أميرة طاهر
في يوم 3 سبتمبر1973 ..
و في تمام الساعة 6 مساءً والدقيقة 28 والتانية32 ..
حطت ذبابة زرقاء تصل سرعة خفقان جناحيها إلى 14.670هزة في الثانية على أرض شارع سان ڤنسنت .. في نفس الثانية في شرفة المطعم، كانت الرياح تداعب المفرش، مما جعل الكؤوس تتراقص دون أن يلحظ أحد .. في الوقت ذاته، بالطابق الخامس عمارة 28 شارع ترودان .. مسح العجوز يوجين يوكر اسم صديقه العزيز المرحوم اميل مينو من دفتر التليفونات بعد عودته من الجنازة .. وأيضا في ذات الوقت .. كان هناك حيوان منوي يخص السيد رفايل بولان حاملا كروموزم إكس يشق طريقه إلى بويضة السيدة أماندين بولان المعروفة باسم أماندين فوييه .. بعد تسعة أشهر ولدت طفلة ..أميلي بولان..!ا
في هذا الفيلم بالتحديد القصة بسيطة تكاد أن تكون هامشية، كما أفضل ألا أفسد متعة مشاهدته على من لم يشاهده، قوة الفيلم وجماله يكمنان في سحر الألوان والتفاصيل و الرؤية الحساسة المرهفة لعالم من نوع آخر، لم نحسن اكتشافه على وجوده في حياة كلٍ منا. عالم من التفاصيل الغنية الثريّة الذاتيّة جداً.
أميلي بولان، الفتاة الطيبة الساذجة التي عاشت في عزلة ووحدة، والتي تعمل نادلة في مقهي بشارع مونمارتر بباريس، كثيراً ما تستغرقها الأماني وأحلام اليقظة، وتحب أن تفعل كل الأشياء البسيطة المسلية: إلقاء الحصى المصقول في النهر، الاستماع إلى صرخات الأورجازم للجيران، لصق الملعقة في أنفها، و مراقبة الرسام الفنان العجوز من خلف نافذتها الصغيرة. الآن هي على وشك أن يتغير مصيرها بالكامل خلال الأيام القليلة القادمة عندما تعثر على الكنز : صندوق ملئ بذكريات الطفولة يرجع عمره إلى نصف قرن مضى مختف خلف بلاطة في حائط شقتها. في ذات اللحظة التاريخيّة التي يذيع فيها التلفزيون خبر موت الأميرة ديانا بباريس في حادث السيارة الشهير.
الصندوق في فيلم أميلي رمز المخبوء، وفي الوعي الجمعي للبشرية يعدّ رمزاً خالداً شديد التعقيد يحوي كل غال وثمين ومخيف من صندوق باندورا إلى كنوز الملك سليمان. الصندوق هو كل سر مغلق. كل كنز ثمين، لقد حفل الأدب العالمي وأدب الرحلات بقصص كثيرة لم تحمل هدفا إلا العثور على الكنز، نعم؛ اختلف نوع الكنز في كل مرة و تباين بين الماديّ و المعنويّ، أتذكرُ حكاية الرجل الذي قطع رحلة طويلة من أجل العثور على الكنز وفي النهاية اكتشف أن الكنز كان في الرحلة بحد ذاتها.
الصندوق في الفيلم أيضا يرمز لركن الذاكرة في العقل الإنساني، مترب وقديم ويعلوه الصدأ، ولكنه حافل بالذكريات الجميلة عن أيام سعيدة لم نكن نحمل فيها همّا. أيام الطفولة التي تبدو لنا وكأنها تعود إلى زمن سحيق. هكذا تقرر أميلي البحث عن صاحب الصندوق الذي لابد أن عمره الآن يتجاوز الخمسين، راحت تراقبه لاهثة الأنفاس لتقرأ وجهه بدقة، و تقرر أن التأثر الذي سيبدو على وجهه سيدفعها إلى لعب دور الملاك الحارس في حياة الآخرين، ويتأثر الرجل بالفعل ويعود للتواصل مع ابنته وحفيده الذي لم يره قط .. ومن هنا تتوالى الأحداث.. حتى يتغير مصير أميلي بالكامل.
من أفضل مشاهد الفيلم في رأيي هو المشهد الذي تندفع فيه أميلي إلى رجل أعمي يتحسس الطريق بعصاه ويبدو حائراً لا يعرف أين يذهب، إنه ذلك الشحاذ الكفيف الذي يجلس دوماً في محطة المترو، وبالطاقة المشعة من الخير التي تجتاحها وبالرغبة العارمة في مساعدة البشرية. تندفع إليه فجأة وتصحبه إلى محطة المترو. وبينما هي في الطريق معه تروي له تفاصيل الشارع الغنية. إن أميلي تعير الرجل المبهوت عينيها لدقائق ليرى الدنيا، ثم تتركه فجأة أمام محطة المترو وقد عرف طريقه كما اصطحبته فجأة مأخوذا ومذهولاً، وممتنا للفتاة الغامضة التي وهبته النور للحظات.
ولكن أميلي كما تقرر لعب دور الخاطبة والملاك الحارس للناس من حولها، فإنها تقرر أن تنتقم من كولينيون البقال الشرير الذي يعامل صبيه المسكين لوسين بخشونة وفظاظة، كان هذا الرجل يغيظ أميلي التي تحمل للفتى لوسين محبة انسانية خالصة لأنه طيب القلب مثلها ومهذب، ولا يستحق هذه المعاملة الفظة من مخدومه، فتتسلل إلى شقته – شقة كولينيون – وتمارس عليه الألاعيب الصبيانية لكى تفسد عليه تفاصيل حياته وتشككه في سلامة عقله . ويجنّ كولينيون الفظ السخيف ويفقد الثقة في نفسه وعقله وتشمت فيه أميلي
وتتوالى الأحداث. حتى يتنهي الفيلم بمشهد غرامي رقيق، يجسّد الدعوة للإنسان المستقل الذي يعتمد على نفسه ولا يحتاج للآخر، ويعيش في عزلة ووحدة، لكي يسترجع ذكريات الطفولة العذبة و يعيد بناء العلاقات الإنسانية، الإنسان الذي تتخطّفه أزمة الفردية والوجودية، وشعر بحاجة إلى العواطف ليخرج من أزمته .. وقد وجد صانعو الفيلم الحل في ذكريات الطفولة والتفاصيل البسيطة المميزة للحياة اليومية وفي الحب الصادق أيضا.
في فيلم أميلي ..لا يوجد شيء في الحياة اسمه شئ تافه. إن سر الحياة يكمن في كل تلك التفاصيل البسيطة الساحرة. التفاصيل هي التي تصنع ملامح حياتنا الكبرى منذ النطفة الأولى، و حتى خيارات الآخرين التي تؤثر على حياتنا بشكل غير مباشر، حياتنا ليست معزولة عن حيوات الآخرين. فكل البشر يحيون في دوائر متداخلة وفي منسوب من السائل واحد كنظرية الأواني المستطرقة. كلما صببت السائل في إحداها ارتفع منسوب الماء في الأنابيب الأخرى.
تميز الفيلم بموسيقا البيانو ممزوجة بالأوكورديون الباريسي المحبوب، للموسيقار يان تيرسان، مؤلف موسيقا فيلم ( وداعا يا لينين) .. اللغة التشكيلية في الفيلم عالية للغاية مفعمة بالتفاصيل والألوان الحية، الأحمر صارخ قوي، والوردي زاه، و الأصفر مضيء مشع، والبرتقالى دافئ حيوي.. حتى الظلال المتمثلة في الأسود أحسن المخرج استخدامها. الألوان الزاهية الدافئة سمة مميزة للفيلم الفرنسي بشكل عام وهنا تزداد قوّة و نقاءا و وضوحا. القيم الجمالية في الفيلم مرتفعة بشكل يلفت النظر والفضل لمهندس المناظر آلان بونيتو. المؤثرات الصوتية أيضا أحسن المخرج استخدامها وتضخيمها بشكل يناسب الحدث مع حركة الكاميرا. حتى صوت الراوي -ذلك الذي يعتبر عادة نقطة ضعف في العمل الدرامي لأن المفروض أن الفن يشرح نفسه بنفسه- كان نقطة قوة في الفيلم و تحسب بذكاء للدراما بدلا من أن تكون عبئا علينا أو تشعرنا بالغباء، الراوي أعطانا ذلك الشعور بأننا أطفال يحكي لنا الجد حكاية شيقة. فأعاد لنا شعور الطفولة الماضية حين كان الأهل يحكون لنا قصص ما قبل النوم، و نسهر مشدوهين منتظرين النهاية بشغف. أثبت صناع فيلم أميلي أن السينما (الجميلة) ليس من الضروري أن تكون زاعقة وصارخة تتبنى القضايا الاجتماعية الحرجة، ولا الأفكار السياسية والفلسفية الخطيرة، ولا الحروب الكبرى، ليس من الضروري أن تكون السينما مثيرة للضجة و(تخدم المجتمع) لتفرز أفلاما ممسوخة وقبيحة بدعوى الواقعية والواقعية الجديدة، يكفي فقط أن يكون الفن إنسانيا ويجسد مفهوم المواطن العالمي و الإنسان. فيلم أميلي متعة لكل الناس من كل الثقافات و الأعمار .. لقي استحسانا عالميا من قبل الجمهور والنقاد، واكتسح في شباك التذاكر في معظم البلدان وحصد الجوائز. فقط ليثبت أنه مازال هناك أمل في الحب وفي الخير وفي ايجابية البشر وفي متعة تذوق سحر التفاصيل الصغيرة في الحياة .. هنا فقط قد نشعر بالسعادة
هذه السعادة هي بهجة التفاصيل الحلوة التي قد نجدها في ثمرة فراولة ندسها في أفواهنا .. في نفخ فقاقيع الصابون .. في لعبة أو دمية بسيطة .. في تساقط صف الدومينو .. في اللعب بالكؤوس الموسيقية .. في رشف الحليب من الكوب حتى الرشفة الأخيرة .. في نفخ بالونة .. في صورة لسحابة بيضاء .. في عملة معدنية تدور كنحلة .. في بلية صغيرة نلعب بها .. في ملمس الزلط الأملس حين نلقيه في جدول ماء متدفق .. في بخار الماء المتكثف من أنفاسنا الحارة على سطح زجاجي بارد .. في لعبة القص واللصق .. في ترتيب الأشياء وتنظيمها .. في حلم يقظة بإسعاد من نحبّ .. ومحاولة تحقيقه أيضا.
أنتم جميعا مدعوون إلى إعادة اكتشاف حياتكم ومشاهدة فيلم أميلي بولان
إن الحياة دائما جميلة .. وبسيطة .. وتستحق أن نحياها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة وكاتبة مصرية