هل زورت الحملة الفرنسية حجر رشيد؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

    إذا قدر لفريق من الباحثين في علوم المصريات أن يتحلى بفضيلة القلق، والقدرة على نزع القداسة عن ثوابت «تاريخية»، وشجاعة التشكيك في مسلمات «علمية»، فيمكن لكتاب «التقويم المصري: مفتاح فك شفرة النقوش المصرية القديمة» أن يصير رائدا في إزعاجه، رأس حربة مثيرا للإزعاج في ريادته، ثغرة في جدار منيع يتحصن بقرنين من دراسات أثرية وتاريخية بني عليها تاريخ الحضارة المصرية القديمة والحضارة الإنسانية عموما، انطلاقا من «كذبة»، يلخصها مؤف الكتاب الباحث المصري إيهاب غريب بأن الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801) ادعت العثور على «حجر رشيد»، في مدينة رشيد المطلة على البحر المتوسط، في  أغسطس 1799، ثم زوّرت كتابات زعمت أنها لثلاث لغات، لكي تدخل اللغة اليونانية ـ ممثلة للحضارة الأوروبية ـ في النسيج المصري لغة وحضارة وآثارا، فيضمن الحجر «المزيَّف» للفرنسيين فرص المجادلة بحقوق تاريخية لأوروبا ستكون لها نتائج كارثية.





    في تاريخه الشهير «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» يؤرخ عبد الرحمن الجبرتي لسنة 1213  للهجرة (15 يونيو 1798 ـ 4 يونيو 1799) بأنها «أولى سني الملاحم العظيمة، والحوداث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال (في تحقيق آخر: اختلاف) الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب». وصف دال يتنبأ بآثار حملة عسكرية لم تتورع عن اقتحام الأزهر، بعد تودد نابليون إلى الشعب، وطمأنته في 9 يوليو 1798، عبر «مكتوب» يبدأ بالبسملة وتوحيد الله، والتبشير بالحضارة القائمة على «الحرية والتسوية»، والتذكير بأن «رب العالمين رؤوف وعادل وحليم»، والإقرار بـأن «تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة». ولكن المقاومة الوطنية للاحتلال، في عموم مصر، لم تتأخر أو تتردد، إذ تصاعدت في مواجهة القتل والتخريب وحرق قرى تمتنع عن دفع ضريبة يسميها الجبرتي «كلفة».

    لم يتردد عسكر القائد «المتحضر» الذي تقنع بالتسامح الديني والإنساني في انتهاك حرمات مساجد لا تقل عنها حرمة الدماء. وباندلاع ثورة القاهرة الأولى في 21 أكتوبر 1798، يصير القتل سافرا. يقتحم العسكر الذين يسميهم الجبرتي «أولئك الوعول»، الجامع الأزهر، «وهم راكبون الخيول… وربطوا خيولهم بقبلته»، وعملوا سيوفهم في المشايخ والطلبة، «ووجدوا في بعض الأروقة إنسانا فذبحوه»، ونهبوا الكتب والأمتعة، ومزقوا المخطوطات، وطرحوا المصاحف على الأرض وداسوها بالنعال، وأحدثوا في المسجد «وتغوطوا، وبالوا وتمخطوا» في إهانة بالغة لموقع له دلالته الرمزية الدينية والوطنية، ولم يبالغ الجبرتي في وصفهم بجيش الشيطان. وفي كتابه «مظهر التقدس بزوال دولة الفرنسيس» يسجل الجبرتي أن العسكر الفرنساوية أمروا سكان القلعة بمغادرة منازلهم، لكي يقيموا فيها وينصبوا مدافعهم، بعد هدم أبنية، ومحو آثار، منها قصر صلاح الدين الأيوبي بالقلعة، وأنهم في 26 ديسمبر 1798، شوهوا «المسجد العظيم والجامع المشيد الفخيم» الذي بناه الناصر محمد بن قلاوون عام 1318 ميلادي، «فقلعوا منبره، وشعثوا إيوانه، وأخذوا أخشابه، وزعزعوا أركانه، وأزالوا المقصورة الحديد بديعة الإتقان، التي كان يصلي بداخلها السلطان، وحسبنا الله ونعم الوكيل».

    خلف هدير المدافع عكف جيش آخر من العلماء والفنانين، بدأب من يشعر بقصر عمر الاحتلال، على «وصف مصر». رسم المصورون «كل شيء»، ومنهم أريجو الذي كان يصور المصريين «تصويرا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ»، على حد قول الجبرتي، وكان هناك من يصور المساجد والأسبلة والتكايا والمعابد والحيوانات والحشرات والأسماك. وأتوا بعجائب «ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا». فهل كان حجر رشيد من هذه العجائب، حتى أصبح يؤرخ بما قبله وما بعده؟

    التاريخ المصري المستقر، وفقا لإجماع علماء المصريات والمؤرخين يبدأ بفترة مبكرة من عمر البلاد، قبل أن تتوحد جغرافيا وإداريا تحت حكم مركزي نحو عام 3100  قبل الميلاد على يد الملك مينا مؤسس الأسرة الأولى، وقد استمرت مراحل الصعود والانهيار عبر حكم ثلاثين أسرة، إذ أنهى الإسكندر الأكبر حين غزا مصر عام  332 قبل الميلاد حكم الأسرة رقم 30. وقد قسم الكاهن المصري «مانيتون» ـ الذي عاش في مدينة «سَمَنُّود» عاصمة الأسرة الثلاثين (بمحافظة الغربية حاليا) ـ تاريخ مصر إلى 30 أسرة، بأمر من بطليموس الثاني الذي حكم مصر بين عامي 284 و246 قبل الميلاد، وجاءت الأسماء وفقا للنطق اليوناني.

    أما الأسطورة المستقرة كحقيقة تاريخية وطبيعية عن حجر رشيد فهي عثور بيير بوشار، الضابط في سلاح المهندسين، في قلعة بمدينة رشيد على حجر يحمل نقوشا لنص واحد مكتوب بثلاثة أنواع من الخطوط: الهيروغليفية (النقوش المقدسة وفقا للتسمية الإغريقية) والديموطيقية (الكتابة الشعبية المصرية) والإغريقية (اليونانية). وقد ظل الأمر لغزا إلى أن تمكن شامبليون في سبتمبر 1822 من كشف غموضه، ومعرفة أسرار رموز المنظومة المركبة للنقوش المقدسة (الهيروغليفية). يذكر عالم الآثار المصري عبد الحليم نور الدين في المجلد الأول من كتابه «آثار وحضارة مصر القديمة» أن الحجر يتضمن مرسوما من الكهنة في مدينة منف «يشكرون فيه ال بطليموس الخامس (إبيفانويس) حوالي عام 196 قبل الميلاد، لقيامه بوقف الأوقاف على المعابد وإعفاء الكهنة من بعض الالتزامات… أراد الكهنة أن يسجلوا هذا العرفان بالفضل للملك بالخط الرسمي وهو الخط الهيروغليفي، وخط الحياة اليومية السائد في هذه الفترة وهو الخط الديموطيقي، ثم بالخط اليوناني» الذي كان يستخدمه البطالمة منذ احتلالهم مصر عام 332 قبل الميلاد.

    ولكن هذه التفاصيل الموجودة بالحجر الحالي لا وجود لها في الأخبار المعلنة وقت العثور على الحجر.

    يذكر جان لاكوتير في كتابه «شامبوليون: حياة من نور» أن صحيفة كورييه ديجيبت نشرت في الثاني من فروكتيدور العام السابع لتقويم الثورة الفرنسية (15 سبتمبر 1799) برقية مؤرخة في 19 أغسطس 1799، تعلن العثور على «حجر من الجرانيت الأسود الرائع، حبيباته رفيعة للغاية وصلب جدا لدى طرقه، ارتفاعه 36 بوصة وعرضه 28 بوصة، ويترواح سمكه من 9 إلى 10 بوصات، توجد على أحد وجهيه فقط، المصقول صقلا ناعما، ثلاثة مخطوطات مختلفة منحوتة في ثلاث مجموعات من الخطوط المتوازية. المجموعة العليا، الأولى، مكتوبة بحروف هيروغليفية. المجموعة الثانية، الوسطى، مكتوبة بحروف يعتقد أنها سريانية، أما المجموعة الثالثة فهي مكتوبة باليونانية. تمت ترجمة جزء من النص اليوناني بأوامر الجنرال مينو. يتيح هذا الحجر فرصة عظيمة لدراسة الحروف الهيروغليفية».

    فهل يكون حجر رشيد الحالي «نسخة غير أصلية»، كما يذهب إيهاب غريب في كتابه «التقويم المصري»، بهدف ربط التاريخ المصري القديم بالروايات الأسطورية المستخلصة من الكتاب المقدس؟

    يسجل إيهاب غريب في كتابه أن في أول خبر نشره الفرنسيون عن «الحجر المدعى العثور عليه في رشيد» في صحيفة كورييه ديجيبت مقاييس ومضمونا يختلفان عن مقاييس ومضمون الحجر الموجود بالمتحف البريطاني؛ فالخبر المنشور عام 1799 يصف الحجر بأن ارتفاعه 36 بوصة (91.44 سنتيمتر)، أما الحجر الموجود حاليا بالمتحف البريطاني فارتفاعه 113 سنتيمترا. ويقول الخبر إن الجنرال مينو (القائد الثالث للحملة بعد اغتيال سليمان الحلبي لكليبر طعنا في 14 يونيو 1800) عمل على ترجمة جزء من النقوش اليونانية، وإنها تتلخص في أن بطليموس فيلوميطر أعاد فتح جميع قنوات مصر، وإن هذا الأمير استخدم في أعماله الضخمة عددا كبيرا جدا من العمال، وأموالا طائلة وقد استغرقت ثماني سنوات من حكمه»، ويعلق قائلا إن المطلوب من حجر رشيد أن يمهد لإقامة قناة بطليموس، قناة السويس لاحقا.

    مصدر دهشة المؤلف أن النص الأسفل، اليوناني، كان الوحيد المقروء آنذاك، ومن المستبعد أن يكون الجيش الفرنسي والمجمع العلمي، الذي أسسه نابليون بالقاهرة قبل عام من الإعلان عن اكتشاف الحجر، قد أخطأوا في قراءة النص اليوناني الذي زعموا أنه يتحدث عن قيام بطليموس الملقب بفيلوميطر «الذي لم يكن قد ولد بعد» بإعادة فتح جميع القنوات. ويرجح الكاتب أن الإعلان عن هذا المضمون ـ الذي سيختلف عن مضمون حجر رشيد الحالي ـ نتج عن التسرع، قبل التوصل إلى الصيغة النهائية للنص المسجل على الحجر، بأمر من نابليون للفنيين «المنوط بهم تزويره»، تمهيدا لتسليمه إلى الإنجليز ـ الذين يفترض أنهم لا يعرفون ما يحوزه الفرنسيون من آثار ولا أهميتها ـ ليصير الحجر بصيغته الحالية النهائية «المختلفة عن الخبار المعلنة عنه، لإضفاء صيغة المصدقية على أصالته.. ولتوسيع دائرة المسؤولية القانونية عنه»، وضمان نسبة عدد من المعابد «الفرعونية» إلى الإغريق والرومان، ومنها معبد إيزيس في جزيرة فيلة بأسوان في أقصى الجنوب، كما نجحوا في ربط التمثالين الصرحيين للملك أمنحتب الثالث أمام معبده الجنائزي غربي مدينة الأقصر باسم القائد الإغريقي الأسطوري أجا ممنون.

    كان إيهاب غريب قد أقام في ألمانيا 2002 و2008، وقام في تلك الفترة برصد وتصوير حركة الكواكب المتحركة على خلفية النجوم الثابتة، ويقول إنه يسعى إلى نقض الرواية الأوروبية الحالية للتاريخ المصري، والتي جاءت في بعض جوانبها متماهية مع الرواية التوراتية وخصوصا ما ينسبونه إلى رمسيس الثاني.

    ربما يحتاج حجر رشيد الحالي، وما بني على قراءاته من نتائج، إلى دراسات أثرية وتاريخية يفترض أن تحدث زلزالا في علم المصريات؛ إذ يرى المؤلف أن الحجر الحالي «مزوّر»، وأن التحليل اللغوي لمضمونه لا يثبت صلة حقيقية بين النقوش الثلاثة الموزعة على سطحه، وأن ما روجه الأوروبيون من «حقائق مستنتجة منه وهي ليست فيه» يغني عن فحص الحجر كيميائيا للتأكد من أنه «صناعة فرنسية» استهدفت «مسح التاريخ لا إثباته»، كما فتح شهية الأوروبيين لنهب الآثار المصرية، وتحويلها إلى بلادهم، في هوس عام تجسد في مقتنياتهم الشخصية، أو الانتفاع التجاري من خلال قامة متاحف تدر عائدا يرونه مستحقا ليس لأصحاب الآثار، وإنما لمن فك رموزها التي أصبحت تنطق بما يريدون أن يروجوا له.

    ما زالت مصر الدولة الوحيدة التي تحظى بعلم يرتبط باسمها Egyptology، وإذا أتيح لاجتهادات علمية مصرية، في مجالي الآثار والتاريخ، أن تشكل تيارا بحثيا، فربما يؤدي ذلك إلى إعادة صياغة التاريخ القديم كما جرى بالفعل، في مصر وما جاورها من حضارات.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة العرب


مقالات من نفس القسم