من هنا تمر الأحلام

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لم يرها أحد بوضوح قبل أن تتحول إلى شجرة. لا يذكر أحد ملامحها بتفاصيل محددة، ولا يستطيع أي شخص أن يصفها بصورة قاطعة. يذكرون فقط جلستها تلك عند المنحدَر الواقع في طرف القرية. يتوجَّه إليها مَنْ لديه بذور سر، يلقيها في صدرها، حيث تختبئ الكلمات براعم منغلقة على ذاتها، لا يدري أحد لونها، حتى صاحبها. يلجأ إليها كل مَنْ له حلم، يُسِرُّ إليها به كبئر أمنيات، يلقي أمنيته وهو يشتهي الارتواء، عاجزًا عن رؤية أي شيء عدا التماع القاع ببريق أمنيات أخرى ألقاها عابرون من قبل، فحجبت تشققات الجوف المجدب. بعضهم عاملها معاملة قواقع البحر، يهمسون لها بآلامهم، ويشتهون أن تهمس هي لهم بوشوشات الموج،فتهدهد أرواحهم المنهكة، قبل أن يلقوها لليمِّ وقد حمَّلوها كل أوجاعهم. حملت ثقل أرواح القرية بأسرها صليبًا فوق ظهرها. تكاثرت عليها الحمول مع كل عابر جديد يدق همَّه مسامير في كفَّيْها، ومع كل دمعة تُضاف شوكة في الإكليل على جبينها.

 في يوم لا يذكرونه بالتحديد، وجدوا جدولًا صغيرًا يجري قادمًا من ناحية المنحدَر، حيث مجلسها. ذهبوا إليها، فوجدوها وقد سالت عيناها اللتان لا يذكر أحد ماذا كان لونهما. لم تكن الدموع تسيل من العينين، بل سالت العينان نهرًا يجري باندفاع وعنفوان. رفعت رأسها لسماء زرقاء، وقد انفتح الفم عن آخره، وتصاعدت منه بتلات جافَّة رقيقة حالت ألوانها. تطايرت كأجنحة فراشات هشة، واستقرت على رؤوسهم، وعلى الأرض من حولهم. تصارعت نغمات قلبها الحبيسة داخل صدرها وهي تحاول ترتيب لحنها.

 فردَت ذراعيها عن آخرهما تحتضن العالم بأسره وهي تدور حول نفسها بسرعة تتزايد، وفوقها في السماء يحوم سرب حمام. خلق دورانهما المشترك دوامة تزايدت قوتها وسرعتها. انفتح قفص صدرها،وطار منعشا لقلب سرب عصافير دوري رفرفت حول رأسها. ارتفعتالطيور،ترتقيالسلَّمالموسيقيَّالذيالتفَّحلزونيًّاحتىاختفىفيالأفق،وكلٌّمنهايحملبداخلهنغمتهاوحكايتها. استحال جذعها جذعًا خشبيًّا، وشيئًا فشيئًا، استطالت أصابع قدميها الحافيتين وسط التراب. تفرَّعت أصابع القدمين، وتوغَّلت مخترقة التربة، حتى صارت جذورًا. وجهها المرفوع تجاه الزرقة حجبته خصلات شعرها المتطايرة التي اخضوضرت تدريجيًّا. كانت هذه آخر صورة لها انطبعت في أعينهم واحتضنها إطار الذاكرة.

يحُجُّون فرادى للشاطيء الجديد، يرتكنون إلى جذع شجرة الصفصاف عند حافَّة المنحدَر، ويفرغون صدورهم. يربط كل منهم شريطًا ملوَّنًا بلون حاجته أو حلمه في خصلاتها الخضراء. صار لها شرائط كثيرة،ثبَّتها زُوَّارها في خصلاتها التي تتدلَّى وتتمايل مع كل نسمة ريح وكل زفرة هَمٍّ أوعشق. مع كل شريطٍ حكاية،وكل حكايةٍ أمنية وحلم. أتاها يومًا وفي يده شريط قِرْمِزيٌّ بلون الدم. عقد الشريط حول خصلة طويلة من خصلاتها تدلَّت تُداعب سطح الماء، ثم أسند جبهته على جذعها وأغمض عينيه. حدَّثها القلب المضنَى: "كلمة الحُر وعد، وقد أوفيتُ وسدَّدتُ حتى صرتُ لعينيها عبدًا. ونظرة الحسناء وعد، لكن عينيها كانتا بعمق محيط، وبلون الغرق". مُغمِض العينين ما زال، شعر بطرف فرع من فروعها يمتد بداخل القلب، يمسه بأنامله برقَّة، ويُمسِّده بحنان. أودعت الأنامل في الفؤاد بذرة، أينعت زهرة حمراء، لها قلب ما بين التفتح والانغلاق، كشفاه تهمس بسرٍّ يكاد يطرق السمع، لكن لا يَبِين. احتضن قلب الوردة وريقات رقيقة لها الحمرة نفسها، وقد أحاطت به، لا مثل سور متصل، ولكن كمتاهات صغيرة، يلزمها مَنْ يعرف كيف يناورها حتى يصل عَبْرها إلى القلب. شم أنفه عبير الورد، ففتح عينيه، وقام وقد تخفَّف من حمول أثقلته. وقبل الرحيل، لاحظ تحوُّل شريطه من القِرْمِزيِّ الداكن إلى حُمرة زاهية مبهجة.

في اليوم التالي، زارها الصغير وقد تأبَّط وحدته، يسيران معًا رفيقَيْ درب متلازمَيْن. فتح كفَّه عن شريط بزرقة ملَّاح ضل طريقه عبر البحار السبعة. ربط الشريط في طرف فرع رقيق، ثم جلس وقد أَوْلاها ظهره، مستندًا إلى الجذع، مواجهًا الماء الجاري أسفل المنحدر. سرح في الأفق وهو يحكي بتنهيدة: "يقولون إنك أنيسة من لا أنيس له، وجليسة من ليس له جليس سوى الوحشة. لا أب لي ولا أم، فهل تتخذينني ابنًا لك"؟ أحس الصغير بأفرع رقيقة تحيطه من الخلف محتضنة إياه. أغمض عينيه، وسبحت نظرته إلى الداخل وهو يشعر بقلبه يفيض بالزرقة اللامتناهية. امتلأ قلبه حد الأفق ببراح البحر والسماء وصفائهما. شعر بروحه تحلِّق بخفَّة، واللون الأزرق يلطِّف ويسكِّن ويحتضن. نهض، واستدار ليحتضن بدوره الجذع الخشبي، وفي قيامه لمح شريطه يرفرف مع النسيم كجناحي عصفور، وقد فاضت زرقة قلبه لتحتضن زرقة الشريط ويصير الكل امتدادًا للأفق.

يومَ زارتها صاحبة الشريط الأبيض، حرص باقي أهل القرية على الابتعاد. كان وجودها كفيلًا بإبعاد الناس من حولها أمتارًا عدة. يهابون تقلُّباتها، ويعجزون عن فهمها. مشاعرها فوضوية، ومزاجها متقلب، مثل إشارة مرور معطوبة تُبدِّل ألوانها من دون نظام. كان مَنْ حوْلَها كسيارات حائرة، لا تدري أتتقدم أم تتنظر. ومَنْ يكسر الإشارة بثبات، يدهسْه مرور مشاعرها بلا هوادة. أحاسيسها بداخلها تتكسَّر عاتية كأمواج هادرة، بينما الملامح جامدة، لا تشي بالطوفان المحتبس داخل القلب. عقدت شريطها بلون الثلج على الفرع وهي تزفر بحرقة. كلمة واحدة أفلتت بحرارة من أعماق روحها: "تعبْت". قالتها وهي تقف، لا تدري أتجلس قليلًا أم تنصرف. سمعَتْ حفيف الأوراق يغنِّي لضنى الروح تهويدة. شريطها الأبيض تمايل في رقصة صغيرة مع الأفرع المتراقصة، قبل أن يتوهَّج بياضه، ويتفجَّر قوس قزح يحتضنها ببهجة الألوان الزاهية. تمايلت هي الأخرى متراقصة، تنفض عنها ملحًا كثيرًا، بينما دموع عذبة تسيل من حدقتي عينيها.

 

في صباح يوم لا يتذكرونه تحديدًا، استيقظوا على سماء القرية تحجب زرقتَها أسرابُ عصافير ملونة. كانت كثافة السرب تزداد كلما اقتربوا من المنحدَر. وجدوا الماء أيضًا يغص بأسماك ملونة، تتقافز فتبلل قطرات الماء كل مَنْ وقف قرب الشاطيء. لدهشة الجميع، لم يجدوا شجرة الصفصاف في مكانها. فقط، كانت ألوان كل الأشرطة التي ربطوها من قبل في خصلاتها تتراقص أمام أعينهم في الماء، وتتطاير فوقهم في الجو. انسابت أحلام القرية وأمانيها بأكملها مع الماء الجاري والنسيم العابر. بعدها صار كل مَنْ يمر هناك من القرى المحيطة يبطئ من خطاه، ويشير لمن لا يعرف الحكاية قائلًا: "تمنَّ أمنية، فمن هنا تمر الأحلام".

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال