قصة ورد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كارولين كامل

 

)يا ورد مين يشتريك وللحبيب يهديك. يهدي إليك الأمل الهوى والقُبل. يا ورد) تنهَّدت هبة بصوت عال، وهي تدندن كلمات أغنية محمد عبدالوهاب، واقفة في المطبخ، الذي يتوسط شقتها البسيطة، وفي يدها السكين تواصل تقطيع ثمرة «كانتلوب» التي تعشقها طفلتها الصغيرة «ورد»، وهي لا تتوقف عن الغناء. «ورد»، لم تبلغ بعد عامها الرابع، إلا أن هبة أصرت منذ اليوم الأول على أن تتعامل معها كصديقة، لا كطفلة، وربما كان هذا القرار يسبق مرحلة ولادتها بمدة، اعتادت أن تتجاذب أطراف الحديث معها، وهي لا تزال جنيناً في بطنها وأن تشركها في أحلامها وطموحاتها، بل إنها أيضاً لم تخفِ عليها حتى أدق احتياجاتها. تقاسما الاستماع إلى الموسيقي الصوفية، التي تعشقها هبة، «بس أنا هنبسط أكتر لما تكبر ويكون لها ذوقها الخاص في كل حاجة. لغاية الوقت ده هتسمع اللي أنا باسمعه».

 

تضحك هبة ضحكتها المميزة وهي تخبر زملاءها في العمل انها أم ديموقراطية. زملاء العمل الذين تحولوا مع الوقت إلى أصدقاء الأسرة المكونة من أم وابنتها، لم يكن لورد خال واحد بل عدد من الأخوال، وعدد من الأمهات الصغيرات، يعملون على إسعادها وإرضائها، فهي فتحت جفونها الصغيرة لتجد عشرات الوجوه تمط الشفاه لتقبلها وتبحلق فيها بنهم، فتحت أحضانها لعشرات الأيدي المبتهجة، ولم تستدل على أمها من بين كل هؤلاء، سوى بدقات قلبها، التي كانت تستكين إليها دائماً في آخر المطاف. عادت هبة تدندن: «يا ورد هوّن عليك عاد بلبلك ولهان. يسأل عليك الرب والزهر والأنهار. يهتف أين التي وهبتها مهجتي. يا ورد ليه الخجل. فيك يحلو الغزل يا ورد».

تغني أمام البوتاغاز، في المطبخ الذي قررت قبل أن تتزوج ألا ينفصل عن الشقة، وأن يكون جزءاً منها، فهي تعشق الطهي، وتسعد بتجربة كل ما هو جديد من وصفات الطعام عليه، تستقبل الجميع بترحاب ومودة، حتى إن كانت لا تملك ما يكفي لتسديد باقي الديون المتراكمة عليها.

لم تنس كلمات والدتها قط، التي قالتها لها عندما أخبرتها أنها حصلت علي الطلاق وقررت أن تعيش بمفردها: «مينفعش ست تعيش وحدها. وكمان معاها بنت صغيرة. الناس هتقول إيه؟». لم تنس أنها انفعلت صارخة وقتها: «أنا بقيت Single Mom». تخرج ورد من حجرتها نصف مستيقظة، شعرها الأسود المجعد يُشكل هالة فوق رأسها، وتفرك إحدى عينيها، بينما تسير حافية القدمين:

«كنتالوب ماما… كنتالوب».

تنادي بصوت واهن على أمها التي لم تلتفت الى وجودها، وهي تدندن مع عبدالوهاب. وما أن سمعت ورد الصغيرة عبدالوهاب ينادي عليها، حتى قفزت وقالت «بابا. بابا»، انتبهت هبة لوجودها والتفتت إليها لتجدها تقفز في سعادة. ضحكت وحملتها وانهالت عليها بالقبلات، «ايوا يا ورد. عبدالوهاب بابا».

أجلستها هبة على مقعدها المفضل أمام المنضدة العالية المغطاة بالرخام، وأحضرت لها «الكنتالوب» الذي حيرها كثيراً أمر عشق ابنتها الصغيرة له والذي يثير عادة عجب الآخرين أيضاً، «انهاردة انا بِعت لوحة يا ورد. شكلها هتظبط بقى»، حرّكت ورد رأسها في عفوية وسعادة لتناول فاكهتها المفضلة مُثلجة، وارتسمت على وجهها الابتسامة التي تظهر عادة، عندما تحدثها أمها في شكل جاد. ابتسامتها تلك، وصفتها «هبة» عندما حاولوا تهوين انفصالها عن زوجها، قائلة لهم: «دي الابتسامة اللي مستعدة عشانها كنت أتجوز واتطلق 10 مرات. دي الابتسامة اللي تمسح الندم».

على رغم أنها ترعى ابنتها بمفردها، مادياً ومعنوياً، إلا أنها استطاعت أخيراً أن تنتهي من معارض فنية عدة، وأن تنجز لوحات جديدة، الأمر الذي لم تحققه حين كانت متزوّجة. انتهت ورد من تناول «الكنتالوب» والعبث بما تبقى بيديها، الأمر الذي اعتادت هبة نهيها عنه بسبب انتشار النمل في الشقة، وكلما نهرتها بصوت عالٍ ابتسمت الطفلة تلك الابتسامة التي تمحو الندم، ولا يكون أمام الأم سوى الاستسلام، وحملها إلى الحمام. تمايلت هبة وهي تحمل ورد، على أنغام أغنية «يا ورد مين يشتريك»، وحاولت الطفلة مجاراتها بأصوات نصف مشروخة مقلدة نبرة الأم، تضحك هبة بصوت عال فتزيد نشوة الطفلة بشعورها بقدرتها علي إسعاد أمها، وفيما تحضر هبة أدواتها للاستحمام تنظر لها طفلتها وتحضر أشياء مشابهة، وتصر على حمل الملابس بنفسها إلى الحمام.

تنسابُ قطرات الماء على جسد الفتاة الصغيرة، بينما تدندن هبة: «الورد جميل. جميل الورد. يا فل يا روح. يا روح الروح»، ضحكت ورد بصوت عال، وصفقت بيديها في الماء وقالت «بابا. بابا»، قهقهت هبة «لأ دي ماما أم كلثوم»، وحين خرجت الأم من الحمَّام تاركة الطفلة تلهو قليلاً في الماء، كانت الصغيرة لا تزال تقلد أمها، بأصوات طفولية رائعة، ونصف مَشروخة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 قاصّة مصرية 

مقالات من نفس القسم