موتٌ أخير

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

محمد الحمراوي

يقف أبناؤه الثلاثة أمام جسده المُسجَّى فوق الفراش، يقول أكبرهم:

- لِم استغرق كل هذا الوقت قبل أنْ يموت؟ لقد جاوز المائة عام!

- لم يشكُ يومًا من أيِّ مرض، لكنَّه يموت هكذا فجأة!

يقترب الثالث، يُدقِّق النظر في الوجه الذي تحجبه الملاءة الشفَّافة..

- ربَّما لم يمُت.

ينفعل الثاني، ويهتف في حنق:

- ابصُق من فمك هذا الكلام الفارغ. لقد مات. تأكَّدنا جميعًا من ذلك.

يقول الأول:                  

- لا وقت لدينا لهذا الهراء، دعونا نُعجِّل بدفنه.

يخرج ثلاثتهم، فيتسلَّل في أعقابهم، من فتحة الباب المُوارَب، القطُّ الأبيض العجوز، يصعد إلى فراشه، ويسأل:

- كيف تتنفَّس عبر هذه الملاءة؟

- أنا لا أتنفَّس، فأنا رجل ميِّت.

يُجيب القطُّ بلا مُبالاة:

- الناس عبيد لما يُصدِّقونه.

تهُبُّ ريح تدفع النافذة، فتنثُر فوق فراشه بضعة من أوراق الشجر، ومن خلفها يُحلِّق عُصفور، يدور في سقف الحُجرة دورتين، ثم يهبط فوق صدره.

- لا أظنُّ أنَّ جسدي الميِّت هذا مكانًا مُناسبًا لعُصفور جميل مثلك.

يقول العُصفور:

- أشُمُّ رائحة موت في الهواء، لكنَّك لا تبدو لي كميِّت.

ثم يلتفت، فيرمق القطَّ الساكن بريبة، يُحاول طمأنته:

- لا تخَف. لن يُؤذيك.

يقول العُصفور، مُتحديًّا:

- أنت لا تعرف إنْ كُنت حيًا أم ميتًا، لكنَّك تعرف أنَّه لن يُؤذيني!

وحين يُحرِّك القطُّ رأسه يُحلِّق العُصفور هاربًا نحو الخارج.

يتأمَّل ورقة الشجر التي استقرت فوق ملاءته، ورقة هامدة، ميتة. هذه الورقة بالتحديد، كانت قبل دقائق قليلة تنبض بالحياة. خدعها الهواء، أغواها بقُدرته على تحقيق حُلمها، أوهمها بأنَّها ستكون حُرَّة، تُحلِّق في هذا الفضاء الرحب، كالفراشات المُلوَّنة التي تأسر انتباهها، تتقافز هُنا وهُناك، دُون أنْ تربطها شجرة بعينها، أو يُقيِّدها غُصن.

اختطفها الهواء الماكر من غُصنها، رفعها إلى أعالي السماء، ثم تركها تسقُط كُتلة خالية من الحياة.

يقتحم الغُرفة بغتة رجل وامرأة. يجفل القطُّ لوهلة، لكنَّه ما يلبث أنْ يعود إلى وضعه المُسترخي فوق الفراش. يتعرَّف الرجل على ابنه وزوجته، التي صارت أرملته، الابن الثاني يُقبِّلها، يضُمُّها إلى صدره، يسحق عظامها بين ذراعيه القويَّتين.

يُحاول أنْ يصُمَّ أُذنيه عن تأوُّهاتهما وهمهماتهما المُبهمة، يقول أنَّها لم تعُد زوجته، لكنَّه مازال ابنه على كل حال. لا يستطيع أنْ يطرُد عن ذهنه صُورة الطفل الرضيع الذي كانه.

تحضره صُورته في القماط، طفل يبول على نفسه، يرى الأثداء مُشرئبَّة أمام ناظريه، لكنَّه لا يرى فيها إلا مصدرًا للغذاء لا أكثر. كيف صار هذا الطفل رجلًا يُضاجع النساء، لا، إنَّه لا يُضاجع النساء، بل زوجة أبيه.

فأر عابر يستوقفه المشهد، فينسى نفسه، حتى يلمحه القطُّ فيقفز نحوه قفزة خاطفة وهو يموء مكشِّرًا عن أنيابه، فيركض الفأر ويرتبك العاشقان، فينهضان، يسُبَّان القطَّ وصاحبه، ثم يُغادران الغُرفة.

تُلملم الشمس بقايا ضوئها، بإمكانه إنْ نهض بنصفه العلويِّ أنْ يرى القمر يتهيَّأُ لإطلالته المسائيَّة. يُسرف القمر في تأنُّقه، تهُمُّه المظاهر أكثر من أيِّ شئ آخر. تستيقظ الشمس في الصباح الباكر، تعمل طوال اليوم بلا كلل، فيما يتمدَّد هو في فراشه حتى المغيب، وحين يظهر أخيرًا فإنَّه لا يبذُل أيَّ مجهود، سوى القدر الضئيل الكافي ليعكس ضوءها، بتثاقل وغُرور.

القمر صديق العاشقين والكُسالى، يسحرهم بحُضوره والنجوم اللامعة التي تُحيط به من كل جانب، لكن نظرته الناعسة تُثير في نُفوسهم شيئًا من الكآبة والسأم.

يهبط القمر، وفي أعقابه نجماته التي أغواها بسحره، حتى يقترب من النافذة المُشرعة، يسأل بتعالٍ:

- لماذا تحجب وجهك عن ضوء القمر؟

- أعتذر. لكن يحجبني الموت.

يتلفَّت القمر حواليه مُستغربًا..

- حتى الأموات يتطلَّعون إلى حُضوري!

- اعذرني عزيزي القمر، لكن بهرجتك الزائفة تُزعجني بعض الشئ.

تتأوَّه النجوم في دهشة وانزعاج، وتبين على ملامحهن الجميلة آيات الغضب.. يُردف:

- أعتذر إنْ كنت قد آذيت مشاعر نجماتك الجميلات، لكن يا عزيزي أنت مُجرَّد عاكس لضوء الشمس، تخدع الجميع بضوئك فتنال كل الغزل، فيما لا تنال الشمس إلا السخط. ألاترى في ذلك بعض الظلم على الأقل؟!

يهتف القمرفي انزعاج:

- لا عجب في كونك ميِّت، قتلك لسانك هذا لا ريب.

ينسحب القمر وفي أعقابه النجمات، التي لم تنسَ أنْ تُخلِّف وراءها نظراتها المُستاءة. سمعه يتوعَّده بأن يحرمه من ضوئه. لم يُرِد أن يثير سخطه أكثر بأن يذكِّره بأنه ميِّت، والميِّت، على كل حال، محروم بالضرورة.

يعود القطُّ من المُطاردة شاحب الوجه، لا تبدو على وجهه إمارات الظفر، يلهث، يقول، في إعياء واضح:

- علَّمتني أمي أنَّ الحياة مُعلَّقة في ذيل فأر، لا تموت إلا حين تعجز عن إدراكه.

ثم يستلقي إلى جوار صاحبه، فيما يتراجع ضوء القمر الغاضب، فتُحيط بهما الظلمة من كل جانب.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصة الفائزة بالمركز الأول بمسابقة مركز رامتان السنوية للشباب ـ  دورة "سعيد الكفراوي" 2016

 روائي وقاص مصري






مقالات من نفس القسم