من خلال لغة مكثفة ومصوّرة، ينجح صلاح العارف فى رسم معالم شخصياته، يفتتح كل فصل بعبارة “موت أول/ ثان/ ثالث.. الخ”، وبجانبها نوع من أنواع قائمة الطعام ( الحساء/ المشهيات/ المحاشى/ الطبق الرئيس .. الخ) . تصبح السخرية جزءا من البناء، فها هم المهمشون يتحولون الى وجبات شهية، يلتهمهم الفقر والمرض، وتقتلهم الغربة والوحدة. الموت فى الرواية حاضر بقوة، وهو مجانى أحيانا، ولكن الحياة أيضا مستمرة، رغم أن هناك قوة غامضة (من أول الرواية الى آخرها) تستهدف هؤلاء الفقراء، وتريد أن تأخذ منهم كل شىء، وكأنهم قرابين أبدية، كتب عليها أن تتعذب حياة وموتا.
جلال إمام علوان هو السارد الذى يحكى عن حياته المغلقة: ولد فى تلك القرية التى يحتضنها الجبل، والتى غمرها السيل، فأجبر والده على أن يترك أسرته، ليذهب الى العراق، مع إرهاصات حرب الخليج الثانية. ترك الأب جنينا فى بطن الأم قوت القلوب، وترك رضيعا آخر، كما ترك جلال . جد جلال لأمه سيكون أول الموتى: ستلدغ حية الشر الجد وهو يقضى حاجته فى الخلاء. موت عبثى، وسفر وراء وهم، وغياب للأب لمدة 15 عاما، ولكن الأم قوت القلوب، تنجح فى إنقاذ الأسرة: جلال الذى كان يحلم بأن يكون طبيبا، يحصل بالكاد على بكارليوس الخدمة الإجتماعية، و شقيقه يدرس بالأزهر، و هناك شقيقة وحيدة لم يرها والده الغائب.
تؤسس هذه البداية لأجواء عامة يتكرر فيها الموت، وتظهر فيها الحشرات والزواحف والقوارض، وتسودها تقلبات الشتاء المناخية، ويتلقى فيها جلال رسائل غامضة من فاعل خير، يمنحه نقودا مقابل أن يؤدى له خدمات عادية، ثم تتحول الى أوامر بارتكاب شرور وأعمال غير قانونية. رغم هذه الأجواء القاتمة، إلا أن الرواية ليست منفرة على الإطلاق، ذلك أن الكاتب الموهوب، اصطنع طريقة ساخرة فى السرد، وأضاف شخصيات ظريفة، تعبّر عن روح مصرية عذبة، وبالتحديد فى ذلك البدروم الذى سيقيم فيه جلال، وسط أسر بائسة مهمشة، أى أن بطلنا سينتقل من هامش الى هامش آخر، ثم سيعمل فى هامش ثالث هى إصلاحية للأحداث، تتبع وزارة التضامن الإجتماعى، ويدير الإصلاحية بقبضة من حديد، رجل عنيف يتلذذ بتعذيب الجميع.
فى البدروم عالم كامل: نساء بائسات تحملن أسماء مبهجة وسعيدة، وشخصيات تهرب من واقعها من خلال الحشيش مثل شهبور النقاش، ومسعد الطبال، وأطفال بلا عدد محشورون فى حجرات مغلقة، وعاهرة بدينة تدعى إنشراح، ودورة مياه واحدة متداعية، وحشرات وزواحف تهاجم المكان من مقلب القمامة المجاور. فى البدروم ستنتحر نجوى ربما يأسا بسبب عدم الزواج، وسيعرف جلال جسد شقيقتها بهجة، وسيموت الطفل الوحيد لمسعد الذى لا يعرف سوى اسما واحدا لبناته الخمس هو منّة، ولكن مسعد سيواصل محاولة الإنجاب. لا يفقد الجميع حبهم للحياة، ولا تكاتفهم فى لحظات الأزمة، وينتظرون فى سعادة عطايا صاحب المكان سيد الصينى، تاجر الأدوات المستوردة من الصين، الذى ترك لهم البدروم ، وبنى فوقه عمارة هائلة، و لكنه لم ينسهم فى ذبائحه، ثم قرر أن يتزوج بهجة التى لم تعرف البهجة.
فى المؤسسة عالم آخر يمتلىء بنماذج رسمت ببراعة: مدير الإصلاحية الصارم، الأخصائية النفسية التى تختار مصلحتها الخاصة، إمام المسجد الذى يروض الرعايا فى اتجاه بوصلة السلطة، وأشكال وألوان من الأحداث تحت سن الثامنة عشرة. هنا أيضا سيظهر الموت والشر، بمقتل شاب من رعايا المؤسسة إثر مشاجرة مع اثنين من عيون مدير المؤسسة، أما جلال فهو مجرد موظف يؤدى عمله كأخصائى اجتماعى، ويستمع الى مشكلات القادمين من عالم الجريمة، أحدهم يبكى لأنه سيترك المؤسسة، يخاف من الشر فى العالم، ويثق أنه لن يستطيع أن يصمد أمامه.
أمران يدفعان الأحداث الى الأمام : تلك الرسائل الغامضة التى يتلقاها جلال محملة بالأموال والأوامر، والتى ستقوده فى النهاية الى تنفيذ ما يؤذى ويقتل تحت ضغط الحاجة، وعودة الأب بشكل مفاجىء بعد 15 عاما من الغياب، يعود صامتا مكتئبا ومعه صديقه المهندس عاصم .الاثنان قبضت عليهما القوات الأمريكية فى العراق بتهمة التجسس، ونقلتهما الى سجن بألمانيا، و لكنهما يحملان معهما سر دواء يعالج الشيخوخة، ابتكره عالم مصرى كان معهما فى المعتقل. رجال غامضون يزورون الأب الصامت، والمهندس الصديق يموت فى حادث سيارة، والأب يعالج من الإكتئاب، وجلال يواجه موتا جديدا مع مقتل العاهرة إنشراح، دون العثور على القاتل، يهتز جلال مما عرف وعاين وهو ما زال شابا، يبدأ فى مخاطبة ظلّه، ويعانى من الإكتئاب قبل أن يحصل على البراءة من دم إنشراح. فى الفصل الأخير فقط، نعرف سر الأب الصامت، الذى يكشف عن ذكاء وصبر ومكر ، أتاح له الإحتفاظ بسر الدواء المعالج للشيخوخة، وكأنه يتحدى الشر الذى يحاصر الفقراء، ومع ذلك، لا تتوقف تلك الرسائل الغامضة، التى تحمل المال، والأوامر بالقتل والموت.
هنا مزيج متماسك من واقعية مغلّفة برموز خرجت من قلب البيئة: الزواحف والحيات هى رموز الشر والموت، وسيتنوع ظهورها من تلك الحية التى لدغت الجد، الى ذلك الثعبان الذى كاد أن يقتل إحدى بنات البدروم فى دورة المياه، الى غزو الزواحف للبدروم من مقلب القمامة. جلال نفسه يستعير الفكرة فيقول بأن أسرته كانت تزحف وهى تكابد ظروفها. يرى بطل الرواية الشر فى كل مكان، وكأنه يتربص بمن يعانون أصلا من البقاء على قيد الحياة، ورغم سطوة الزواحف، فإن البشر يتحايلون على مواجهتها: الأب العائد من السجن، الأم قوت القلوب التى حملت معاناة الأبناء والمرض معا، مسعد وشهبور اللذان يختلسان السعادة القصيرة لاستكمال حياتهما الصعبة، وجلال نفسه الذى يتكيف مع ظروفه، سواء فى القرية أو فى المدينة، والذى يواجه فشل علاقته مع بهجة بواقعية، كما أنه لا يحلم أصلا بأن يتزوج من نيّرة ابنه المهندس عاصم صديق والده، لأنها من طبقة إجتماعية أعلى وأرفع.
يتدفق السرد فى الرواية مثل سيل لا يتوقف، يذكرنى صلاح العارف فى موهبته ببراعة الراحل خيرى شلبى فى وصف عالم المهمشين، وفى المزج بين الضحك والبكاء، هذه مثلا فقرة لطريقته فى تكثيف المعنى معلقا على انتحار نجوى : ” تسلقت الشائعات الجدران والأركان وعواميد الإنارة، وزحفت من تحت أعقاب الأبواب وفتحات الشيش والكوالين، وانهمرت من صنابير المياه، وخرجت من الحفر والشقوق والجحور، ومن عيون المواقد، و دخان السجائر، ورنين الهواتف، وحفيف الأشجار، وصرير الصراصير”، وهذه فقرة تجسد القدرة على الرسم الساخر للمواقف : ” حين عدتُ الى البدروم كان شهبور جالسا فى الرواق المتسع أمام حجرته كعادته بصحبة جاره مسعد الدقاق يحتسيان الشاى ويعبئان الردهة بسحب الدخان الأبيض المتصاعدة من احتراق المعسل فوق أقماع البورى الحجرية، دعانى مسعد أن أشاركهما وقائع اجتماعهما العالمى لمناقشة آخر المستجدات على الساحة الداخلية. كنت منهك الجسد والذهن وحاولت التملص منه بشتى الوسائل إلا أنه سارع كعادته بالقسم بأغلظ الأيمان، وبأن تمسى زوجته طالقا بالثلاثة حال انصرافى دون مشاركتهما تلك الجلسة الهامة، فأشفقت على زوجته وبناته من أن يقع يمين الطلاق فى حقهن دون ذنب اقترفنه فى حقى، رغم ما كان سينطوى عليه ذلك من خدمة جليلة لهن جميعا، وهكذا جلست معهما مرغما ومنهكا ينتقل مبسم البورى فى أفواهنا فى سلاسة وديناميكة متواصلة دون توقف، أتناوله من يد مسعد لأحشره فى فمى، قبل أن يتناوله شهبور من يدى ليدفنه فى فمه، ومن ثم الى فم مسعد فى تناغم تام مع ما يسرده شهبور من ذكرياته الخاصة، تلك التى لايبوح بها إلا لأصدقائه المقرّبين من الكبار فقط ، كتفاصيل ليلة زفافه الى زوجته الثالثة، بالوصف التفصيلى المقترن بالحركات التمثيلية، والمؤثرات الصوتية، التى تضفى على حديثه رونقا وإثارة خاصة” . ساهمت هذه الطريقة المكثفة والساخرة فى إنقاذ الرواية من الملل والترهل، أو من أن تتحول الى بكائية منفرة. من الملاحظ أن المؤلف لم يستخدم الفصحى فى الحوار إلا مرتين فقط فى كلام الأب إمام علوان والد جلال، وفى المرتين كان الأب فى موقف شموخ القدرة على الفعل، سواء باتخاذ قرار السفر لإنقاذ أسرته، أو بكشف سر احتفاظه بالدواء النادر. استخدام الفصحى فى الحالتين منح الموقف بعدا أسطوريا، يتجاوز الواقع، وكأن الأب بطل ملحمة لا تنتهى، فى مواجهة الفقر والموت والغربة والزواحف، وغضب الطبيعة، وشرور الحياة.
“وجبة شهية للزواحف” رواية جيدة مثيرة للإهتمام والتأمل، لعل أجمل معانيها هى أن إرادة الحياة تنتصر حتما، رغم الموت والشر، ورغم أن الشياطين ما زالت فى كل مكان.