الدخان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

أسماء يس

يهمها كثيرًا أن تشعر بالراحة، تقريبًا لا يهمها شيء آخر.. بعصبية، عدَّلت وضع الوسادة خلف ظهرها، لتصبح جلستها أكثر راحة، واستمرت في الثرثرة.. قالت إن عليه أن ينضج، وأن يتكلم أكثر، وعليه التفكير في شئون أطفاله المنتظرين بشكل أكثر جديَّة، ولما كان يعلم أنه لن يكون له أطفال في يوم من الأيام، ابتلع لعابه وهزَّ رأسه مرارًا؛ كأنه موافق على ما تقول.

 

كان يجلس موليًا إياها ظهره، رأسه منحنٍ بين يديه، ويشعر بطنين خفيف في صدغيه، ودون أن يلتفت، أزاح مطفأة السجائر ناحيتها، بعدما تسلَّلت إلى أنفه رائحة الدخان، تمنى لو أشرع النافذة عند دخوله؛ منذ صغره يعاني من حساسية الصدر، ويكره الدخان والنسوة الباردات، تمنى أكثر لو تخلَّف عن الموعد، ما أكثر الحجج التي كان بإمكانه صوغها، فقط لو امتلك الجرأة!

كان متململاً، وكانت مسترخية، تنظر إليه بعينين لا تريانه، بينما هو لا يجرؤ أن ينظر إليها بتركيز كما يتمنى، كما يراها في خياله وهو بعيد، يقتل الوقت بكتابة خطابات ليس منتظرًا أن يرسلها إليها، ويقتله الخوف من مجرد التفكير أنها قد تقرؤها حتى بعد موته..

وفي غرفته، التي تغطي جدرانها صور ممثلات عاريات في أوضاع مُهيجة، وزعماء سياسيين سيجارهم الضخم كقضيب مشتعل دائمًا بين أفواههم يشدها من شعرها، ويضاجعها، وهي تتوسل إليه أن يستمر، فيستمر طبعا، عنيفًا مقلدًا وضعًا جديدًا تعلمه من فيلم بورنو روماني طويل دون ترجمة.

كان الاثنان يفكران في الشيء نفسه، ويسألان، بلا صوت، ماذا يفعلان معًا الآن؟ هي ستصمت، وتستمتع بصمتها الذي سيطول هذه المرة، إذ لا تكترث حقًا، ويظل هو منتظرًا، قلقًا من أن يتفوه بشيء ربما يثير غضبتها عليه.

فكر أن يحكي لها عن نيته في السفر إلى البلدة القديمة في الدلتا، والإقامة هناك بشكل نهائي؛ رئتاه لم تعد تتحملان الهواء الملوث واللهث أكثر من ذلك، لقد توقَّف حتى عن السباحة، كي لا يموت هنا مجهولاً غريبًا بإسفكسيا الغرق، لكنه، عوضًا عن ذلك، قال: “عزيزتي، أنتِ تعلمين.. فلتعتبريني كلبك المخلص”، لكنها كانت تكره الكلاب بشدَّة، واعتبرت الأمر تعديًا على ذوقها الشخصي، فاستمرت في إشعال سجائرها، ونشر دخانها في هواء الغرفة المغلقة. وبينما يكاد يختنق، أخبرها، بهمس غير مقصود لذاته، أن أمه كانت جميلة كالبدر في تمامه، وكانت تحفظ أغنيات التراث والموشحات وتغنيها بصوت عذب، وأنها، رحمها الله “كانت قديسة”، إذًا فاللعنة على الأمهات، والأبناء الذين يضيعون حياتهم باحثين عن مفقود لا أمل في إيجاده، اللعنة على الآلهة والصلوات، ومواسم الحج ورحلات الرهبان في الجبال، اللعنة على كل شيء يقف المرء أمامه ساكتًا في إجلال عدا نفسه.. لذلك لم تردّ؛ أطفأت سيجارتها بعنف، ضغطت الفلتر البرتقالي حتى ظنها خرقت كريستال المطفأة الشفاف، ولم ترد، ليس فقط لأنها لا تكترت، ألبتة، لشأن أمه الراحلة منذ عقود حتى لو كانت تمتلك صوتًا شجيًّا، شيء جميل أن يملك أحدهم صوتًا شجيًا، لكن القداسة، بالنسبة إليها، كانت تمامًا كالكلاب، أشياء لم تسترعِ اهتمامها قط.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصة وشاعرة مصرية،

 والقصة من مجموعة “البُعد الرابع” ـ تصدر قريبًا عن الهيئة العامة للكتاب 

 

 

مقالات من نفس القسم