قراءة لـ “حكايات يوسف تادرس” لعادل عصمت

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زهراء يوسف*

كانت هذه الرواية فرصةً جيدة لاكتشاف كاتب مهم هو"عادل عصمت" والتي فاز عنها بجائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2016

نرافق يوسف تادرس منذ لحظة ميلاده وما قبلها قليلًا، والده الذي عانى من فقد طفله عندما غرق في النهر ووفاة زوجته بعدها، الأب الذي ظلت أميّته تسبب له عقدة نقص تجاه المتعلمين لا يستطيع تجاوزها، عدم معرفته بالقراءة والكتابة جعلته يوافق أخيرا ويتشجع على الزواج مرة أخرى من شابة تستطيع القراءة والكتابة، والدة يوسف التي كانت تطمح أن تنذر نفسها راهبة لخدمة الرب.
 بينما كان يوسف يرافقها في توزيع كوبونات التبرع لجمعية الكتاب المقدس، هذه المشاوير وبطء مشي والدته جعله يركز في كل شيء يراه ويتأمله ومن جراء خيالاته تنبثق مخاوفه إلى أن يكتشف طريقة للتغلب عليها فيجد الملجأ في الرسم!  وهكذا نرافق يوسف بكل ولاداته الرمزية الأخرى سواء كانت عندما وجد شغفه بالرسم أو بلحظات الحب في حياته وتقلباتها.

أحبُّ الروايات التي يتمدد بها الزمن؛ حيث نشهد مع صاحبها عدة حقب، وتبرز خلف الشخصية الرئيسية الظروف والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد وتطل علينا بوضوح، وأعتقد أن هذا ممّا يميز الأدب المصري زخم الحياة وغناها وحركتها الدؤوبة، لكن في هذا العمل ركز عادل عصمت على الأنا وصراعاتها؛ سيرة فكر وعاطفة الشخصية التائهة الضائعة التي تبحث عن النور، شخصية تعاني من التوترات مع الأب والجفاء بالعلاقة قد يكون سببه القرب والعلاقة القوية مع الأم!! ، الأهل أول من يشكل عقدنا النفسية!.. تلك الشخصية الهائمة على وجهها، عندما بدأت حياتها بجدية تكتشف ذاتها وإلهاماتها واحلامها، بدأت بالكشف عن اسطورتها الداخلية وهكذا حتى تكبر، ويبدأ يوسف تادرس بالتعارك مع الحياة، يبدأ استنزاف الحياة لموهبته ولحلمه، واصطدام الذات المتضخمة بالأحلام من غير التجارب والخبرات بالواقع ! الموت هو الظرف المفاجئ الذي جعله يتوقف في أول مرحلة حياته عن الرسم، بعده عن شغفه، وما يسبب له من ارتباك وفوضى في علاقته مع نفسه ومن حوله.
ربما يوجد تشابه بشخوص نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل مثلا لأن آلام الروح تلك اللوثة أصابت ذلك الجيل الذي شهد فترة الانتقال المتقلقلة من عهد جمال عبد الناصر إلى عهد السادات والانفتاح والغلاء والانتقال لمعسكر مختلف عن معسكر عبد الناصر إلى عهد مبارك، فترته التي ازدادت فيها، مصر بالغرق في المستنقع الذي شدها إلى المزيد من الظلم والفساد !

لكن شخوص نجيب تتغذّى على من حولها في لامبالاتها وعدميتها وسلبيتها، هنا بطل عادل عصمت المسيحي الذي يواجه التهميش والسحق مع أنه لم يسرف في ذلك لأن ذلك انعكس على كوارث حياته من خلال السرد، وهذا ما يميزه: عدم الحشو واللغو في نغمة الاقلية الضحية!  وهنا أيضا اختلاف جوهري: أن الراوي هو نفسه البطل الذي يخاطبك كصديق يكشف لك أسرار حياته ومعاناته النفسية والفلسفية في محاولته للتأقلم مع نفسه وواقع حياته، إيقاع حياته البطيء حينا والسريع حينا جعل مصير البطل كأنه مصيرك، لا مجال للمقارنة لكل كاتب أسلوبه المتفرد والمتميز وهنا شعرت بفرادة عادل عصمت، أزمة الحياة في مصر هي التي توحد شخوص أبطال كُتابها.

غربة البطل:

ينتقل يوسف للدراسة في كلية الفنون الجميلة، ويضطر لاحقا إلى التخلي عنها والرجوع إلى بلده طنطا، "إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلا" ! تجعلنا أكثر مسؤولية أمام حياتنا وقراراتنا، أتذكر أننا نعيش حياة واحدة ونتخذ قرارا واحدا يكوّن حياتنا، فيما بعد هذه الأحداث الصغيرة التي تدخلنا في أحداث كبرى تعيد تشكيلنا تماما، هنا الخوف رافق يوسف مجددا، الخوف من المدينة والبعد أي المنفى والغربة أحس أنه يعاني من الفطام عن حب أمه العميق، ويقرر ترك الكلية ! هذا التخلي الأكثر صعوبة في حياة يوسف ولا يدركه حينها ! المكان البعيد عن زقاق طفولته وتأثيره على أم قرار في حياته..

بدأت متاعبه الحقيقية بعد العودة، المشاكل الروحية والفراغ في هذه الفترة من حياة الشباب! نفس المتاعب والهموم مع اختلاف الظروف الحياتية وطوبى لمن ينجو منها! ويصل إلى الرضا عن ذاته وحياته وتتوافق رغباته مع واقعه! فالفجوة بين الحلم والواقع أكبر هوّة تصيب النفس وتقعدها ! وبطلنا ظل في صراع مع نفسه، ومع من هم حوله، من زوجته إلى حبه، إلى عمله؛ حتى يصل مرحلة الرجل الآلي الذي يعيش من غير هدف ولا طريق، اللاشيء هو منهجه يختبئ وراء صمته ووحدته! يخسر كثيرا ويفكر بالرهبنة؛ نتيجة أحلامه بالبعث، فجأة شيءٌ يوقظه ويجعله يرسم صورته تسعا وتسعين مرة، بكل ملامحه المجنونة والمختلفة، من يراه يظنه مجنونا، لكن يوسف يتخلص من مخاوفه، عن طريق رسمها. وبعدها تتلاشى مخاوفه، وهكذا وجد خلاصه بعد عمر من معاناة ليرسم نفسه وحاله في كل كوارثه، ليرسم ما وراء ملامحه الدقيقة، ذلك النور المتسرب الذي لطالما عانى ليلتقطه، هذا الملاذ الأكثر رأفة به فرسم ما وراء الأشياء، وروحها هو ما كان يحاول يوسف أن يجسده في لوحاته انطباعاته، ورؤيته لكل ما هو حوله هو ما ميز لوحاته!

حياة الإنسان عندما يراها بغيره، بكل صعوباتها ومخاضاتها، يتأكد من أنه فعلا أتفه من نملة! وأن يصل لمرحلة يراجع بها تفاصيل أحداثه الكبرى والصغرى، مثل يوسف كيف يغيِّر قناعاته، كيف يغوص بالحزن، كيف يظل تائها متشردا، يظن أن هناك ريموت كنترول يتحكم بحياته، غير واعٍ بما يفعله بنفسه، يعيش على الهامش، بعيدا عن من هم حوله، محاولا إدراك ماهيته ، مرة ضحية ومرة عدوا، هذا الضياع الذي يثقل عمرنا وزماننا، الشفاء منه أحيانا يكون بثمن بالغ، لكن على الاقل نصل إلى شاطئ للراحة قليلا قد ندفع حب حياتنا أو عمرا أو حلما أو طموحا لأجل القناعة أحسست من الرواية أن الزمن يحمل سوطا يجلدنا به حقا !

هذه باختصار رواية جميلة قد تدخلك في جو ربما تخشاه!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتبة فلسطينية

 

 

مقالات من نفس القسم