صفعة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

سوزان خواتمي

عندما سمعت طرقاً على باب شقتي المؤقتة، هرعت متأملاً جاراً أو صديقاً. إلا أني فوجئت بالزي الكحلي، القبعة الصغيرة جانب الرأس، والشارة  الصفراء على الساعد، ورجل الشرطة ذو الشعر الأحمر يبتسم. ما زال هذا الزي حتى إن لم يكن كاكياً يفزعني.

حاولتُ أن أتماسك، وادعيت الهدوء، وكل عضلة في جسدي تنتفض. رددت التحية .

أردت سؤاله عما يريد، لكني تلعثمت، لم تسعفني اللغة. التصقت العبارات القليلة التي تعلمتها بسقف حلقي.. تأتأت.

في قسم الشرطة ساعدنا المترجم ، قال منهياً كلامه: يتهمونك بأنك أبٌ غير صالح .

-ألأني  صفعت ابني؟.

-ألم تصفعه.؟

-يا أخي، صفعته. الولد مراهق وقلل أدبه. ردّ علي بقلة احترام.

- إنه القانون هنا وعليك أن تحترمه.

بعد يومين قضيتهما في مخفر يشبه إلى حد كبير إحدى فيلاّت الأثرياء في بلادي، هادئ ونظيف وحوله حديقة مليئة بالورود. زارني المحقق برفقة المترجم، كانا يتبادلان ابتسامات لا تعجبني، ترتجف  شفتي السفلية كلما حاولت أن أكرر شرح الحادثة كما حدثت.

كان أبي، رحمه الله، حين يثور، يطحن جسد أمي، ركلها مرتين أمامي. لم تشكِه أمي إلا لله. لم تأت الشرطة يوماً تدق بابه.  وكان يترك علامات زرقاء على كتفي وظهري، يسحب من علاقات بنطاله حزامه، يسوّطه في الهواء، محدثاً ذاك الصفير، كان الصوت يؤلمني أكثر مما تفعل اللسعة نفسها. مع ذلك حين توفي قبَّلت قدميه. وبعد كل صلاة أرفع يديّ أدعو له بالرحمة كما رباني صغيراً.

في اليوم الثالث، حضرت زوجتي التي لم أعرف غيرها امرأة. سألوها، فقالت:

-نعم .. ضربه بشدة تورّم خده، وحين حاولتُ الدفاع عنه دفعني، كتفي ما زال يؤلمني.

تحسستهُ ولمعَ الدمع في عينيها.

ابنة الـ.... لم تدافع عني، ولم تخبرهم أني أبٌ صالحٌ.

قبل ثلاث سنوات وعشرة أشهر كان عبد الرحمن ما زال في التاسعة من عمره وحنان أخته أصغر منه بعامين. عبرنا البحر، وبفضل الصحو والحظ ودعاء أمي التي مازالت تبكي أكثر مما تحكي، لم نغرق.

تركنا خلفنا بيتاً قُصف، كل ما بقيَّ من العمارة بطوابقها الستة؛ شرفتنا معلقة في الهواء، وكرسيٌ وثوبٌ منشورٌ على حبل الغسيل. تلك الصورة تناقلتها وكالات الأنباء، ومواقع التواصل الاجتماعي. اعتبرها الفنانون لوحة سيريالية. وعلَّق الملتحون: المؤمن مُبتلى.  وقال آخرون: إنها دليل الأمل واستمرار الحياة. وتجرأ البعض وقالوا: خرجهم الله لا يقيمهم.

تحولت الحارة إلى أنقاض وخرائب، ومات الكثير من الجيران، دفنوا تحت الحجارة والأسمنت. كنا محظوظين، لكننا دون مأوى. أقمنا لفترة عند أمي العجوز في القرية حيث تعيش مع أختي وأولادها بعد أن قُتل زوجها، كان من المستحيل أن يتسع البيت لنا جميعاً. اتخذتُ قراري، فلم يعد عندي ما أخسره؛ إن مِتنا في الطريق فنحن موتى هنا، وإن نجونا ووصلنا، فهذا يعني فرصة جديدة.

حملنا حقيبتيّ ظهر. ودفعت نقوداً كثيرة للمهرب. ركبنا البحر بقارب مطاطي، ثم قطعنا الحدود البرية والأسلاك، واجتزنا الغابات، ومشينا آلاف الكيلومترات حتى وصلنا السويد.

لم أستطع إقناع أحد من هذه البلاد، أن مجرد صفعة، لا تجعلني أباً غير صالح، ولا تنسف التعب والمصاعب التي احتملتها حتى نجونا.  هذه الجنة لا تعرف أن العقاب والثواب أنصاف أقواس بها تكتمل دائرة المحبة.

قال لي المحامي وهو يبتسم:

Sir- ابنك عبد الرحمن رفض عرضاً جيداً لتتبناه أسرة أخرى.

كتر خيره. أجبت.

صديق شهم أرسل لي قيمة الكفالة، ووقعت على إقرارٍ بأني لن أصفع أو أشتم، أو أدفع زوجتي أو ألمسها.

خرجت من السجن، عدتُ إلى البيت. المفتاح في جيبي، ولكني فضلت أن أدق الباب، بصمت الغرباء اتجهت إلى غرفة النوم. فتحت الخزانة، وفي حقيبة ظهرٍ صغيرة وضعت لوازمي القليلة.

لابد أن أمي بانتظاري.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصّة سورية

والقصة منشورة في كتاب امنحني 9 كلمات صادرة عن دار فراشة.

 

 

مقالات من نفس القسم