“أنا شاعر بمقدار قبح العالم”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أولا هذه تحية لا كلمة نقدية منى . نعم حين يعجبنا شىء فليس أفضل تعبير عنه سوى الصمت . لكن المشكلة أن صمتى عن ديوان " و قصائد أخرى " للشاعر المصرى أحمد شافعى و الصادر عن دار النهضة العربية ببيروت عام 2009 لم يكن لشدة إعجابى به بل لأنى لم أكن – منذ أعطانى العمل من عامين تقريبا – قد قرأته بعد.

حين تقرأ عملا ثم تفاجأ بحجم إعجابك به أو تجد ذلك الإعجاب فاق توقعاتك كثيرا فأنت محظوظ وليس فقط صاحبه . استمتعت ( وهى كلمة كبيرة ) بشكل فاق توقعى وليس من العدل أن أتظاهر بالتحفظ فى وصف الحالة التى منحنى إياها ديوانه الذى حين تقرؤه تدرك فورا لماذا اختار / اضطر أن يصدره خارج مصر ولكن تشاركه الغضب وبعض الأسى لاستحالة نشره هنا حتى بعد ” ثورتينا ” ولأنى أشك لو أن كثير من المثقفين و دوائر الشعراء قد رأوه .

طبعا لا الفنان و لا المتلقى و لا الناقد حتى يستطيع أن يقول لذته واستمتاعه بالعمل الفنى وإن حاول . هذه مسألة بديهية ويلفت رولاند بارت إلى أنه :

” لا يمكن لأى ” أطروحة ” عن لذة النص أن تكون ممكنة . إذ كل ما يدور حول هذا الأمر لا يتعدى كونه تفتيشا ( استبطانا ) ، و هو يدوم طويلا ، فيالها من غبطة نقية ! . و مع ذلك فإنى، فى مقابل كل شىء و ضد كل شىء، لأستمتع بالنص “.

بالنرجسية المستحَقة يفوح العمل الذى يزخر بحالات و تقنيات أخرى ناضجة . ما الجديد ؟ . كل الفنانين نرجسيون . طبعا ، حتى أكثرنا تواضعا لا يكون هكذا داخل نصه أو يكون هكذا و يكون أشياء أخرى متعارضة معها بنفس الوقت . فهنا – على أرض الشعر يحق لك كشاعر ارتكاب كل الجرائم ، الكفر بكل شىء و أحد ، خيانة كل شىء و أحد حتى نفسك ، المباهاة بسقوطك ، يحق لك تمنى قتل زوجتك و طفلتيك كما تفصح الذات الشاعرة فى إحدى القصائد ، ملعب المُطلق غير الخجِل أو الممنطق ، الخارج على كل شعور و شريعة بحمى حرية ليست من هذا العالم يتوق لها الحر ، بهذيان جماليات قد يظل الشاعر يبحث عنها طوال عمره حتى لو تعاطى عقاقير الهلوسة ليستشكفها و يستخرج مكامنها من عقله الباطن ، ليحاول معرفة باطنه . فلذة النص بحسب بارت فى كتابه الأشهر بنفس العنوان هى شىء فضائحى ليس لأنها غير أخلاقية بل لأنها خيالية .

عند أحمد شافعى النرجسية تتواشج مع سادية لا تناطح دو ساد طبعا لكن تطاول أسماء كبرى صارت دوالا على الشعر بالمعنى الكبير أو الشهير و حين يكتب أنه بورخيس ( ليس كروائى بل بورخيس الشاعر ) و يساوى فى سطر واحد بين اسمه و بين الأسماء والقامات الشعرية العظمى نلمح فرحا بحجم الاجتراء لا سخرية لن يكون منبعها سوى هشاشة المقارنة . ما الذى أقصده ؟ . سأفصح ، بشعره هو .

” و لكى تكون مثل أحمد بعد صالح و شافعى و من ناحية أخرى باشو و ﭙيسوا و الجميع “.

حين ” يغامر ” شاعر بوضع اسمه فى سياق من هذا النوع مع رموز كبرى للشعر فهو يُعرّض نفسه لأحد احتمالين : أن نفتح أفواهنا من الإعجاب خاصة مع توالى القراءة أو نزمها سخرية مع توالى القراءة !.

أظن أن شافعى يشعر أنه بحجم مغامرة من هذا النوع . و النرجسية و حدها ليست ضمانا ، بل الشعرية و مغاورها وتجلياتها و أزقة تجريبها فثمة نرجسية متشاعرة منفرة عند البعض مثلا. وكما بتنا نعلم ليس كل تجريب ممتعا حتى و إن جاز وضع قوسين حول عبارة من هذا النوع من باب التحوط أو الاحتراز شبه المنطقى طالما تختلف الذائقة من قارئ لآخر و من شاعر لآخر .

أحمد شافعى واقع فى حب شعريته ، و حب اسمه أو التساؤل حول منجز ذلك الاسم و شهرته وما يستحقه . يذكر فى قصيدة و ربما أكثر بالمتن أن من أمتع الأشياء حديثه مع نفسه لا الغير. يخرج من جِلد الكلام المخروط و يجرى بأقصى سرعة من أى جاهزية أو جهوزية ، من أى مجاز مستهلَك متروك .. فهو متروك و هو لا يريد تلك الأشياء التى لا يريدها أحد ولم تتلألأ أمام عين روحه .. يشط أكثر وبشجاعة أعلى من كثيرين فى تململه من المعتاد ، فى بحثه الدءوب عن شغوفات وأشياء – كحلمنا الفنى بشكل عام – لم يقلها أحد أو لم يقلها بالطريقة هذه أو تلك ليخرج بكتابة متعددة المستويات حذفا و تبديلا ، ليست قراءته سهلة بل تحتاج قدرا من التركيز لكن الشعر ينقذه من ورطات قد تنجم عن بعض تقنياته وانجرافاته النفسية و الحُلمية ( الحلم و الرؤى وافرة فى عدد من القصائد ) ، مدركا بحساسية مضبوطة العيار متى يقول ماذا و كيف يقوله ومتى ينتشل نفسه من مناخ أو معنى أو حتى اقتراب من معنى ما إلى آخر.

من النرجسية المرهِقة له و لنا ، المنعِشة لنا و له يتحرك ليجرب دفقات و حالات مغايرة ولعلها أوقاتا نقيضة . تأملوا .

“سأعتبر أنى نجحت يوم يصبح دفتر شعرى دفتر مذكراتى ، و لكننى لا أعرف فى أى شىء حينئذٍ أكون نجحت “.

بفضل هذا الشك ، هذا الاتضاع أو التحقير للنفس نصدق عكسها ، ألوهيته .. فبعكسها تتضح الأضداد.

لو قلنا الشاعر يحب المراوحة بين الإيحاء  بالمعنى و بين تعليقه و تعتيمه قد نقترب من الابتذال . الكيفية التى يفعل بها هذا و ذاك و الانتقال وتوقيت التنقل بينهما هى كيمياء خاصة بكل شاعر وعنده فإن مسألة التوتر الناجم عن اللامتوقع الجاذب أو خلع الغربة على الأشياء .. فالشاعر يرى كل شىء فى لحظة ما غريبا Defamiliarization تحمل ما يبدو كهوس ، كأن كل قصيدة ستكون ديوانا مستقلا تتم محاسبته فنيا عليه أولا بأول.

تألمه / تأمله للوجود خاضع بدوره لتحكم عين روحه الشعرية ، ملجوم .

” قيل لنا إن الفيلم ينتهى ، و إنما كل واحد يغادر حين يشاء ، تُرى ما الذى حدث للجائع لا بد أنه أكل و يفكر و هو يحتسى الشاى فيما نراه الآن ، و المحصورُ يا رب يكون عثر على مِبولة قريبة ، و المدخنُ ، و الزوجُ المثالى ، كم كنت سأخسر لو لم أمت هنا “.

ثمة استحالة ألا تطفح السخرية أو أن تنكتب قصيدة وجودية – على ما أظن – بمنأى عنها .. ولو حدث قد يكون شَرَك الغنائية التى يخوفوننا منها تحت أقدامنا وهى كالملحمية و الميلودرامية مغوية لأقصى درجة.

وهو شاعر يختار أقاصيه و لا يثق فيها بعد هذا ( أريد وضع إيموشن مبتسم هنا ) وأظن عنوان تحيتى هذه من شعره ” أنا شاعر بمقدار قبح العالم ” به ما به من ” ملحمية ” كان واعيا بها لم تتسرب دون شعوره . هل قلتُ ” ملحمية ” ؟ .

 ربما كان يقصد أنه مدان بالشعر ( فى واقع حبس المبدعين وإيداعهم السجون على كلمة فى كتابتهم أو العالم الأوسع الممتلئ أيضا بأنواع أخرى من الألم ) وطالما الشعر جريمة هكذا العالم الأقبح مسئول عن الشعر ، و طبعا لم يفتنا لعبه باسم الفاعل بالمعنى الحرفى ” أنه يشعر ” بمقدار قبح العالم وليس فقط أن شعره بما فيه يوازى قبح العالم ( هو يريدنا أن نصدق ندية شعره فى التصدى لقبح العالم عبر علاقة عكسية ) والشعر ضرورة بحسب العبارة هكذا . لكن انظروا كيف ابتعد بذكاء عن فتنة اختيار جمل كهذه كعنوان للعمل وسنرجع لهذا لاحقا.

دعونا نعود للنرجسية حيث تبدو الذات الشاعرة شديدة التحرش بكل شىء فى وجود شديد التحرش بها و بكل شىء ، تسترده النرجسية ذات العافية الشعرية ، التأليه غير الخجِل للذات ممزوجا مع شغف تفوّهات ضد التابو الدينى ، حُلم الكسر. فطالما هو إله كيف يكون هناك إله آخر ؟

تلك النرجسية التى تجعلنى قد أفر من أى نرجسى وأتخذ شارعا غير الذى قد أقابله فيه صدفة ، أنتظرها وأنتظر طريقة معينة لاستثمارها فى الشعر . هو يبدو كمن يعرف الطريقة التى لا يدعى أنه شيخها. قبل أن نبدأ فى الاعتراض نفسيا و جماليا على حالة واحدة ينتبه ، و يولغ فى سادية إلغاء الآخر إنسانا أو إلها ، كما نشتهى كلنا فى لحظة . بالعنف المُذوِّب للأخرى نقرأ له :

” أى بنت مكتملة لم تكن ستنفع ، هكذا أول ما رأيتها قلتُ هى هذه ، جسدٌ منمنم و بلا رأس . هى هذه التى تصلح زوجة للإله ، و ذلك بعد أن وضعت رأسى فوقها و انطلقنا

أنا الإله ، أنا ، أترك العروس فى انتظار إلى الأبد ، و أبقى منهمكِا فى صلاتى ، أنا الذى لا تشبعه صلوات العالمين “.

الحالة أكثر من بورخيسية ، من مكيافيلية ، من برتولوتشية .. يتحدث عن كونه” شمس ” و نجد وصفا لجسده بوصفه إما ” منبه أو قنبلة موقوتة “.

و مرة أخرى تهرع وجوديته و حتى عدميته إلى إنقاذ النص ذاته من احتمالات اعتراضاتنا الداخلية التى تتشكل و تناوئ جيشان حالاته الأخرى التى تستبقينا فى فعل القراءة و أسر الانخطاف .. وهذا أمر يحدث حين يكون بين يديك كاتبا أو شاعرا قويا حقيقيا .. فما الذى وجدتنى أقاومه هنا ؟

حس العظمة و القسوة . ولا أستغنى عنهما فى أى شعر أحبه . أناوئ نفسى ثم أستريح و أتركها أيضا فهناك هدنات فى تواطؤ القراءة ، فى العقد غير المنطوق بين الكاتب و القارئ . الهدنات تعنى مساحة رحابة أسمح فيها لنفسى أو أتخيل أنى قد أجد سقطات جمالية وأيضا أنى سأمنح نفسى الحرية التى منحها لى الكاتب حين أفكر فى كتابة لاحقة ، فى كتابة تخصنى . هل يبدو هذا اعترافا بائسا ؟. هل ثمة مشكلة فى الاعتراف أننا دائما بحاجة لمزيد من الاعتراف ؟ . أظن حتى نرجسية أحمد شافعى  ستسمح له – لكن بينه و بين نفسه – بالاعتراف أنه كلما قرأ و كتب و ترجم فثمة ما لم يصل إليه وهو تواق ليعثر عليه إن فى الشعر أو الحياة ، وأن هناك من نقرأ لهم فنشعر بعالم ينغلق ، ومن نقرأ لهم أو نستمع إلى موسيقاهم التجريبية المجددِة فيذكروننا بحاجتنا الماسة والمُمِضّة لمزيد من النسف والإطاحة و رفع كل الأغطية .

هو يذكرنا بوجوديته ، بالسخرية التى تأتيه بها ، بعمق الحزن ، بتعب يحن إلى الموت و ما بعده ، بتوحد الألم و عبثيته  فنتذكر وجوديتنا نحن و عمق حزننا فى الحشا . يقول :

” رأيت تحت حاجبيك عينىّ تلمعان ، لماذا ؟ و بأى شىء تلمعان ؟ و رغم ثيابكِ ، رغم نهديك ، شاهدت قلبى خفيفا ، مجهَدا لا يريد الكلام .

كان يبدو عليك أننى أودع المكان ، و لكن إلى أين لم أدرِ أين و حاولت أعرف ما الأمر لكن صوتى خذلنى ، خرج فعلا من بين شفتيك ، و لكن مرتجفا ، كأنه ضوضاء مخلوق غير موجود.

غير موجود ! لعل هذا هو الحل ! غير موجود . هناك دموع تبللنى تحت حاجبيك ، لكنها غير موجودة ، و نصلٌ أصابنى فى ضلوعك لكنه غير موجود ، وهذا الخوف البادى عليكِ ليس إلا لأنك راحلة إلى مكان هذه الأشياء موجودة فيه بينما أنا غير موجود و أنتِ غير موجودة “.

حقا قصيدة جميلة.

اكتشفت أن أحمد شافعى لا يخشى استخدام كلمة مثل “منضدة ” . لا يحتال عليها كغيره باستخدام ” طاولة ” أو ” مكتبا ” أو كما يحلو للبعض ” ترابيزة “. لا يتجنبها . أظن هذه شجاعة أخرى يا أحمد !

و قبل أن نتململ من الحالة الوجودية يلعب لعبته الحاذقة و يستردنا. هل تتذكرون سادية الذات الشاعرة التى أشرت إليها عنده ؟.

” ليس بالمرء حاجة دائما أن يكون له اسم . أقول هذا و لست حبة رمل حقيرة فى الصحراء أو موجة و ما أكثر الموج فى المحيط . بل و أنا منشفة على منضدة فارغة تبدو هى الأخرى مترامية الأطراف ، و المطبخ هادئ مع أن شخصا ظل ساهرا فى ظلامه أغلب الليل، يتنفس ، ثم نفذ خطته كاملة مع أذان الفجر: ذبح زوجته ، حبيبة المراهقة و الشباب و الرجولة ، و ذبح طفلتيه اللتين كتب فيهما قصائد موزونة ، ثم تنكر فى صورة شىء لا يحتمل حتى أن يكون أداة الجريمة “.

الحس الالتهامى وافر عنده و نتملظ بمتعة من شطارة عدم احتياجه لاستخدام لفظة سباب كما نحتاج أوقاتا فى شعرنا . السباب قد يكون بديلا للقتل فى جماليات النص ذاته و قد يجتمع معه لكن نص أحمد شافعى لم أضبط فيه شتيمة حسب ما أتذكر . ثمة إزاحات و تحريك و لعب بالأفعال لتفكيك الزمن ليمنح الذات الشاعرة كل ما تحتاجه بين ماضٍ و بين عصور سحيقة من آلاف السنين.

نلمح هذا طول الوقت فى إبداع كثيرين بدرجات متفاوتة النجاح لكنه يفعله بليونة مثيرة للإعجاب . وممن أتذكر إعجابى  بقدرتهم على تفكيك الزمن القاصة المصرية غادة الحلوانى فى ” و لكن كيف ” ( كان ذلك الإصدار / الحكاية من لبنان أيضا ) و فى بعض قصائد المصرى إبراهيم بجلاتى و فى نص ” النص ” لنورا أمين حيث محاولة كتابة الجسد النص و فى عرامة ( تلك الكلمة الخراطية نسبة للكبير إدوار الخراط ) بعض الروايات الهائلة لدينا مثل ” ضريح أبى ” لطارق إمام و طبعا كما يقابلنا فى روائع ماركيز و غيره.

الأشياء كلها ، على ما يبدو ، يمكن أن تتغير لتصبح أشياء أخرى ، تتغير ما هيتها لتتقابل مسمياتها المختلفة بدون أن ترأب هذه الصدوع فى اللغة ، فى اللوجوس أية معانٍ خلفها . هكذا تستطيع مفردة “الديوان” أن تعود إلى معناها كجزء من قطار فى العامية المصرية المنتمية لزمن الأفلام القديمة ثم تعود الكلمة كديوان نثر و يمكن للجندول فى فينيسيا لو توقف و تراكمت حوله الأملاح لزمن أن يرتد إلى الخطأ الطفولى فى تصور الشاعر – صخرة تعترض مجرى النهر . الأشياء لديها هذه القابلية ( الفاسدة ؟ ) على التحول أو على الظهور بمظهر غير حقيقتها ، وهذا من دواعى الشعر لا شك لكن ليس الشعر الذى يقف على الحافة متحسرا بل الذى يدارى حسرته حتى تصلنا نقاط قليلة شحيحة منها من نصوصه. و فى نفس الوقت هو قلق من أن ” نفهم ” و هو قلق شعرى أصيل سنعود إليه وبذات الوقت يريد أن يسرب إلينا مساحة للفهم و أكيد للتأويل لكن رغبته فى نفى ما قد يكون قد أوضحه أو أوصله تجعله يعترض على المنطق الذى يشبه مسألة فى مادة الجبر ( طالما س تساوى ص و ع تساوى ص إذن س تساوى ع ). يقول بسخرية خفيفة:

” و ما تقوله ” أنغام ” يؤكد أننا فى خطر ما دام العالم فى خطر و ما دمنا من العالم بينما لا شىء يؤدى إلى شىء ، كقاعدة عامة “. الأشياء ليست سببية إذن ، لا منطق و حين ينهار المنطق ماذا يتبقى للوجود العارى سوى تلك القسوة المطلقة التى تجعل أبطال دستويفسكى و كامو حين يقتلون ، يقفون على ذهولهم كيف لا نرى العالم مثلهم ! ، القسوة التى تبنى أخلاقياتها البديلة ، القتل ، الاغتصاب ، الجنون ، السرقة . كل هذه أشياء استعاض عنها الشاعر بكتابة ما يبدو أنه ” استئناف ما ” . استئناف للعنف عبر ابتكار طرق أخرى و قصائد أخرى .

 أذكركم بعنوان الديوان ” و قصائد أخرى “.

 سيبدو منطفئا وغير شاعرى ( وهو يريد ذلك تحديدا ) و ربما يحمل ” معنى ” المغامرة التى لا تتعرف عليها إلا حين تمسك بالديوان و تبدأ القراءة و تستعد لجولاتك معه و معها لكن العنوان غير الجذاب أو الاعتيادى أيضا يتحدى توقعاتك وافتراضاتك بشجاعة ما قبل فتح الكتاب . أتذكر كيف أجهد الشاعر الراحل حلمى سالم نفسه للعثور على عنوان لديوانه الذى عن تجربته مع الشيخ يوسف البدرى . كان الأخير قد أهدر دمه بكل سهولة أيام حكم مبارك على قصيدة كان الشاعر الكبير نشرها فى مجلة ” إبداع ” أثارت ما أثارت من ارتعاب و اهتزاز ركب المتطرفين دينيا حتى قام أحدهم بتدبيج هجائية طويلة مملة شديدة الكراهية و العنف ضد الشاعر وقام بقراءتها عليه غصبا فى ندوة تضامنية مع حق الشاعر فى الحياة لا الحرية فقط أقامتها لجنة الحريات بنقابة الصحفيين و انصرف منها رئيس لجنة الحريات الزميل محمد عبد القدوس فور تقديمه لى كمديرة لها وقتها . ويومها جاء أمن النقابة من الدور الأرضى على صوت الهجّاء المتوعد الصارخ دون تدخل أو دخول القاعة . قصيدة حلمى اعتذر له الشتام بعدها بشهور فى ميدان طلعت حرب على حلمه و على حسن رده عليه ، بينما القصيدة التى أُهدِر دم حلمى بسببها و على ما تسعفنى الذاكرة كانت بعنوان ” شرفة ليلى مراد ” كانت فى تقديرى قصيدة فيها حب للذات الإلهية ، و هو نفسه كان يراها هكذا.

اختار حلمى لديوانه الذى رد به على مهدِر دمه عنوانا عاديا عادية الجنون الذى نصحو و ننام عليه حتى ألفناه . أسمى الديوان ” الشاعر و الشيخ ” .

تذكرت هذا لدى لمحى لعنوان ” و قصائد أخرى ” .

مرة أخرى يغامر أحمد شافعى فى العنوان – ربما أكثر من مغامرة حلمى سالم فى عنوان ” الشاعر و الشيخ ” – بعنوان قد يردك عن شرائه أو قراءته فى تقديرى . هذا الجنوح المجازِف الذى انتصر فيه لعنوان لا يطرأ على بال غيره ربما .. هو معنى الشاعر حريص عليه ، يؤهلنا له و يشركنا فى التعرف على جمالياته .

هناك جزء من قصيدة أشبه بقصيدة فى حد ذاته سمح فيه الشاعر لصوت الحزن أن يتضح ، قرب نهاية العمل ، زفرات على الطفل الذى كانه لكنه يقظ لعدم تجاوز الجرعة كما أسلفنا .

و مرة أخرى يفيدنا بارت أن  “النص هو ( و هكذا يجب أن يكون ) ذلك الشخص المرح الذى يكشف عن دبره للأب السياسى ” ) وها هو أحمد شافعى يكشف عن دبره للأب مبارك دون تسمية عدا ” الرئيس “فى قصيدة ساخرة قبل ثورة يناير بعنوان ” السقوط ” ثم نجد ما يقدمه كقصيدة عن إحساسه بالزمن عبر صورته فى المرآة ثم قصيدة الختام و فيها يقدم ما تعمد تأخيره و تعد بمثابة مانيفستو جمالى له : احرص ألا يهمك المعنى وعنوانها بوضوح ” عزيزى أحمد شافعى ” .

هو يهمه عدم المقارنة مع السرياليين ، وعدم المقارنة مع السبعينيين ، أو مع شعراء التسعينات ، مع أى أحد . وهذا طموحنا جميعا كشعراء .

استمتعت بنتيجة الصرامة القصوى للشاعر فى الابتعاد عن التشابه ما أمكنه ،رغم الألم العميق الذى يكتم صيحاته كى لا يقع فيما يستسخفه فنيا و ربما إنسانيا . وكل هذا من أجل لحظة طزاجة عميقة ، يكتبها عطش و سأم و قرف بلغة خارجة عما وصفه شافعى بـ ” سيرك منصوب للأبد “.

يقول بارت:

” لم تعد أمام المرء سوى طريقة واحدة لكى ينجو من استلاب المجتمع الحاضر: إنها الهروب إلى الأمام . فكل لسان قديم معرض للخطر، و كل لسان ما إن يتكرر حتى يصبح قديما . وإذا كان هذا هكذا فإن اللسان المحبر ( أى اللسان الذى ينتج نفسه و ينتشر تحت حماية السلطة ) إنما هو لسان مكرر دستوريا. و على هذا ، فإن كل مؤسسات اللسان الرسمية، إنما هى آلات لتكرار القول مرارا: فالمدرسة ، و الرياضة ، و الدعاية ، و الكتب الجماهيرية، و الأغنية و الأخبار ، تعيد غالبا قول البنية نفسها، و المعنى نفسه .كما تعيد غالبا قول الكلمات ذاتها: ذلك لأن القالب القولى المكرر إنما هو صنيعة سياسية ، و هو الصورة العظمى للإيديولوجيا، و يكون الجديد فى مقابل هذا هو المتعة ( يقول فرويد : ” إن الجديد ليشكل عند البالغ دائما شرط المتعة ” ).

أحمد شافعى يحاول و ينجح فى الديوان فى تفادى الخيال المكرر و اللسان المكرر والقالب القولى الذى هو صنيعة سياسية ، نتاج هيمنة مؤسسية خانقة .

بالأخير أسجل إعجابى مرتين بشجاعته : شجاعة التجريب الفنى شكلا (حتى هناك قصيدة يورد بها لوجو واسم جريدة الأهرام المصرية بدلا من كتابة اسمها) ومضمونا وشجاعة عدم القلق من طغيان و تشويش صورة المترجم أحمد شافعى على صورة الشاعر أحمد شافعى رغم التناص مع أسماء روائيين مصريين و مع شعراء أجانب بعينهم قام الشاعر بترجمة أعمالهم فى كتب.

 

 

مقالات من نفس القسم