استنادا إلى هذه الأسئلة ستكون قراءتنا في مجموعة “ما لن تقوله شهرزاد” للمبدعة والقاصة المصرية فاطمة وهيدي.
تستند المفارقة في مجموعة “ما لن تقوله شهرزاد” القصصية إلى بنية التضاد التي تقيمها الساردة بين أفعال ظاهرة وأخرى خفية غير معلنة، أو بين رغبات ذوات معذبة وبين واقع خارجي يناقض الرغبة ويعاكسها. وما بين هذا التضاد تتولد المفارقة وهي تشكل بلاغتها السردية. وهي بلاغة تومئ وتشير دون أن تسهب في التفاصيل وفي شرح المراد أو القصد، كما نجد في نص “غيث”، تقول الساردة:
“نظرت إلى سقف غرفتها المتهالك،
لم يعد يزعجها صوته المتهدج كلما أزت الريح،
فقط.. تُواصل دعاءها لئلا يستجيب الله لقومها
الذين يقيمون صلاة الاستسقاء !” (ص.14)
هكذا تغوص الساردة إلى أعماق بطلتها لتكشف عن رغبتها في عدم سقوط المطر عكس ما يرجوه قومها الذين يقيمون صلاة الاستسقاء طلبا للغيث. ولعل الصورة التي ترسمها الساردة لسقف غرفة بطلتها تبين مأزق هذه الأخيرة، وخشيتها من عواقب المطر التي قد تعجل بسقوط السقف المتهالك عليها. وبهذه الشاكلة تقف الساردة عند حالة اجتماعية تجسد مفارقة الواقع وتناقض رغبات الفرد واختلافها عن تطلعات الجماعة غير الآبهة بمعاناته. وبهذه الكيفية تصنع المفارقة بلاغة سردية تصور توزع رغبات الناس واختلافها أمام أمر ما، كما هو الحال في هذه القصة إزاء المطر، وعلى هذا المنوال تصير المفارقة طاقة حيوية في تشكيل متخيل النص القصصي، ولعبة فنية تسهم بقدر فعال في بناء عوالم القصة وشحنها بلمحات تكثيفية بينة.
وتجسد قصة “زواج” المفارقة بين رغبة البطلة في الاحتماء بظل حائط بغية الشعور بالاطمئنان، وبين اكتشافها أنها تعلقت بمسمار صدئ يؤذي أكثر مما يحمي، فهو مسمار لا يمكن الاستناد إليه ولا الاعتماد عليه. وتصنع هذه القصة بلاغة سردها في لقطات سريعة، وجمل شديدة التكثيف تغلب عليها الأفعال:
“دخلت في الإطار مرغمة،
لتحتمي بظل حائط،
اكتشفت أنها تعلقت بمسمار صدئ !” (ص.60)
تكشف القصة عن مفارقة جلية بين رغبة الذات ورغبات الآخر/ المجتمع. إن البطلة في هذه القصة أُدخلت مرغمة إلى إطار المتزوجين علها تحتمي بدفء رجل، وتستند إلى قوته وحضوره، لكنها وجدت نفسها معلقة في مسمار صدئ هش يمكن أن يسقط في أية لحظة، أو بالأحرى هو مسمار جارح مؤذ أكثر منه مفيد. وبهذه الكيفية تصنع القصة إيحاءاتها الدلالية، كما تشكل سرديتها عبر المفارقة الساخرة. وهذه المفارقة تتولد من التضاد القائم بين رغبة الذات وتعارضها مع واقع الحال ورغبات المجتمع. وبهذه الشاكلة تؤثث الساردة عوالمها الحكائية وتبني بلاغة نصوصها “الكسيرة جدا”، باعتبارها نصوصا تجسد حالات الانكسار، وتهافت رغبات بطلاتها وأبطالها أمام ما يجري حولهم في الحياة.
وتتجلى المفارقة في تصوير تفاهة الحياة ووهم الإنسان المتشبث بها، اللاهث وراء سراب أحلامه في قصة “وهم”، تقول الساردة:
“ركض في ظل أحلامه اللاواقعية،
قبل أن يدرك انفراط عِقد أيامه،
تعثر بصره في خطوط جبينه،
توسل إلى الزمن ليعود،
عاجله أحدهم بطلب ترديد الشهادة.”(ص.53)
هكذا تُجمل هذه القصة رحلة عمر الإنسان في خطوط سريعة دالة عبر بلاغة سردية تقوم على التكثيف، وتجعل من لعبة المفارقة أساسا لتشكيل متخيلها، والإيحاء بدلالاتها. وبهذه الشاكلة نرى بطل هذه القصة -الذي هو الإنسان بشكل عام- يركض في ظل أحلامه/ أوهامه اللاواقعية، دون أن يعي انفراط عمره، حتى يرى علامات شيخوخته محفورة على جبينه، ليجد نفسه أمام الموت، وهناك من يطلب منه ترديد شهادة الوداع. بهذا الإيقاع السردي المتوتر، وبهذه البلاغة القائمة على المفارقة تجسد الساردة رؤيتها لحقيقة الإنسان، أو جوهر حياة الإنسان.
وإذا كانت القصتان الأولى والثانية اللتين تعاملنا معهما في هذه القراءة قد استندتا إلى التضاد بشكل جلي في بناء لعبة المفارقة، فإن القصة التي نحللها الآن لا تنبني على التضاد وتعاكس الرغبات بشكل سافر، بقدر ما تصور رحلة عمر الإنسان وتقف عند محطاته البارزة، ولكنها تومئ إلى تعارض رغباته مع واقع الوجود ومجرى الحياة إلى أن ينتهي إلى الموت. وبهذه الشاكلة نجد التضاد بين رغبات الأنا والواقع الخارجي ثاوية في صنع لعبة المفارقة في قصص المجموعة.
وتلجأ الكاتبة إلى تشكيل بلاغة المفارقة من خلال اللعب اللغوي وخلق التضاد الدلالي من خلاله، كما نلمس في قصة “سقوط آخر”، تقول الساردة:
“أغلقت “ليلى” شاشة حاسوبها بغضب،
عندما أدركت أن حرف “النون” لم يسقط سهوا
بعد أن قرأت خبرا عن ديوانه الجديد
على صفحة فيس بوك الخاصة به
والمعنون ب” مُجونُ ليلى” !” (ص.64)
عبر اللجوء إلى حذف حرف النون من كلمة “مجنون” تخلق الساردة مفارقة بين أفق انتظار بطلتها، وبين واقع الحال الذي عرفته من خلال عنوان ديوان “قيسها” الجديد الذي يعلن عن مجونها وعدم إخلاصها، لا شك، في حبه. وبهذه الكيفية تستند لعبة المفارقة إلى التلاعب بحروف اللغة لتوليد أبعاد دلالية رامتها الكاتبة ووقفت من خلالها على تناقض رغبات بطلة قصتها وحبيبها. وبهذه الشاكلة تصنع القصة سرديتها استنادا إلى لعبة المفارقة الساخرة، وعبر قلب حقائق تاريخية أدبية وتوظيفها توظيفا جديدا، كما نرى، هنا، في سياق تحويل كلمة “مجنون” إلى “مجون”، قصد رصد تحول قيمة الحب وتلاشيها في زمننا المعاصر، وربما صيرورته إلى لهو ومجون.
ولعل النص الأخير في المجموعة القصصية يزكي ما ذهبنا إليه من هيمنة لعبة المفارقة في تشكيل بلاغة السرد القصصي، واتخاذها أداة فنية أساس في بناء عوالمها الفنية، وإبلاغ رؤى مبدعتها. تقول الساردة في قصة “لم تكن فتاة أحلامه”:
” لم تكن فتاة أحلامه،
كانت فتاتَ أحلامه !” (ص. 74)
وهي قصة أخرى تؤسس مفارقتها استنادا إلى الفروق اللغوية/الدلالية أيضا. إن البطلة التي كانت تحسب نفسها “فتاة” أحلامه تجد ذاتها مجرد “فُتات” أحلامه، أو بالأحرى أضغاثها. تكتشف أنها مجرد هامش لا قيمة له في حياته. وتتميز هذه القصة بشدة التكثيف وقوة بلاغة تضادها التي تخلق مفارقة قوية ما بين مرغوب البطلة وقسوة الواقع من حولها، أو قسوة محبوبها الذي جعلها بقية من بقايا أحلامه.
انطلاقا من كل ما سبق نتبين أن المفارقة تؤدي دورا حيويا في تشكيل العوالم القصصية، والرؤى الفنية، وتسهم بقسط كبير في بناء السرد القصصي في مجموعة “ما لن تقوله شهرزاد” للقاصة المبدعة فاطمة وهيدي. وبهذا المنوال تقول القصة القصيرة جدا معاني كثرا في أقل كلمات ممكنة وعبر أداة فنية واحدة أساس، هي المفارقة. وعلى هذا المنحى تنجح الكاتبة في إيصال رؤيتها الفنية، وتبليغ أحاسيسها إلى المتلقي في إطار بلاغة قصصية يسيرة سهلة، لكنها عميقة الدلالة، كثيرة الإيحاء. وأكيد أن المجموعة توظف إمكانات فنية أخرى كثيرة، لكننا آثرنا أن نقف عند هذا الجانب الفني المتمثل في المفارقة تاركين للقارئ اكتشاف الجوانب الأخرى.