فقدان الوعي باللغة وبحقائق العصر.. النكبة مستمرة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

    كنت قد أعددت مراجع ووثائق تعينني على استعادة لحظة النكبة، وقارنت بين أحوال العالم العربي ـ نخبا وشعوبا وقادة وجيوشا ومتطوعين ـ عام 1948 وعام 2016، فتأكد لي حجم الانهيار، وفجيعة التراجع، وجرأة تواطؤات تبلغ درجة الخيانة. كان العالم العربي يعاني ترديا يشمل فقرا وتجهيلا واستلابا صنعه الاستعمار، ولكنه الآن لم يعد عالما واحدا ولا عربيا خالصا، إذ تتعرض خرائطه لتآكل واقتسام وتقتيل واقتتال باسم الوطنية وباسم الله، فضلا عن عدوان عربي ـ عربي سافر، ذروة حصاد أكثر من ستين عاما على استقلال شكلي، تحت رايات وطنية غير راشدة، فاقدة للوعي، أقرب إلى احتلال محلي يمارسه مستبدون أتقنوا صنائع الاستعمار، وتجاهلوا فضائل الحداثة السياسية. حتى الذين اكتسبوا شرعيتهم من حرب العصابات الصهيونية، اتخذوا من الكيان ـ العدو الذي أقيم على أرض فلسطين ذريعة لتبرير الاستبداد المحلي وإطالة أمده.

    بعد 68 عاما تناسلت النكبة. صارت لكل بلد عربي تقريبا نكبته، فانكفأ على همومه، يحمي نفسه من فتن حقيقية أو مصطنعة، ربما تؤدي إلى تفتيت التراب الوطني، لسعي ملوك الطوائف وجماعات مسلحة تموّلها محميات أمريكية في الخليج إلى سلخ مقاطعات وإعلانها دولة، وهرولة «دول» صغيرة لا تربطها بالعدو الصهيوني حدود برية إلى كسب ودّه، جسرا للعبور إلى رضا الولايات المتحدة.

    عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 29 نوفمبر 1947، قرار تقسيم فلسطين بين العرب وإسرائيل، كان عدد سكان اليهود في فلسطين، رغم موجات الهجرة، أقل من ربع السكان، وكانوا يحوزون أقل من سبعة بالمئة من أراضي فلسطين. الآن يحلم العرب جميعا بسراب اسمه حل الدولتين، منذ اقترحت القمة العربية في بيروت عام 2002 مذلة التوسل لإسرائيل بالتطبيع العربي مقابل دولة فلسطينية على حدود 1967، متجاهلين أن التطبيع مع كيان غير طبيعي إهانة للشهداء، خيانة للمستقبل، فلا يمكن لكيان عنصري أن يعيش أكثر من زمن يرتهن به وجوده. ولم يشهد التاريخ إهداء «دولة» لشعب، بناء على رغبات ملوك ورؤساء لا يستندون إلى شرعية شعبية، فليست الدول بالتمني. ولن يحرر فلسطين جيل منزوع الحرية، منقوص الكرامة والكبرياء، لا أمل له إلا في التخلص من حكامه التابعين، أو الهجرة إلى دول تحترم آدميته.

    في حين يناور مؤرخون جدد في إسرائيل بإعادة كتابة تاريخ النكبة، بالمخالفة للرواية الصهيونية الرسمية التي تسميها «حرب الاستقلال»، لا يتفق العرب على الرواية العربية الحقيقية، كسلا أو وفاء لأسلاف تسيء إليهم الحقائق. ينقل محمد حسنين هيكل من مذكرات الجنرال جلوب قائد الفيلق الأردني قول رئيس وزراء الأردن توفيق أبو الهدى لوزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن: «إن اليهود في فلسطين قد أعدوا حكومة وقوة بوليس وجيشا لكي يتسلموا السلطة فور انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين. وأما العرب فلم يستعدوا بشيء، وهم في فلسطين غير قادرين على حكم أنفسهم وليست لديهم الوسائل لإنشاء جيش يدافع عنهم». وينقل من كتاب «التواطؤ عبر الأردن» 1988 لمؤلفه آفي شلايم الأستاذ بجامعة أوكسفورد: «فور صدور قرار تقسيم فلسطين كان هناك اتفاق مسبق وكامل بين الهاشميين والحركة الصهيونية، وكان جوهر الاتفاق أنه عندما يسري مفعول قرار التقسيم وينتهي الانتداب البريطاني على فلسطين فإن دولة يهودية (إسرائيل) سوف تعلن على الفور في الجزء المخصص لليهود بمقتضى قرار التقسيم. وأما بالنسبة للجزء المخصص للعرب فإنه ينضم إلى شرق الأردن بحيث لا يكون هناك داع لدولة فلسطينية تنشأ بين إسرائيل وبين نهر الأردن». (هيكل: العروش والجيوش. الجزء الأول).

    الجهل بالحقائق وغياب الديمقراطية والرغبة في الحفاظ على العروش روجت لمصطلح التطبيع، ولا يثير الدهشة في فضائيات محميات الخليج الأمريكية نشر صور لخريطة العالم العربي تتوسطها «إسرائيل»، بدلا من فلسطين. غاب المعنى، وتوارت اللغة الواضحة التي كان يتحدث بها شخص مثل حاييم وايزمان إلى تشرشل، يغريه بدعم مشروع «الدولة»، كشركة رأسمالية ستخدم أهداف الإمبريالية: «إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الإطلاق تبديدا للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر»، أما الإرهابي السابق يعقوب ميريدور الذي تولى وزارة التخطيط بين عامي 1982 و1984 فرأى أن إسرائيل تحل محل عشر حاملات للطائرات، كلفتها 50 بليون دولار، وأن أمريكا لو دفعت فائدة قدرها 10 بالمئة على تكاليف تشييد هذه الحاملات لبلغت الفائدة خمسة بلايين. «وقد كان الوزير متسامحا مع الولايات المتحدة فلم يذكر تكلفة الجنود الذين ستحملهم حاملات الطائرات أو الحرج السياسي الذي سيسببه وجود مثل هذه القوات». (عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الجزء السابع).

    أعددت مراجع ووثائق تعينني على استعادة لحظة النكبة وآثارها، فجاءت ذكرى الاحتفال بعيد تحرير سيناء (25 أبريل) فاترة، بعد جرح الكبرياء الوطنية خلال زيارة الملك سلمان لمصر، وما لحقها من آثار نفسية تذكّر بكامب ديفيد وسلوك أنور السادات التفاوضي الذي وصفه وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل في شهادته ـ كتابه «السلام الضائع في كامب ديفيد» بأنه «مذبحة التنازلات»، وكان صريحا في قوله لوزير الخارجية: «سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه‏». تحول الرئيس «إلى موظف في حضرة كارتر يتلقى تعليماته‏»، وحين يراجعه الوزير ينفعل، ويصرخ في حضور حسن التهامي وحسن كامل وبطرس غالي وأشرف غربال، قائلا: «وماذا أفعل إذا كان وزير خارجيتي يظن أني أهبل». واستقال الوزير يوم 16 سبتمبر 1978، عشية توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، تاركا مقعده شاغرا أثناء التوقيع‏، ويصبح ثالث وزير للخارجية يستقيل لأنه يرى العدو عدوا. أولهم إسماعيل فهمي اعتراضا على زيارة السادات للقدس، وثانيهم محمد رياض للسبب نفسه.

    الثلاثة يعرفون قدر مدرسة الدبلوماسية المصرية، ويملكون القدرة على النقاش والاحتجاج وشرف الاستقالة. وليس من أبجديات التفاوض أن يتبارى مصريون.. من صحفيين وأكاديميين ومحاربين متقاعدين ودبلوماسيين ووزراء سابقين وحاليين في استعراض قصاصات من خطابات ومكاتبات وخرائط، لإثبات أن جزيرتي تيران وصنافير غير مصريتين. القصاصات في مصر تطلق على «الفضلات»، ليس بالمعنى البيولوجي الفيزيقي، وإنما لوصف بقايا أطراف القماش الخام بعد استخلاص جوهره فيصير أردية تستر العورات، وتكنس الفضلات أو تودع في ركن قصيّ عرضة للغبار والحشرات، ولم نكن نعلم أن لها وظيفة دبلوماسية تطوعية يسارع إلى الاحتجاج بها حتى رئيس الجمهورية في محاضرته على ممثلي الشعب، يوم الأربعاء (13 أبريل 2016): «نستبيح أرضهم؟»، في إهدار لسلطة اللغة، وإنهاء الأمر: رفعت الأقلام.

    للمرة الأولى في التاريخ يتنابز مواطنو دولة بالخرائط لنفي أو إثبات حقوق ملكية دولة أخرى لأرض يكسوها علم بلادهم، ويرفع فيها اسمه. لم يخل الأمر من عبث ولوثة تستدعي السؤال عن كيفية إتاحة وثائق، بعضها سري للغاية، لدعم موقف تفاوضي لم تسع إليه الحجاز. تسريب وثائق في عجالة ليلية، حملة غير بريئة لتجهيز عروس، وإنهاء الزفة بليل، خوفا من فضيحة.

    في الأسبوع التالي لفتنة تيران (الأحد 17 أبريل 2016) اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي، للمرة الأولى، في الجولان. خطوة استباقية ذات دلالة لاستبعاد الهضبة السورية المحتلة من أي اتفاق مستقبلي بشأن سوريا. وقال بنيامين نتنياهو لمجلس وزرائه: «ستبقى مرتفعات الجولان تحت سيطرة إسرائيل إلى الأبد». «سيطرة» لا ملكية؛ إذ لم يحظ ضم العدو للهضبة التي لم يغاردها أهلها باعتراف دولي.

    في فلسطين المحتلة عانقت عجوز شجرة الزيتون، ولم تبال بالجرافة، تهون عليها روحها، ولا تحتمل المساس بكرامتها فتتخلى عن الشجرة والبيت خوفا من آلة العدو. فهل كان الوجود العسكري في تيران المصرية نوعا من الارتزاق، وبزوال الخطر نرد «الأمانة»، في إهانة بالغة لأرواح شهداء ليس بينهم سعودي واحد يفخر أهله بأن لهم تاريخا من الدماء والتضحيات فوق تيران؟

    لو أعدنا «الأمانة»، في هذا السياق المريب، فماذا نفعل في ذاكرة وطنية خلدت تيران، وجعلتها عابرة لذاكرة الأجيال؟ ذاكرة ثرية تشمل أغاني وشهادات محاربين قدماء وتصريحات لجمال عبد الناصر.

    ليس أقسى من قتل شهيد مرتين.

مقالات من نفس القسم