وبرغم ذلك فإن التيار الأساسي الذي استمر حتى الآن في القصيدة هو تيار اليومي والهامشي والعابر ، وهناك بعض التجارب ظلت متأرجحة بين كتابتين : كتابة تنشد رصد تفاصيل الحياة اليومية عبر لغة تقريرية ورؤية أقرب إلى وجهة النظر ، وكتابة أخرى يمتلك صاحبها رؤيا كلية تجاه العالم ، ومن هذه التجارب التي تجمع بين جماليات الكتابتين ديوان ” تسقط من شرفة دهشتها ” للشاعرة أماني خليل، الصادر عن دار العين 2016 ، والذي سنحاول الاشتباك مع أهم الملامح الجمالية التي صنعت شعريته.
ينتمي الديوان جماليا إلى شعرية التسعينيات بكل قناعاتها في الاشتباك مع اليومي والعابر، وطموحها في القفز على جماليات البلاغة المتوارثة في محاولة للتأسيس لبلاغة جديدة تسقط فيها الشعرية عن مفردات اللغة في حد ذاتها بينما يخرج الشعر من مجاز كلي ، بحيث يظهر النص برمته كما لو كان كناية كبيرة . الحقيقة أن عبارة ” انتماء الديوان إلى شعرية التسعينيات ” لم تأت عبثا وإنما جاءت مقصودة في محاولة للفت انتباه القاريء إلى أن “قصيدة النثر الراهنة ” التي تناولها ” كمال أبوديب ” لم تعد هي ذاتها القصيدة الراهنة الآن ، فرغم التقارب الشديد بين القصيدتين إلا أن قصيدة التسعينيات التي تناولها “أو ديب ” ظلت مخلصة – ولو بقدر ضئيل – للخيال الشعري الناتج عن توسيع الواقع ، بالإضافة إلى بعض الرواسب الميتافيزيقية التي تعلقت بأذيال القصيدة ، أما القصيدة الآن أصبحت أشد إخلاصا لسكب الواقع أمام القاريء كما هو دون زيادة أو نقصان ، من خلال لغة تقريرية ومشاهد حية .
يعبر عنوان الديوان ” تسقط من شرفة دهشتها ” عن تلك الشعرية التي تقترحها قصائده ، ” الدهشة” مفردة ارتبطت كثيرا بجيل التسعينيات في القصيدة ، حيث التعبير عن واقع إنسان فرد منبوذ من مجتمع لا يعبأ بعذاباته الصغيرة ولا يحفل بأوهامه وهمومه ووحدته وفوضويته وفردانيته ، وهروبه الدائم من كل أشكال السلطة والتسلط المجتمعي ، الدهشة هنا هي دهشة ذلك الكائن من عالم سريع ، متغير ، بعيد كل البعد عن معاني الإنسانية وقيمها ، شاعرتنا هي تلك الأنثى التي تحمل على كاهلها كل أوجاع الجنس البشري ، لتكون دهشتها هي سلاحها الوحيد في هذا العالم ، الشرفة التي تهوي منها إلى الواقع بكل خيباته وهزائمه .
في الديوان نزوع واضح إلى عالم مثالي أو مدينة فاضلة تمنت الشاعرة أن تعيش فيها ، رغبة دفينة في التخلص من كل العوالق التي تربطها بعالم لم تجن من ورائه غير الخسارة والحسرة والتعب ، لقد بدأت الشاعرة ديوانها بهذه الكلمات :
لو أن هذا العالم قبلة
لو أن الشارع حلبة رقص
لو أني سيجارة في يدك
لو كنا قطرتين في غيمة
وكأنها إذ تضع أهم ملامح عالمها المنشود ، تنادي بأمرين تراهما في غاية الأهمية ، وهما : الحرية و الحب ، فقمة المتعة أن يتحول هذا العالم بكل صخبه وقسوته إلى قبلة بين عاشقين ، وقمة الحرية أن يتحول الشارع إلى حلبة رقص ، وتؤكد الشاعرة على امتعاضها من عالم لا يحفل بمشاعرها كأنثى ، فتتمنى لو تصبح سيجارة في يد حبيبها ، أو تصبح هي وذلك الحبيب قطرتين في غيمة ، فأي اتصال وتواصل أقرب من السيجارة في يد الرجل ، وأي تماثل وذوبان أشد من قطرتين في غيمة ، وهكذا تعلن الشاعرة تمردها على الواقع الذي تعيشه ورغبتها في عالم جديد ، تحدد ملامحه بشكل أدق في نهاية الديوان من خلال قصيدة ” مدينة ” التي وضعت فيها أهم ملامح مدينتها الفاضلة التي تمنت أن تعيش فيها ، فقالت :
في عالمنا الجديد
لا زنازين ضيقة
…………..
لا ساسة يلمعون خلف الكاميرا
لا شرطي مرور
ولا رجال كهنوت
……………..
في عالمنا الجديد
حيث لا أحد سوانا
ستصدح المآذن حي على الحب
سنقفز كفراشات
من جزيرة إلى أخرى
ونمتليء بالبحر
وسينساب الملح بين أرجلنا ” ( الديوان ص 107 )
وهكذا تصف الشاعرة عالمها الجديد المثالي ، خاليا من الساسة ، ومن ورجال الشرطة ، ومن رجال الدين .. الخ ، هوعالم مصنوع وفق مزاجها الخاص ورؤيتها الذاتية ، اللغة هنا تحاول أن تتمثل الحيادية ولكنها كثيرا ما تسقط في براثن الماضي وما تستدعيه الكلمات من تاريخ ربما ليس له علاقة قوية بحاضر النص . عندما تقول الشاعرة ” لا زنازين .. لا شرطي مرور .. لا ساسة .. لا رجال كهنوت ” فإنها تضع أيدينا بمنتهى السهولة على الأشياء التي تعكر صفو حياتها ، تلقيها أمامنا بلا مواربة ودون أية محاولة للافتعال ، لكنها عندما تقول ” نمتليء بالبحر ” تجعل ذهن القاريء في حالة من الذهول والترقب لإدراك علاقة خفية بين الإنسان والبحر ، لا يحضر البحر هنا بصفتة المادية البحتة وإنما يتم استدعاؤه من خلال ميراث شعري سابق كان البحر فيه بمثابة صديق قريب جدا من الإنسان ، يشكو إليه كافة همومه ومخاوفه، أو كما قال خليل مطران في قصيدة ” المساء ” : شاك إلى البحر اضطراب خواطري فيجيبني برياحه الهوجاء ”
تميل الشاعرة دائما – كما أوضحنا – إلى توسيع عالمها الواقعي ، هي لا تكتب عذابات شخص يعاني الوحدة والاكتئاب والقلق داخل غرفة مغلقة عليه كما هو الشائع في قصيدة النثر، وكما كتبت هي أيضا في قصيدة ” غرفتي الواسعة ” ، ولكنها تحاول أن تضيف للواقع ما يمكن اعتباره امتدادا تاريخيا ، له علاقة بالأشياء المحيطة بها ، انظر إليها وهي تقول :
الحمل منك
هو محاولة لتحبسك في رحمها
لكن هي البحر
وأنت الحوت
والشاطيء يلفظك مرارا ( الديوان ، ص 70 )
إن قول الشاعرة ” الحمل منك هو محاولة لتحبسك في رحمها ” يعبر عن مشاعر أنثى حقيقية عندما تحمل من رجل فكأنها بذلك تقتطع من جسده طفلا ، وتحتفظ به في رحمها ، أما قولها ” لكن هي البحر وأنت الحوت والشاطيء يلفظك مرارا ” هذا هو الامتداد الذي تحاول دائما إضافته للعالم الواقعي، هنا تحيلنا الشاعرة إلى علاقة ذهنية بين الحوت والبحر والشاطيء الذي يلفظ الحوت دائما ، هنا يتسلح القاريء بالتأويل ليحاول التوفيق بين عبارات النص ، فكأن الشاطيء هنا هو القدر العنيد الذي يرفض ذلك الحمل ، فيلفظ الحوت دائما .
لغة الديوان تتاخم التداولية ولا تسقط فيها ، تشتبك مع مفردات الحياة اليومية ولكن بقدر من التحفظ يجعلها تراهن على اللغة الشعرية أو الشعر الذي تصنعه اللغة بطريقة أو بأخرى ، تسعى الشاعرة دائما إلى وضع هالة سحرية حول الواقع بحيث يظهر في كامل زينته ، انظر إليها وهي تقول:
لابنة حبيبي
مثل أبيها
عيون بلون القهوة
من نور ونار
…….
رموشها مقلوبة كموجة ( الديوان ، ص 15 )
عندما تصف الشاعرة عيون الطفلة بأن لها لون القهوة فهنا الأمر بسيط وسهل ووجه الشبه فيه قريب ، التشبيه هنا مشروع في ظل سياق من المفترض أن يمعن في سرد تفاصيل الحياة اليومية عبر لغة تقريرية ، أما عندما تقول أنها من نور ونار هنا تسقط الشاعرة في إغواء اللغة ، أو تراهن على الذهنية في قصيدة جاءت بالأساس لتفجر الشعر من تفاصيل الحياة اليومية ، من الاحتكاك المباشر مع الحياة ، العلاقة الذهنية التي تضعنا أمامها الشاعرة لعينين من نور ونار تجعل المتلقي يفتح فمه ويطلق ذهنة في جولة طويلة من التأمل لعله يصل في النهاية إلى مرفأ آمن ، وأيضا عندما تشبه رموشها المقلوبة بالموجه كأنها تضيف بعدا أسطوريا لهذه الطفلة ، بحيث تظهر كما لو كانت محاطة بهالة من الجلال والسحر ، وهكذا تبتعد اللغة عن التقريرية ، مقتربة من تخوم الميتافيزيقي والذهني
ومع ذلك نجحت الشاعرة في أكثر من موضع في ملاحقة الشعر في التفاصيل اليومية من خلال لغة تقريرية ، تتوسل الحيادية لصنع مفارقة شعرية ، ها هي تقول في قصيدة بعنوان ” جدران ”
اليوم بت تعرف شيئا جديدا عني
أنني لست قطة
أنا سمكة ملونة في حوض زينة
لا تنقر جدرانه بقسوة
كي لا أموت فزعا ( الديوان ، ص 62 )
إذا حاولنا هنا شرح القصيدة أو توضيحها فسنضطر إلى إعادة كل كلماتها بنفس الترتيب مرة أخرى ، هنا لا يخرج الشعر من خلال علاقات ذهنية مركبة ، وإنما تقوم الشاعرة بمنتهى السهولة بوضع أيدينا على عالمها الخاص ، على مواضع الألم داخل حياتها ، حياتها التي تحيطها بمنتهى القسوة بأربعة جدران تبدو داخلهم كسمكة زينة ، وكما نعرف فإن أسماك الزينة جميلة ورقيقة ، لذا فهي تطلب من حبيبها أن يتلطف في دخول حياتها ، وألا يقتحم وحدتها بقسوة لا تناسب رقتها .
رغم قدرة الشاعرة الواضحة على الإمساك بخيط الشعر من أول القصيدة وحتى نهايتها ، بحيث تبدو كل عبارة كما لو كانت إضافة جديدة لعالم الشعر داخل القصيدة ، رغم ذلك نجدها قد لجأت إلى مجموعة من العبارات الجاهزة المتوارثة داخل جهاز الشعر العربي من مثل : ” الصوت الرخيم ” ص70 ، ” سنوات انتظاري العجاف ” ص 13 ، ” شوقنا الهادر ” ص 14 ، ” نار الشهوة ” ص90 ، ” كهف سحيق ” ص 52 ، ” الوحشة الكامنة في أضلاعي ” ص 27 ، ” السماء في بطن السماء ” ص 64 .. وهكذا .
وإمعانا في الذهنية تلجأ الشاعرة إلى شعرية المجاز بكل مراوغتها وهروبها وإصرارها على تفجير المعاني والدلالات داخل عقل المتلقي ، تقول :
الرغبة ذئب
والغواية أرجوحة
المتعة والألم
شجرتان ( الديوان ، ص 55 )
هنا تبتعد الشاعرة عن الحياة اليومية بتفاصيلها المملة وهمومها العابرة لتجعل المتلقي يفتح باب التأمل على مصراعيه في محاولة لملاحقة الشعر الذي لا يمكن الامساك بتلابيبه ، وكل ما نستطيعه حياله هو التأمل والمزيد من التأمل ، هنا علينا أن نتخيل الرغبة وهي مفهوم ليس له مرجع مادي ، نتخيلها – تلك الرغبة – في صورة ذئب ، والذئب حيوان مفترس ، فالرغبة تنهش أو تجعلنا ننهش أجساد بعضنا البعض كذئب ينهش فريسته ، وعلينا أيضا أن نتخيل الغواية ، وهي أيضا مفهوم ليس له مرجع مادي ، نتخيلها في صورة أرجوحة ، تخيل معي فتاة جميلة تروح وتجيء داخل أرجوحة ، لا شك هو منظر يدعو إلى الغواية أو يغوي الآخر ، لقد شبهت الشاعرة كل من الرغبة والغواية بأشياء مادية لكنها ليست ثابتة على صورة واحدة ، فالذئب رغم أنها كائن مفترس إلا أنه ليس صلبا ، وكذلك الرغبة التي هي كالأرجوحة ليست ساكنة ، ولكن على النقيض تأتي المتعة وكذلك الألم في صورة شجرة لها جذور ثابتة في الأرض ، لكنها أيضا قابلة للنمو والاستطالة .
وهكذا استطاعت الشاعرة من خلال ديوانها أن تجمع بين جماليات قصيدة التفاصيل من ناحية وبين جماليات قصيدة الرؤيا – إن جاز التعبير – من ناحية أخرى ، وإن كانت قد سقطت في بعض العبارات المستهلكة داخل منجز القصيدة فإن ذلك جاء بطريقة عفوية من ناحية ، ودون أن يقلل من حجم الشعر الذي تصدره القصيدة من ناحية أخرى ، ورغم كل شيء يبقى الديوان علامة مضيئة داخل منجز قصيدة النثر وتجربة لافتة لابد من الاحتفاء بها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر وناقد مصري