مقعد إيزابيلا
أمل إدريس هارون
في هذه المدينة تتواتر حكايا كثيرة من كل مكان ، يتعرى الإنسان مطمئناً كونه غريباً في بلاد واسعة ، يبصق حكايته على الأفق الفارغ ،تحدث معجزات صغيرة من البوح بين أغراب ،تتجول حكايات كثيرة في المدينة بلا نهايات حاسمة ، وتأتي أخرى لتطاردنا من لا مكان .
أرادت في سيرها الطويل الهادئ أن تنظم الوجع الجديد ،تلك هي العادة هنا ، عند كل خسارة يجب المشي طويلاً والتعايش مع الأمر، إذن لا مفر من مواجهة الحقيقة ، لا يحبها ولم يكن ليحبها على كل حال، كنت أعرف ذلك ، لكن الوهم مهم للاستيقاظ كل يوم في مدن الوحدة والصمت ، الوهم مهم لدفع العالم ، الوهم مهم للخوض في الخوف والاستعلاء على الخسارات ، قلت لها دعينا نذهب إلى إيزابيلا لنلقي عليها التحية ونجلس على المقعد ، كنا نسميه مقعد المحبة ، إيزابيلا عاشت منذ قرن أو يزيد ودُفنت هنا مثل ربة بيت حنونة ومحبة في بيت بلا أزمات ، وبلا خلافات ، أقام لها زوجها مقعداً من الرخام على هيئة قلب فوق قبرها تماما،ربما كنوع من الصدقة أو عرض الراحة على المارين ليتوقفوا عن أحزانهم لبعض الوقت قبل ان يستأنفوا الحياة، كتب على حافته بشكل واضح" لذكرى إيزابيلا ، زوجتي المحبة المخلصة ، شكراً لك ولحبك الفائض على كل من عرفوكِ". كان ذلك ملفتاً ، في أول مرة أتمشى مع جوان في مقابر "كوت دي نيج" ، كان الاتساع مذهلاً ، وشعور الراحة والسلام عارماً ، المقابر كانت ملجأً مميزاً للاسترخاء؛ هناك من يتريض وهناك من يضع الزهور وهناك من يسير في شمس الخريف اللطيفة وهناك من يحصل على طاقة إيزابيلا ، ما أن توقفنا أمام قبرها وقرأنا الكلمة الطيبة عنها حتى شعرنا بطاقة جميلة وحانية تحوط بنا ، شعرنا بطاقتها المحبة للبشر ، وعلى الفور أحببتها ، الشجرة حول قبرها كانت الوحيدة التي ما تزال خضراء بعدما تساقط الورق كله من على الأشجار، جلست جوان على المقعد وأخبرتني أنها تأتي هنا وتجلس لتتحدث مع إيزابيلا، حتى وإن فصلهما قرن من الزمان أو يزيد ، إلا إنها مقتنعة أنها تعرفها وأن إيزابيلا تشعر بها، ماذا يتبقى من الإنسان بعد الموت؟ فكرة ؟ ذكرى ؟ شاهد قبر ؟ عظام وتراب ؟ وما الإنسان؟ ربما هو كائن قادر على الحكايات.
نمر على شواهد القبور المميزة للقرن الماضي بشعارات الماسونية المعروفة التي كانت رائجة ومعتادة، نتفق أنه من الجيد لو أصبحنا في حياتنا القادمة شجرة مثلاً أو حياة أخرى لا نضطر فيها للحب والخسارة، يساعدنا ذلك الحلم على تقبل أننا لن نصبح عدماً تماماً ، كل هذه التراكمات من التجربة والوجع والحب والخسارة والذكريات لن تصبح عدماً تماماً ، كل هذه الحكايا لن تصبح عدماً تماماً ، نمر على قبور أخرى لها شكل موحد ، مربعات صغيرة خلف بعضها في نظام صارم ، جنود الحرب العالمية الثانية ، كلهم شباب صغار ، يسبق أسمهم : الجندي فلان الفلاني مات أثناء تأدية الواجب لبلاده ، شباب صغار مهما مر التاريخ ، ومهما شاخت عظامهم في برد هذه البلاد.
"أريد أن أشيخ في بلد دافيء ، لا أريد الموت هنا ، كندا بلد قاس للعجائز" ، تضحك صديقتي وتخبرني بخططها للشيخوخة ، فرنسا ربما أو ايطاليا ، حيث لا أنتظر مرور شهور الشتاء في ثلاجة للموتى حتى يدفنوني ، تقول لي أنه في الطاحونة التي زرناها الصيف الماضي والتي أصبحت أثراً ، كانت تتكدس جثث الراهبات اللاتي متن خلال الشتاء حتى مطلع الربيع حيث يمكن حفر الأرض واجراء الدفن أخيراً. تذكرت قصة عجيبة من السنغال ، المجتمع التقليدي مقسم إلى مثلث وانعكاسه في المرآة في قاعدته الفلاحون في قمته الفوقية الحكام وعلية القوم في رأسه السفلي "الجريو" ، وهم المغنون التقليديون الذين تكتحل بهم ليالي القبيلة الطويلة بالغناء والحكمة ، لكنهم لا يزرعون ولا يحصدون ، وعند الموت لا يُسمح لهم بالدفن في الأرض التي لم يزرعوها ، فيضعوهم في قلب شجرة "الباوباو" الضخمة حتى الفناء ، ما أقسى تلك الأنظمة التي تفرز منطقاً عجيباً ، لم تخبرهم الأرض أنها ترفض أجساد الموتي ، كما لم تخبرهم أنه في منغوليا الزراعة محرمة، لأن الزراعة هو جرح مستمر لوجه الأرض ، لم تتكلم الأرض في أي من الحالتين ، لكن ماذا تفعل تلك البلاد أو تلك هنا في مقابر "كوت دي نيج" الهادئة ؟
تأتي فجأة حكايات أخرى ، تقفز لأن الفضاء واسع ويسمح بتقافزها أو ربما هي حكاية جوان عن القبلة الناعمة على خدها والضمة البسيطة التي منحها لها قبل أن يغادر الجميع ، كان ذلك مثل شعور حريري قالت لتصف حالتها وكانت بداية التوهم أنه يحبها ، حكايات تأتي من لا مكان ، مثل تعافِ طويل أو تفريغ للروح أو استدعاء قهري أو كل ذلك معاً، تأتي تلك المرأة التي تغسل أردية كثيرة في النيل فجأة هنا ، وأنا طفلة واقفة أستمع لحكاياها مع النساء ،كنت أخرج لأي سبب عصراً حيث تأتي النساء لغسيل الأواني أو على وجه الدقة التحدث في كل الشئون وافراع ما في أيامهن من هموم ، تقسم تلك المرأة الشحماء أنها لم تركعها أبداً ، تكرر القول قبل أن تحكي أنها كانت وحدها مع رضيعها الناعس على حافة النيل بينما تغسل أغراضها، جاء رجل غريب من لا مكان كان يرى بصعوبة عجوز وكاد يقع في البحر (هذا نقول على النيل في البلد) "قلت له :حاسب يا عم الحاج" وخرجت لأمسك بيده كعادة الناس الطيبين مع المكفوفين ، قال لها : "كتر خيرك يا بنتي" وحكي لها على ضعف النظر وتدهور الحال، "سمعت له وأخبرني أن علاجه في قطرات من حليب أم مرضعة تداوي بصره الضعيف، قلت أعمل خير وأنا والله عمري ما ركعتها ، قلت له تعالى يا عم الحاج ، وأجلست رأسه على حجري وبدأت في تقطير اللبن في عينه وفجأة وجدته يتلمسني بأصابعه فنهضت بسرعة ألملم حالي" ، ابتسمت لحكاية تترجم بدقة خشونة الريف وسذاجته وخبثه الناعم حيث لا شيء بالعنف بالضرورة، لكنها حكاية أخافتني وقتها .
تواصل جوان الحكايا عن الوجع وعدم فهمها للتردد ولماذا لا يتحمل الرجال هنا مسئولية ما يمررونه من علامات الاهتمام ، أخبرها عن دهشتي من تردد الرجال ، ماذا ينقصكم لتعيشوا كل الأيام في حب ؟ عندكم كل الحرية ! كان هناك قبر صغير ، في القبر الصغير ينام طفل منذ قرن بالتمام ، تأتي حكاية إنعام ، حجرتها الصغيرة في بيت العيلة ، الحماة القاسية ، الأبناء الذين يموتون بلا سبب ، وكيف انها تزور قبر أخرهم كل جمعة ،لا أحد يستطيع منعها من زيارة قبره، تكنس حوله ، تحدثه ، ويأخذها الخيال لتخبرني أنها تعدل من وضعية نومه الأبدية، كنت أصدقها وتأخذني الحكايات قبل أن أدرك تأخري على العودة للبيت ،
نتحدث بينما نخرج من المقابر ، وبلا سبب محدد عن أحدهم ، يأتي للعمل معنا، نتبادل التحية في الصباح ونتشارك ساعات الغذاء المقدسة في الثانية عشرة وحتى الواحدة ، ونكات تخفف وطأة قضاء ساعات طويلة مع أغراب في مكان واحد ، على أحدهم خلق المسافة وتخفيف عبء العبودية الاختيارية ، وهو بالضبط بارع في ذلك ، أخبرها أنه لطيف ومن الممكن أن يكون مهتماً بها لأنه فعل كيت وكيت ، كنت أعرف أنه مهتم بها ،كان ذلك واضحاً وإن لم يبذل الجهد الكافي لإبداء الاهتمام ، ترى أنه غريب الأطوار ، لكن لا أحد يعرف أن أخاه مات منتحراً ولا جوان ، بالصدفة البحتة عرفت وأنا ابحث في أرشيف جريدة ما ولم أخبر أحداً ، لا أحد يعرف سبباً لوجومه وقفزات مزاجه الحاد ما بين التبسط والتجاهل ،أحياناً أتخيله وهو يتلقى الخبر وأدرك هول ما عاش ، ويبدو لي مدهشاً تماماً أن أفهم بشكل دقيق ما مر به غريب عني لا نتبادل بالضرورة حديثاً جدياً في أي أمر أو نتشارك اهتماماً، مأساة الغريب واضحة وطازجة وتتجول أمامي وأنا على الحياد منها ، ذلك ما يطلق عليه الفردية ، أقول في أي قبر هنا يرقد أخوه، وهل كان عليه الانتظار طوال الشتاء حتى تحتضنه أخيراً الأرض، الأرض التي قفز إليها من أعلى بناء في وسط المدينة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة مصرية ـ مقيمة بكندا