثيرِ، ويملأ الكونَ بأريجِها، أمَّا الصَّباحات (إشراقة الصُّبح)، فهيَ تأتي عندما تكمنُ المرأةُ؛ لنعيَ أنَّ المرأةَ هنا شمسٌ تُلقي لنا الصُّبحَ كلَّ يومٍ، مثلما تُدحرِجُ لنا المساءاتِ، بظلامِها المُغلَّفِ لما حولنا، أمَّا صوتُ المرأةِ فهو الصَّمتُ، الذي يحوي في طيَّاتِه الانفجارَ.
ويقولُ في: “حيوات مفقودة”:
” كأنَّني أنظُرُ في المِرْآةِ
كأنَّني أُتابعُ فيلمًا لا ينتهِي
أراني، في كُلِّ أحْدَاثِهِ، بمَعْزِل ٍعَنِّي.
المَرْأةُ الَّتي وَضَعَتْهُ في أحْضَانِهَا
تَضُمُّنِي أنَا.”
وهنا في هذا المقطعِ، تبدو “مفارقة المرأة المرئيَّة” أو “مفارقة امرأة الشَّاشات”، فالذَّات الشَّاعرةُ تنظرُ في مرآةٍ، كأنَّها تُتابعُ فيلمًا في شاشةِ التِّلفازِ أو السِّينما أو الحاسوبِ، وتغرقُ في الأحداثِ، ثم تُفاجأ بأنَّ المرأةَ التي ظهرَتْ أمامَه، حضنتْهُ، وضمَّته بقوَّة، وإذا أعدنا تأمُّلَ المقطعَ ثانيةً، سنجد أنَّه تأمَّل في المِرآةِ فوجدَ امرأةً، ولم يشاهدْ ذاتَه الذُّكوريَّة، كأنَّ المرأةَ المرئيَّةَ في المِرآةِ تعملقتْ في خيالِهِ، فخرجتْ لتضمَّه. وفي ديوانه: “هواء العائلة”(10) نقرأ :
“على سُلَّمِ المترو
المرْأَةُ الَّتي تَبِيْعُ المنَادِيْلَ
مِنْ بَيْن زِحَامِ الصَّاعِدِيْنَ
تُلاحِقُنِي بنَظْرَةٍ
أرْتَجِفُ لَهَا.”
إنَّها مفارقة الخوفِ من الأنثى؛ أيّ أنثى، ولو كانت تبيعُ المناديل، تنظرُ لأيِّ إنسان لعلَّه يشتري منها؛ فهي نظرةٌ منها غيرُ متعمَّدة له، ولكنَّها تحملُ معنى في داخلِهِ، يُشكِّلُ هذا الإحساسَ؛ الذي يجعله يرتجفُ؛ لنصلَ إلى دلالةِ أنَّ الأنثى تخلَّت عن رِقَّتها وضعفِها في أعماقِهِ، وباتتْ سببًا في قهرِهِ.
وهناكَ وجهٌ آخر للمرأةِ في تجربتِهِ، إنَّها المرأةُ الأصلُ له؛ ونعني بها الأمّ والجدَّة، وكلّ مَن له علاقةٌ بهما؛ فمكانةُ الأمِّ عظيمةٌ في نفسيَّةِ شاعرنا، يقول:
“هَذِهِ أمِّي
وَهَذَا أنَا
الطَّائرُ الَّذي يَتَوَقَّف ُعلى شُبَّاكِهَا
في كُلِّ صَبَاحِ
مُتَلعثِمًا بأغْنِيَةٍ مَا.”
يستحضرُ ذاتَه كلَّها: الأنا والشَّاعر والإنسان، مُفتخرًا بانتمائِه لأمِّه، وأنَّه جزءٌ منها؛ فهيَ الشَّجرةَ الباسقةَ، التي تُغنِّي عليها الطُّيور، أو هيَ المنزلُ الذي يقف على شُبَّاكه الشَّاعر/ الطَّائر، كيْ يمتاحَ من ألحانِها، صورةٌ رائعةٌ، للمرأةِ / الأمِّ، والأمِّ / الإلهامِ، والأمِّ / الحنان، والأمِّ / الألحان.
وقد تقتربُ الذَّات الشَّاعرة من أرضيَّتها، وتنظر إلى المرأةِ بوصفِها جسدًا يغوي، ونفسًا تحوي، بل تُحرِّرُ جسدَه وتُخرجَه من إسارِهِ؛ لتذيقَه معنى اللذَّة؛ نقرأ مشهدًا سرديًّا، أقرب للقصَّة القصيرةِ جدًّا:
“المرعِبُ في المسْألَةِ أنَّهَا كانَتْ صَدِيقَةُ أمِّي
الجَارَةُ الَّتي اسْتَوقَفَتْنِي في طريقِ عَوْدتِي
وَأنْبَأتْنِي أنَّهَا سَتَصْعَدُ لِي
لأكْتُبَ رِسَالةً إلى زَوْجِهَا
المرْأةُ الَّتي أهْمَلَتْ الرِّسَالةَ، وَحَرَّرَتْ جَسَدِي
وَقَادَتْنِي إلى مَجَاهِلَ، لمْ أزَلْ أتَخَبَّطُ فيْهَا.”
إنَّها “مفارقة الغواية”؛ فالمرأةُ غوت الذَّات الشَّاعرةِ، وكانت مفارقتُها أشدّ لأنَّها صديقةُ أمِّه؛ أيْ تكبرُهُ بسنواتٍ كثيرةٍ، ولكنَّها نظرتْ إليه نظرةَ الاشتهاءِ، مُتخطِّية العلاقاتِ الاجتماعيَّةِ التَّقليديَّة؛ فاللذةُ لا تعرفُ سنًّا ولا أُطرًا، وإنَّما تعني الإغراق. المُدهشُ أنَّنا نجدُ في ختامِ المشهدِ أنَّ إغواءَ المرأةِ فكَّ مغاليقَ جسدِهِ، وقاده إلى مجاهلَ؛ لأنَّه اكتشف أنَّ جسدَه فيه مشاعرُ وأحاسيسُ أخرى، قد تضيفُ له أبعادًا جديدةً في ذاتِهِ، ولكن – وللمفارقةِ أيضًا – تركتْه مُتخبِّطًا؛ لأنَّها أيقظتْ في جسدِهِ ما لا يريدُهُ ومنْ الصَّعبِ أن يتعاملَ معه، فما يزالُ يتخبَّطُ بينَ عقلٍ تغريبيٍّ، وجسدٍ مُشتهي:
“أنَا هُنَا يَا جدَّتِي
في هَذِهِ الجُثَّةِ الَّتي تتبعُكِ كالسَّحَابَةِ
أيْنَمَا سِرْتِ، بَاكيَةً، وَمُنَاديَةً عليَّ
أصْرُخُ وَأنْتِ لا تَسْمَعِينَنِي
أنَا هُنَا يَا جدَّتِي.”
جاءتْ المرأةُ هنا الجدَّة؛ بدلالتِها التَّقليديَّة، الجدَّة التي تعني لنا: العطف والحنان والأمومة الفيَّاضة، والذَّات الشَّاعرة تتبعُها، ولا نعرفُ هل الحدثُ هنا في الطُّفولة أم الشَّباب أم الكهولة، ولكنَّنا نثقُ أن استحضارَ الجدَّة هنا يعني ملجأ وملاذًا، ويُذكِّرنا بتتبُّع الطِّفل الصَّغير بجدّته وهيَ تسيرُ في الشَّارع، ثم يكونُ المشهد بسرديَّة دراميَّةٍ مُؤثِّرةٍ؛ لأنَّ الجدَّةَ سرعانَ ما تفنى في المشهدِ، وتبقى الذَّات الشَّاعرةُ تصرخُ عليها، وهيَ لا تسمعُها، وتقول: أنا هنا يا جدَّتي، إنَّها مفارقةُ الصّراخ المنعدمِ؛ لأنَّ السامعَ غير موجودٍ أو أصمّ، في رغبةٍ حثيثةٍ من الذَّات الشَّاعرة للظَّفر بالحنانِ والعطفِ والأمومةِ، ورُبَّما تكون تلكَ أزمتُها الحقيقيَّة؛ التي أفضتْ إلى الاغترابِ الذي نجدُهُ ممتدًّا في تجربة شريف رزق من المبتدأ إلى المنتهى، والذي يتبدَّى على نحو بارزٍ في المقطعِ الأخيرِ من ديوانِهِ: “هواء العائلة”:
“لماذَا أُحِسُّ – بينَ وقتٍ وَآخَرٍ-
وأنَا أتطلَّعُ إليكُمَا معًا
أنَّني غريبٌ عنْ هذِهِ العَائلَةِ
وأنَّني في الحقيقَةِ لسْتُ مِنْكُمَا أصْلاً
وأنَّني أعيشُ تمثيليَّةً كئيبةً
فكَّرْتُ أنْ أكتبَهَا يومًا مَا في قصَّةٍ بعنوانِ: المجهولْ.”
******
إنَّ الاغترابَ في الشِّعر العربيِّ المعاصرِ يُعبِّرُ عن أزمةٍ ذاتِ وجهينِ: الأوَّل يتَّصلُ بفقدانِ الهويَّة والانتماءِ، والثاني: العلاقة المتأزمة مع المجتمع(11)، وكلاهما يُؤدِّيانِ إلى عزلةٍ وضياعٍ وتخبُّطٍ لأبناءِ الوطنِ عامةً، وللشُّعراءِ – بوصفهم مُعبِّرينَ عن أحاسيسِ المجموعِ – خاصةً، ولا تزالُ الأزمةُ مُستمرَّةً؛ لأنَّ الإنسانَ العربيَّ يعاني من مسبِّباتٍ عديدةٍ لاغترابهِ، ولا يجدُ في الأفقِ حلاًّ لها.
ولابدُّ من الأخذِ في الحُسبانِ أنَّ موقفَ الشَّاعرِ من مجتمِعِه والعالمِ من حولِهِ يأتي على أربعَةِ أوجهٍ: الثَّورة على المجتمعِ، العزلة الكُلِّية، الاغتراب عنه، التَّأقلُم مع المجتمع(12)، ولو أعدنا صياغةَ هذه الأوجهِ في رؤيةٍ فلسفيَّةٍ، لعرفنا أنَّ مهمَّةَ المبدعِ ليستْ إحداثَ تغييراتٍ جذريَّةٍ في المجتمعِ، وإنَّما نشر وعيٍ جديدٍ، وتصحيح وعيٍ قائمٍ، وأنْ يربطَ نفسَه بهمومِ المجتمعِ، ويطمحُ – مع آخرينَ – في تغييرِ هذا المجتمعِ للنَّهضةِ والتَّقدُّم؛ فالشَّاعر ليسَ مُقاتلاً، وإنَّما ناشر للوعي الجماليِّ والفكريِّ؛ لكي لا يتخيَّلَ أحدٌ أنَّه بقصيدةٍ ستندفعُ الجماهيرُ للتَّغيير.
ولنبدأ نقاشنا للأوجه الأربعة بالحالة الأخيرة وهي التأقلم مع المجتمع؛ فهي حالة تجعل المبدع تابعا لأحوال المجتمع، وتخص ضعاف المواهب، الذين لا يتكسبون بالإبداع، ويتخذونه وسيلة للوجاهة الاجتماعية والأدبية، مثلما نرى عند شعراء المديح للخلفاء والأمراء قديما، ومُنافِقِي السلطة والحكومات حديثا، وهؤلاء لا يعوّل عليهم في تغيير الوعي لدى الناس؛ لأنه غير مستعد أن يصادم ما لدى الناس من قناعات، بجانب أنه فاقد لفكر الثورة والتغيير.
أمَّا الوجهُ الأوَّل؛ وهو الثَّورة على المجتمعِ، فقِلَّة من المُبدعينَ الذين يملكونَ هذا الفِكرَ، وغالبًا ما يكونونَ ذوي توجُّهاتٍ إصلاحيَّةٍ، وأفكارٍ فلسفيَّةٍ، ترتبطُ بمذاهب تقدميَّةٍ أو راديكاليَّةٍ أو تشبَّعوا بأفكارٍ إصلاحيَّةٍ ترنو جميعُها إلى التَّغيير الثَّوري؛ بمعنى تغيير الواقعِ بطُرقٍ ثوريَّةٍ سريعةٍ في نتائجِها.
ويقابل هذا الوجهَ الثَّوريُّ: العُزلةُ الكُلِّيَّة عن المجتمعِ في كهفٍ أو بيتٍ أو غرفةٍ أو قلعةٍ، وهو وجهٌ يفرُّ إليه مبدعون يُعانون في مجتمعاتِهم، ولعلَّ أبا العلاء المعري مثالٌ واضحٌ على ذلك؛ ولكنَّه يستغلُّ عزلتَه في إنتاجٍ شعريٍّ رفيعِ المستوى، وينكبُّ على ذاتِه ليقرَأها، ويُزوِّدها بالجديدِ من الأفكارِ والفلسفاتِ والرُّؤى.
ويأتي في نهايةِ الأوجه: الاغترابُ؛ الذي يكون الموقف الأخفّ من المبدع؛ لأنَّه يعيشُ مع النَّاس بروحٍ غير الرُّوح، وفِكرٍ غير الفِكرِ، وأحاسيسَ مُختلفةٍ.
*******
إنَّ الاتِّجاه الاغترابيَّ في الشِّعر يحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ من قبل الشُّعراءِ؛ لأنَّه بكائية مُستمرَّةٌ، تشكو وتئنُّ وتتألَّمُ وتصرخُ، وتُغيِّبَ ذاتَها وتُفنيها عن الواقعِ الذي ترفضُه، وترفضُ التَّواصلَ معه، وتُقيم عوالمَ بديلةٍ، يبدو هذا الاتّجاهُ في مقابلِ اتِّجاهاتٍ أخرى في قصيدة النثر، تشتبكُ مع الواقعِ بكلِّ ما فيه، وتتخلَّى عن القطيعةِ معه؛ مُوقنة أنَّ مُرَّ الواقع وجروح الاشتباكاتِ، لها آثارٌ إيجابيَّةٌ مُتمثِّلة في تحفيزِ المتلقِّين، والتَّواصُل معهم، على أملِ تغييرٍ حتميٍّ، يكون الشَّاعرُ فيه سببًا (من أسبابٍ) لتغييرِ الوعي والفِكرِ والجمالِ.
الهوامش:
(1) عُزلة الأنقاض ، ط1 ، 1994.
(2) اتِّجاهات الفلسفة المعاصرة، هنري بريستيد، ترجمة : د.محمود قاسم، سلسلة: الألف كتاب، إشراف: إدارة الثَّقافة بوزارة التَّربية والتَّعليم، منشورات دار الكشَّاف، القاهرة، 1957، ص ص:104- 107 .
(3) حكمةُ الغرب: الفلسفة الحديثة والمعاصرة، برتراند رسل، ترجمة: د.فؤاد زكريّا، سلسلة :عالم المعرفة، الكويت، 2009، ص ص: 249 – 250.
(4) الاتِّجاهات المعاصرة في الفلسفة ، د.عبد الفتاح الديدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1985، ص:169.
(5) اتجاهات الشعر العربي المعاصر، د. إحسان عباس، سلسلة: عالم المعرفة، الكويت، 1978، ص: 157.
(6) الاغتراب وقضايا أخرى في الشِّعر الحديث، علم الدين بدرية، موقع: الحوار المُتمدِّن، العدد: 2631 – 2009 / 4 / 29.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=170354
(7) مَجرَّة النهايات، 1999.
(8) حيوات مفقودة، مركز الحضارة العربية، ط 1 ، 2003.
(9) المُفارقة والأدب: دراسات في التطبيق، خالد سليمان، دار الشرق، عمان، الأردن، ط1، 1999، ص:46.
(10) هواء العائلة ، مركز الحضارة العربية، ط1، 2016.
(11) اتِّجاهات الشعر العربي المعاصر ، ص:159.
(12) السَّابق ، ص:159 .