رواية “الصنم” لأشرف الخمايسى.. سيرة إنسان مختلف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يمكننا أن نتحدث بثقة عن نموذج ناضج للرواية القصيرة (النوفيلاّ) من خلال رواية "الصنم" لأشرف الخمايسى التى صدرت طبعة جديدة لها مؤخرا عن دار الربيع العربى. 

أرهصت الرواية عند صدورها لأول مرة فى نهاية التسعينات عن ملامح مشروع الخمايسى الروائى، الذى استأنفه وعمّقه فى أعمال تالية مثل “منافى الرب” و” إنحراف حاد”. صار واضحا الآن أن هاجس الإختلاف والتفرد الذى يشعر به أبطاله، يجعلهم مستعدين أكثر من غيرهم لفكرة المعجزة، إنهم مفارقون شكلا وموضوعا للمجتمع الذى يعيشون فيه، والذى يكون فى الغالب شديد التقليدية والعادية والرتابة. من هذا الجدل بين العادى/ التقليدى،  والمختلف/ الخارق، ينشأ ذلك الصراع العنيف الذى تحفل به أعمال الخمايسى، ويصبح حلم الخلود جديرا بالمحاولة، بل لعله الجائزة التى يستحقها كل مختلف، حاول فلم ينجح، أو حاول وتعذب. وكأن الخمايسى يبحث عن برومثيوس مصرى يسرق النار، ويخوض التجربة بكل آلامها، لعل شيئا يتغير فى حياة مألوفة، ومتجمدة عند درجة الصفر.

يدهشنا بالفعل أن خطوط هذه الملامح تبدو واضحة فى رواية “الصنم”، والتى ليست فى جوهرها إلا تحية مفعمة بالحماس لفكرة الإختلاف والإستثناء بين بنى البشر. مرز بطل الرواية يتكلم فيها كلمات قليلة، ولا نراه إلا من خلال عيون السارد الذى ينتمى الى  أهل قرية مثل آلاف القرى، ولا نراه أيضا إلا من خلال تعليقات أهل القرية الساخرة. من أول الرحلة، يترك الخمايسى وصف الإستثنائى لأشخاص عاديين، فتتزايد دهشتهم بسبب أعمال غير مسبوقة يرونها، ولن يتحدث مرز ( صاحب الاسم العجيب والمختلف) إلينا مباشرة، إلا فى ظهر الغلاف الأخير، يخترق سحابات الغيب، ويفتخر بما سخر منه العاديون فى الرواية، ويعتبر نفسه قديسا وعظيما، ويطلب الصلاة ل “جوهرة” زوجته، وحبيبة عمره التى عشقها بجنون.

تحقق هذه الطريقة فى السرد من خلال العادى، والتعليق من خلال الإستثنائى، فكرة العمل المحورية فى استمرار الصراع بين الطرفين حتى النهاية. العاديون يعتبرون مرز عبيطا أو مختلا، أما هو فيرى نفسه خالدا ببصمته وسيرته وأعماله الخارقة، بل إنه يتكلم من الغيب، بعد أن دفنوه فى الترعة، إثر موته. سنكتشف بوضوح أن القرية لم تكن تستحق الذكر، لولا ظهور هذا الإنسان الخارق فيها، وأنها على الأرجح قد عادت الى حياتها الرتيبة إثر موته.

مرز هو أول انسان نزل من القطار على محطة قرية لايهبط إليها أحد، ولايركب منها أحد. مجرد مكان مهمش ومنسى. اختار الطفل مرز أن يعيش فيه، لا نعرف بالضبط من اختار له الاسم، لأنه ظل صامتا لايرد على أحد، وظل مقطب الجبين، ومثيرا للتعاطف. لم يكن أخرس، ولكنه كان منذ البداية حتى النهاية إنسانا مختلفا.

السارد ابن القرية المهمشة يأخذنا فى رحلة لاكتشاف عجائب مرز الذى نطق لأول مرة فى حياته، لكى يطلب أن يتزوج من الجميلة جوهرة، التى أراد والدها أن يقتلها، لأنها رقصت عارية أمام القرية، فى ذروة نشوتها. جوهرة التى تبدو أيضا مختلفة، هى العروس المناسبة لذلك الغريب الآتى الذى كسر المألوف دائما: يتعرض للضرب والإهانة، فلا يرد على العنف بالعنف، ولكنه يغيب عن القرية، ثم يعود حاملا معه كمنجة يعزف عليها. يعمل فى زرع الآخرين مقابل المال، ويعاون فى الأفراح والمناسبات، ويشارك فى حفر القبور، أما أرضه الصغيرة، فلا يزرعها إلا بالورود. يبدو عجيبا كلاعب للكرة يتعمد التصويب خارج المرمى. ونجح بالحيلة والجهد فى القبض على القرموط الضخم الذى اعتدى على الدواب والدواجن فى الماء. مرز كان مختلفا أيضا فى التعامل مع زوجته، يقبلها ويضاجعها وسط النخيل. لا يصلى ولا يصوم، ومع ذلك يستجيب الله لدعوته. غضب يوما من أحدهم، فدعا عليه بأن تدوسه طائرة، وهكذا كان: طائرة رش المبيدات هبطت فأطاحت بأعواد القمح، وانحرفت لتقتل غريمه الواقف فى حقله! صار مرز عنوانا على كل ما هو خارق أو استثنائى، يسخرون منه، فيشتمهم، ولكن كراماته لا تتوقف.

عندما تموت جوهرة، لايفوت الأمر من دون تصرف استثنائى لمرز، إنه يستعيد جثتها، ويحنطها أمام بيتهما المتواضع، يناديها فتبدو كما لو كانت تسمعه، ثم تستيقظ القرية ذات يوم على مشهد أكثر غرابة: تلك الصخرة الهائلة التى كانت تحجب الشمس عن أهل القرية، تحولت الى تمثال هائل، نحته مرز لحبيبته الخالدة جوهرة، الشمس أصبحت تظهر من خلف ذراعها، وابتسامتها تثير الدهشة، وأصواتها مسموعة من مسافة بعيدة. مرز لا يترك أمرا دون بصمة، تصاحبه المعجزات لأنه مختلف، أما أهل القرية، فلا يجدون تسمية للتمثال الخالد إلا كلمة “الصنم”، العاديون لا يفهمون، العاديون لا يستطيعون أن يعرفوا ما وراء الرجل، الذى غيّر حياة القرية الى الأبد.

حتى فى الموت كان استثنائيا، تمدد مرز على ضفاف الترعة، فاردا زراعيه مثل مسيح مصلوب، لم يصدق العاديون أنه ميت، تركوه، حتى تعفن فى مكانه، اكتشفوا أنه مد جذوره فى الأرض، وكأنه يضع بصمته فى بلدتهم الى الأبد، لم يجدوا وسيلة لدفنه، إلا بإلقائه فى الترعة. مات مرز لتولد قصته الخالدة، حكاية إنسان مختلف، عاش كما أراد، يحب الناس، ويساعدهم، ولا يمتلك إلا جوهرة اسمها العشق، يحمل وردة وكمنجة، ويخلّد نفسه بأعماله التى سكنت الذاكرة، عاش ومات متفردا، وترك سيرته فى الماء والهواء والشجر، وفى تمثال يعيد بعث حبيبته من قلب العدم، وينقل الشمس الى الساكنين وراء الصخور.

فى رواية “الصنم” معظم الأفكار التى طوّرها الخمايسى فيما بعد: فيها الحب كطوق نجاة من اغتراب الشخص الإستثنائى وسط محيط تقليدى، فيه المعجزات التى لا تليق إلا بأصحاب الأسئلة المختلفة، وإلا بالنماذج الإستثنائية، وكأنهم تنويعات على برومثيوس الذى لا يقنع بالمألوف، مهما كانت النتائج، وفى الرواية أيضا حلم الخلود، خلود سيرة مرز، ومحاولته تخليد جوهرة بتحنيطها، ثم تخليدها من جديد بتحويل الصخرة الهائلة، الى تمثال ناطق لجوهرة.

ما كان ممكنا أبدا التعبير عن هذا الجدل بين قسوة الواقع العادى، وبين روعة السحرى والإستثنائى، إلا بلمسات واقعية وسحرية معا. لا ينس الخمايسى أبدا أنه حكاء وسارد،  لاتعلو الفكرة أبدا عن الفن، وهو  يمتلك أمران يحققان له ما أراد: شخوص ومجتمع يعرفه جيدا، ولغة مصورة سلسة وموحية، لا إسهاب فيها ولا تقصير. تستطيع أن ترى فى رواياته المكان بكل ألوانه وتفاصيله، ويمكنك أن تلمس البيئة بكل عناصرها، أن تشم رائحة المنازل والحقول. مفردات القرية عموما محدودة، ولكن مع موهبة مثل أشرف الخمايسى، فإنها تأخذ تنويعات لا حدود لها، بحيث يبدو القمر، وتظهر الشمس، كشخصيات مؤثرة، لا تعمل على خلق الجو فحسب، بل إنها تساهم فى التعبير عن كل مشهد، فعندما يضاجع مرز حبيبته جوهرة يحمرّ الأفق ، و” يتشكل مثل فراشة عملاقة قانية، واقفة على ستارة نارية هادئة”. الطبيعة فى أعمال الخمايسى جزء أصيل من البناء، وليست مجرد صور منفصلة من أجل استكمال صنعة السرد، الطبيعة تشهد على أبطاله، وتشارك فى أحلامهم، أو فى خيباتهم.

أول ما يخطر على بالك، بعد أن تنتهى من قراءة “الصنم” أن القرية هى التى تستحق هذا العنوان، وأن مرز ليس عبيطا، بل إنه أحد أنبياء التغيير والإختلاف، الذين أصروا على سرقة النار، فدفعوا الثمن سخرية وعزلة. مرز لم ينجب من جوهرة، لقد فعل ما هو أكبر: ترك بصمة، وغرس جذورا، وزرع وردا، وعزف لحنا، وسقى ضيوفا، وحفر قبرا، واصطاد شرّا، ونحت تمثالا، وجعل سيرته أطول من عمره، ورغم أن السارد  يسخر منه أحيانا، إلا أننا لن نتذكر من القرية كلها إلا مرز.

معجزة مرز الحقيقية أنه حافظ على اختلافه رغم أنف القطيع، معجزته أنه لم يكن يتكلم إلا عند الضرورة، وأنه أدرك أن الحياة بدون عشق، لاتستحق أن تعاش، ولذلك لم يبق له بعد موت جوهرة، سوى أن يرحل، مثل مسيح، لم نعرف أبدا، من أين أتى .

مقالات من نفس القسم