لم أتمكن طبعا من طلب المساعدة، فلا أحد يراني.. أصلا لا أحد يذكرني
أقف أمام أمي بينما هي منهمكة تماما في طي الغسيل، تنظر لقطعة منهم باستغراب لا تعرف لمن تعود ولكن بسبب انشغالها الدائم لا تعر للأمر انتباها كثيرا، إذ ربما نسيتها إحدى بنات خالاتي، أمر أمام أختي وهي تداعب طفلها فتتعجب لمن يضحك هكذا! هي تتذكر أنه لم يكن يضحك بتلك الطريقة إلا مع شخص معين.. من هو؟ لا تتذكر، ولكنها تتغاضى عن الأمر سريعا.
زملائي في العمل يمارسون حياتهم بشكل طبيعي جدا، لم يشعروا بغرابة عدم وجودي إلا عندما تكدست المهام التي كنت أقوم بها، وقتها فقط توقفوا ليسأل كل منهم الآخر.. من كان يقوم بتلك الأشياء إذا؟!! ولكن إعلان صغير في موقع توظيف كان كفيل بإنهاء المشكلة.
في البداية كان الموقف مخيفا جدا، لم أكن قادرة على فهم ما يحدث ولا توقع النتائج.. ليلتان من البكاء المستمر، تخيل كيف من الممكن أن يكون بكاء روح وحيدة بدون جسد أو ذكرى، الأمر أشبه بغليان الماء، هل تخيلت من قبل كيف تشعر قطرات الماء عندما تتحول لبخار لا يمكن أبدا احتواءه، فيتشتت كل جزء منها في اتجاه ويتنهي وجودها كما تعرفه.
البكاء يستنزف الروح وأنا الآن لم يبقَ لي سواها، توقفت عن البكاء عندما تيقنت من هذا بعدها بدأ الأمر يتضح.. لماذا أصلا كنت أبكي.. فهذا ما تمنيته دائما وقد تحقق أخيرا.
الآن فقط سأتمكن من متابعة حياتي دون القلق من مراقبة الآخرين، لن أحمل هم الأثر الذي سأتركه ورائي ولا نتائج تصرفاتي، لن أقضِ وقتا طويلا مترددة بين أمرين لأقرر أيهما الأصوب، ببساطة سأجرب ما أريد، هذا ما اقنعت به نفسي لأهدأ.
بدأت خطتي بالسفر، طفت كثيرا حول العالم وكانت النوبة هي مكان استقراري عندما أمل، حضرت كل الحفلات التي كنت أريدها دون القلق من موعدها المتأخر ولا ثمن التذكرة الذي لا يتناسب مع الميزانية، والتحقت بالعديد من الدورات لتعليم اللغات؛ فرنسي وإسباني وإيطالي وهندي وصيني وهيروغليفي.
أكتر الأمور إبهاجا على الإطلاق، أنني تمكنت من مراقبتك عن قرب دون الحاجة لإبداء مبررات سخيفة، كنت أراقبك بينما تعمل كما أحب، وأجلس إلى جانبك وأنت تشاهد فيلمك المفضل غير مبال بأختك التي تصرخ فيك لتخفض صوت التلفاز قليلا، أعرف أنك تحب مشاهدة أفلامك المفضلة بصوت عالي كي لا تفوتك التفاصيل، دائما ما تهتم بالتفاصيل يا عزيزي.
تمكنت من اكتشافك عن قرب، وتيقنت إذا كنت تستحق كل انتظاري لك، إذا كنت حقا تستحق وجودي.
أما عن أكثرها قسوة، فكانت تلك المواقف التي احتجت فيها لجسدي للدفاع عن حق، عندما لم أتمكن من دفع يد هذا الأب لما رفعها عاليا ليصفع طفله الصغير، عندما عجزت عن احتضان أدهم وتقبيله وهو يجرب شيئا جديدا بدأ في تعلمه، عندما لم اتمكن من مواساة أمي بعد يوم طويل مرهق.
لكن هذا العجز القاسي مكنني من التدرب على استغلال إمكانياتي الضعيفة كروح، فمثلا أصبح بإمكاني دفع حفنة كبيرة من التراب في وجه كل شخص مؤذي بعدما كونت صداقة قوية مع جزيئات الهواء، كما أصبح بإمكاني الاحتفال بأدهم عندما تعرفت على قدرة الأرواح الصادقة على تبادل الأحضان، وأصبحت أهادي أمي بضمة صغيرة من الورود التي عرضت خدماتها عليا طوعا بعدما تعرفنا عن قرب.
الأغرب حقا أنني استعدت وزني كاملا بعد فترة، بعدها ظل الناس يخبرونني أنني أصبحت خفيفة كريشة.. صافية كروح لم تعرف الوجع، وبقيت أنا أكتب عن الفوائد العظيمة لفقدان الوزن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية