الخِفَّة هى ما يتنفَّسه الهواء كى يبقى حيًّا.
أجمل بداية لليوم هى التى تخلو من الأخبار، أىّ خبر، حتى ما يمكن أن نُسمِّيه أخبارا مُفْرِحة، لا أخبار أو مواعيد، أو شيئًا تطلبه من العالم، أو يطلبه منك، دون أن تكون فى حاجة لأحد، أو يكون أحد فى حاجة إليك، لستَ قلقًا على شىء أو أحد، من شىء أو من أحد، وليس هناك مَن أو ما يقلق منك أو عليك، لا تنتظر شيئًا ولا شىء ينتظرك، كأن المكان والزمان قد تلاشيا، فقط هذه اللحظة الممتدة، لحظة صافية، لا شىء، فقط صباح بنور طبيعى هادئ، نافذة كبيرة مفتوحة على السماء، وربما صوت بعيد فى الخلفيَّة، الصوت الطبيعى للشارع، كأنه صوت فى بُعْد آخر وزمن آخر، يبدو كأحد أصوات العالم، أصوات الحياة، ربما يكون لأطفال يلعبون، أو تلاميذ فى طريقهم إلى مدرسة قريبة، وربما يأتى طائر واحد، حُرّ، ليس واحدًا أو اثنين تحبسهما فى قفص، وليس مئات أو عشرات الطيور على شجرة قريبة، فقط طائر واحد، أليف، يَحُطُّ بخِفَّة على حافة نافذتك أو شرفتك، ربما تلتقى عيناك بعينيه للحظات، أو تراقبه دون أن ينتبه إليك، ربما تسمع صوته الجميل مرتين أو ثلاث ثم يطير مبتعدًا فتسمع رفيف أجنحته الناعمة غير المُتعجِّلة دون أن يخدش لحظتك، خِفَّتك.
هى أجمل ما تراه الطيور فى أحلامها، وما تحلم به الطائرات الورقيَّة، هى الحال التى تتمنَّى أخَفّ ريشة مُحَلِّقة أن تصل إليها.
الخِفَّة أرقّ من النور، أعلى من الطيران، أن تُحَلِّق روحك دون أىّ مجهود، هى ليست شعورًا بالانعزال، أو اللا مبالاة، أو الرفض، أنت موصول بكل شىء على طريقتك، حُرّ من كل شىء على طريقتك، أنت داخل روح العالم، ممتزج بها، وفى الوقت نفسه أنت مع روحك وحدها دون إزعاج من شىء أو أحد، دون أن تُزعج شيئاً أو أحدًا.
عندما تنظر إلى الكرة الأرضيَّة من الفضاء تندهش كيف لهذه المسكينة الخفيفة أن تحمل بداخلها كل هذه الجبال، البحار، الأنهار، الغابات، الحيوانات، الطيور، الشوارع، والبشر، هل هذه ما نُسمِّيها الدنيا، الحياة، الأرض، تُدرك عندها كم هى خفيفة، بسيطة، وجميلة، مَرِّرْ عينيك الآن على الكواكب الأخرى، ستراها أيضًا خفيفة، كأنها أرواح، الخِفَّة هى روح العالم.
أجمل الأشياء، وكل ما يعيش معنا طوال الوقت، ولا يمكن الاستغناء عنه يتَّسِم بالخِفَّة: الهواء، النور، الماء، هل كنا لنتحمَّلهم لولا الخِفَّة فى أرواحهم، حتى الرائحة عندما تثقُل فإننا لا نستطيع تحمُّلها، رائحة الورد إذا ثَقُلَت لن نقبلها، السعادة أحيانًا تكون ثقيلة بما لا يمكن احتمالها، السعادة الثقيلة تشبه الريح القوية، الأولى فيها فرح أكثر مما يلزم، والثانية بها هواء أكثر مما يلزم، وكلٌ منهما بها بلاهة وقسوة.
كل الأشياء الحقيقية، والمعانى المُهمة خفيفة الروح، وبسيطة، بما فيها الحب والصداقة، تُحَلِّق الخِفَّة عاليًا بهذه المعانى والأشياء الحقيقية كأنها طيور نادرة، وعندما ننزع منها الخِفَّة تنهبدُ إلى الأرض وتتحوَّل إلى أشياء ثقيلة الروح.
التفاهات ثقيلة الروح دائمًا.
لا شىء أثقل من إنسان يفتقدُ الخِفَّة.
ألا تُصِرّ ذلك الإصرار الغبى، الساذج، على أن “تحفر” ذكرى، أو حضوراً، الخِفَّة تترك أثرًا حقيقيًا أكثر من أىّ شىء آخر، ما يدوم هو الأثر وليس “الحَفْر”، ولا يمكن للأثر إلا أن يكون خفيفًا، نَصِفُ شخصًا ما بأن له “حضور” رائق، حلو، وأثر يبقى، ليست لزوجة، وتهافت مثير للشفقة على ألا يُنسىَ، أو إثبات “الحضور”.
كأنك لحن عابر يتذكَّره القلب من وقت لآخر، فراشة تَحُطّ على كتف العالم للحظات، شعاع نور يَمرُّ برفق أمام عينيه، ذكرى شفافة تدعو للابتسام، والسلام، إحساس بسعادة خفيفة ممزوجة بشجن لطيف، الخِفَّة لأنك لست نادم أو طامع، لأنك فى رحلة، ولا يمكن لرحلة أن تمضى بسلام وجمال إلا لو كانت الخِفَّة روحها.
مع الخِفَّة أنت لم تتلاش، ليست هى الشعور بالتلاشى، لكنه سلام شخصى كامل، كأنما لم تَقُم حرب فى أىّ مكان بالعالم، كأنما لم يؤذِ أحدٌ أحدًا، هى الشعور الذى يجعلك تبتسم تلك الابتسامة الخفيفة التى تعرفها، أو تمرّ فى عينيك سحابة الماء الخفيفة تلك التى تعرفها، أن تتنفَّس بهذا العمق الذى تعرفه، والراحة التى تعرفها، أنت لم تتلاشى، هذا جسدك، قلبك، عينيك، أنت هنا بروحك وجسدك، حاضرٌ بشكل كامل، وكذلك العالم، إنه حضور الخِفَّة، وخِفَّة الحضور.
حتى الأشياء غير الماديَّة يمكن أن تكون من أثقل ما يكون: كلمة ثقيلة، وقت ثقيل، روح ثقيلة، فقط لأنها تفتقد الخِفَّة.
الحرية بها مسئولية، أنت مسئول بأن تحافظ على حريتك، تدافع عنها، وألا تُؤذِ بها غيرك، ربما يراودك القلق أن تفقد حريتك، أو يعترضها شىء، لكنّ الخِفَّة ليس بها هذا القلق، هى أرقّ من أن يعترضها شىء.
هى روح الموسيقا، ريشة تتحرك بإرادتها الشخصية وليس بإرادة الهواء.
ليس العمق فى العلاقات الإنسانية هو ما يجعلها قوية، وحقيقية، إنما الخِفَّة، أقصد خِفَّة الروح، روح العلاقة، ماذا يعنى العمق بالأساس؟ الخِفَّة تعنى هنا أن تكون حقيقيًا، مُتفهَّمًا، وبسيطًا، فتصل بك هذه الخِفَّة وتصل أنت بها إلى حيث لا يمكن لأحد أو شىء أن يصل.
معها يتحوَّل كل شىء إلى معنى، وكل المعانى تصير معنى واحدًا، هذا المعنى ليس غامضًا ولا مفهومًا، أنت غير مشغول به وهو غير مشغول بك، فقط تتبادلان الابتسامة من وقت لآخر، أو ربما صرْتَ أنت هذا المعنى، المعنى هو أنت، وأنت لسْتَ مشغولاً بأنت، لستَ قلقًا على أنت.
من أخَفّ الأشياء وألطفها: حديث وِدِّى بين زوجة وزوجها، رجل يُمرِّر إصبعه بخطوط ودوائر على جسد زوجته العارى بعد الفراغ من ممارسة الحب، أو تُمَرِّر هى إصبعها عليه، رجل يتأمَّل وجه زوجته أثناء نومها ويبتسم، أو تتأمَّله هى وتبتسم، شخص يمشى، لا يلوى على شىء، ولا يعرف متى سيتوقف، أنْ تصادف هُدهُدًا ينقر الأرض على سبيل اللعب، فتتوقف كى لا تزعجه، تتفرَّج عليه، تتمنىّ ألا يمُرّ أحد الآن كى لا يطير، ومن أخفّ الأشياء وألطفها: بداية يوم هادئة.
هى خيط رفيع، مشدود فوق العالم، تمشى عليه بتسلية، وتلعب فوقه ألعابًا تخصُّك.
أنْ تشعر بأنك الطيران والماء والهواء والمشى والنور والإبحار والوقوف فوق أعلى قمة فى الكون، تشعر بأنك نفسك الاستلقاء على ظهرك فوق أرض خضراء حيث تنظر إلى السماء مُبتسمًا تلك الابتسامة الخفيفة دون أن تنتظر أحدًا أو شيئًا، ودون أن ينتظرك أحد أو شىء.
الخِفَّة هى أنْ تسمح لكل شىء بالمرور، فيسمح لك كل شىء.