يتحدث سيميك في هذا الكتاب السيرة، الذي قامت بترجمته إيمان مرسال، عن ذكرياته البعيدة والتي بدأت في التشكل عندما بدأ يلتفت لتفاصيل الحياة أو عندما بدأ الآخرون يطلقون عليهم “مشردون” العام 1945، إبان الحرب العالمية الثانية، حيث حياة اللاجئين الهاربين من الحرب المتضورين جوعا في القطارات والمخيمات والسجون ويقول سيميك “أسرتي مثل أسر عديدة، تمكنت من أن ترى العالم مجانا، والفضل يعود إلى حروب هتلر وسيطرة ستالين على أوروبا الشرقية، لم نقرر شيئا لأنفسنا. كل شيء رتبه قادة العالم وقتها. كالكثير من النازحين لم يكن طموحنا يتعدى حدود مدينتنا بلغراد”.
يفتتح صاحب ديوان “العالم لا ينتهي”، سيرته هذه، الصادرة عن دار “الكتب خان” الطبعة الأولى 2016؛ (صدرت نسختها الإنكليزية العام 2000)، بحديثه، “قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة، لقد تشرد الكثير من الناس في هذا القرن. أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة، سيكون مستحيلا أن أدعي تميز وضعي كضحية، أنا أو أي شخص آخر، إذا أردت الصدق. خاصة أن ما حدث لي منذ خمسين سنة يحدث لآخرين اليوم”.
مهمة الشعر حسب تشارلز سيميك إنقاذ أثر الحقيقة من حرب الأديان، والفلسفات، والأنظمة السياسية
نشر صاحب ديوان “المجنون”، قصائده لأول مرة في عدد الشتاء من دورية شيكاغو ريفيو عام 1959، ولكن من يقرأ هذه القصائد يشك في انتمائها لنفس الشاعر فكما يقول تشارلز سيميك. حيث في كل فترة يتأثر بشاعر مرة ببهارت كرين ومرة أخرى بوالت بتمان، وعندما وقع في غرام الشاعر إزرار باوند، كتب قصيدة من ثمانين صفحة عن الحرب الأهلية الإسبانية، وحسب رأيه فأن ما كتبه من قصائد بين عامي 1956 – 1961، يفوق ما كتبه في كل سنين عمره، ويصفها بأنها كانت قصائد سيئة ولقد سعد جدا يوم مزقها. وهو جالس على سريره في شتاء 1962، في الثكنة العسكرية، وبرر سيميك ذلك أنه ربما يكون وجوده بعيدا عن قصائده فترة طويلة أو مروره بتجارب عديدة هو ما جعله يراها لا تنتمي إلى الشعر لذلك مزق مئتي صفحة دفعة واحدة ومع ذلك لم تتوقف رغبته في كتابة الشعر. فقد وصف أصدقاؤه قصائده بـ”عبارة عن صور مجنونة متلاحقة بشكل اعتباطي”، ولكنه ظل مدافعا عنها بقوله “ألم تسمعوا عن السوريالية والتداعي الحر”، حتى أن أعز أصدقائه وهو بوب بيرليه قال عنها “قصائدك ليس لها معنى”.
جاء نشر قصائد تشارلز سيميك بطيئا. كل يوم يحضر له البريد خطاب رفض جديدا. وهنا يضيف سيميك في إحدى المرات أن البريد احتوى على ملحوظة شخصية من المحرر يقول فيها “عزيزي سيميك، من الجلي أنك شاب ذكي، فلماذا تضيع وقتك في كتابة غزيرة عن الخنازير والصراصير؟”.
كان الشاعر تشارلز سيميك محبا للقراءة، ولعله لا يبالغ عندما قال لم أكن أذهب إلى الحمام من غير كتاب في يدي، أقرأ حتى أسقط في النوم وأستأنف القراءة بمجرد أن أصحو. أقرأ في وظائفي المختلفة، مخبئا الكتاب بين الأوراق أو في دُرج المكتب نصف المفتوح، قرأ أفلاطون وميكي سبيللين وإميلي ديكنسون ولويس بورخيس وبابلو نيرودا. أما الكتاب الذي غيّر كل أفكاره عن الشعر فكان “أنطولوجيا شعر أميركا اللاتينية المعاصر”.
آمن سيميك بأن التخطيط للمستقبل مضيعة للوقت فقد قال في هذه المذكرات “اعتاد أبي أن يسألني مازحا، إلى أين ستهاجر المرة القادمة؟”، عاش متنقلا بين باريس ونيويورك وشيكاغو عمل كمصحح فقرات النعي والإعلانات في صحيفة شيكاغو، ومسؤول عن الملصقات في دار نشر جامعة نيويورك، وموظف في شركة للتأمينات.
كانت علاقته بوالده جورج سيميك أقرب إلى الصداقة كانا يستمعان للموسيقى معا ويقضيان أوقات كثيرة في الحكي عن حياة كل منهما. عندما التقيا في نيويورك بعد غياب دام عشر سنوات لم تكن هناك صعوبة في بناء العلاقة من جديد بين الأب وابنه، بل بدا أن الأمر أسهل في أن يكونا صديقين. في نيويورك يقضيان نهار السبت في التنقل من مكتبة إلى أخرى، كان طموح والدي كما يقول سيميك أن يكتب تأريخا نقديا للماركسية.
هل الطعام يجلب السعادة؟ يجيب كاتب هذه السيرة “نعم”، تنطلق أفضل الأحاديث حول مائدة الطعام، يرافقها الشعر والحكمة. الملهمون الحقيقيون هم الطباخون.
ويضيف سيميك “يمكن للمرء أن يكتب سيرته الذاتية عبر وصف كل وجبة استمتع بها في حياته، وستكون قراءتها أكثر متعة مما نقرأه عادة. بصدق، ما الذي تفضله، وصف أول قبلة أم الكرنب المطبوخ بإتقان؟”.
في هذه المذكرات يتحدث المؤلف عن بوريك دوبرساف سيفيكوفيتش الذي أكله منذ أربعة وأربعين عاما، “ومازال باستطاعتي أن أراه وأتلذذ مذاقه عندما أغلق عينيّ”. وفي 9 مايو 1950، طلب من أقاربه أن يعطوه نقودا بدلا من هدايا عيد ميلاده، حيث قضى يومه مع صديق متنقلا من مخبز إلى آخر.
يرفض تشارلز سيميك التكهنات بموت الشعر، معتبرا إياها مثل معظم تخمينات المثقفين في هذا القرن، مهمة الشعر حسب سيميك إنقاذ أثر الحقيقة من حرب الأديان، والفلسفات، والأنظمة السياسية.
………………
*نقلاً عن صحيفة “العرب” اللندنية