حاول البعض خلق رواية متماسكة تشبه في جدليتها جدلية “أولاد حارتنا” من خلال البحث عن معان محددة لأسماء جبريل وحياة وحبيب الله ويحيى والبحث عن معنى لسقوط التفاحة والشمعدان وانحناء جبريل لفريدة صاحبة الموهبة والقدرة غير العادية.. لكن داوود لا يقصد ذلك. داوود يقصد الألوان والصورة والكتل والحركة، الفيلم لوحة تجريدية لا تطرح أجوبة بل أسئلة، بالأحرى الفيلم لا يسأل الأسئلة لكنه يحرض المشاهد على طرح الأسئلة، لذلك فإن مونولوج يحيى، وحياة ليس مونولوج يشرح الصورة، أو يعلّق على الصورة، لكنه مونولوج ينقل في نبرات صوته طاقة الشخصية المرسومة أمامنا على الشاشة بعناية شديدة، فمنذ اللحظة الأولى وقد وقعنا في حب الطفلة والأم .. فريدة وحياة، ليس لجمالهما، وإنما لإحساسنا بقربهما منّا، حالة حميمية نقلتها الصورة قبل التمثيل، والمونتاچ قبل الكاستينج..داوود مخرج له قدرة فائقة على صنع الصورة من كل القدرات التمثيلية حتى مع تواضعها.. فهو يجيد استخدام أدواته السينمائية جميعاً دون أن يضع لأحدها الأولوية، بل قل أنه يغيّر من أولويات الأدوات وفقاً لقدرتها على تفعيل وظيفتها. بمعنى أنه قد يستخدم ممثلاً متواضع الإمكانيات، فيجيد القطع، ويجيد العمل بالصوت، ويجيد تجنب الأحرف الحادة حيثما يضعف الأداء، أو أنه يجيد استخدام الممثل الجيد بفرد مساحة للكاميرا والحركة واستخدام أقل لمؤثرات أخرى.
البطل في فيلم داوود هو الفكرة، والفكرة عند داوود هي الصورة.. جمال الصورة، وقدرتها على تحريك المشاعر، تحريك الأسئلة. إننا في فيلم داوود أمام قدرة غير عادية للإنسان أمام قوانين الفيزياء.. وما هي قوانين الفيزياء؟ إنها ذات القوانين التي منعتنا من الطيران، ومنعتنا من الخيال، فتحايلنا عليها وأصبحنا نطير بل نغزو الفضاء، وأصبحنا نتواصل مع أحبائنا في أقصى نقطة من بقاع العالم في نفس اللحظة الآنية، إننا نقهر قوانين الفيزياء كل لحظة بوجودنا الافتراضي في عالم الإنترنت الذي نفتحه مع فتح أعيننا في الصباح. وما صنع هذا كله سوى الإنسان وعقله المبهر المدهش القادر على كل الأشياء: القادر على البحث عن القدرات غير العادية (يحيى)، والقادر أيضاً على استغلال تلك القدرات غير العادية في المقامرة (حبيب الله)، أو في الحصول على معلومات في قضايا أمن (عمر).
حتى الحب عند داوود عبد السيد صورة أكثر منه أي شيء آخر، فحياة هي امرأة تشبه في نسب جمالها وقوامها جمال التماثيل الإغريقية، وملامحها أيضاً تقترب في وضوحها من ذلك، وعلاقتها بيحيى علاقة جنس تبدو عابرة، لكنها عميقة تسحرنا بتفاصيلها المقتضبة، وتستمر معنا أملاً حتى النهاية، إن أغلب اللقطات عند داوود عبد السيد تصلح لكي تكون لوحات تشكيلية، فلوحة السيرك بألوانه المتحرك على شاطئ البحر، ولوحة البنسيون الذي يجتمع فيه أبطال الفيلم بألوانه البيضاء والزرقاء والبيانو القديم الموجود داخل البنسيون، ولوحات حياة وقد أسدلت جزءاً من رداء أحمر أو أبيض على ظهرها أو على كتفها.. كلها لوحات تشكيلية رائعة الجمال، تغرقنا في عالم داوود عبد السيد المدهش غير المرتبط بأي عالم سينمائي آخر، بصمة مرئية واضحة تدركها من الكادر الأول، طاقة يضعها داوود في كل التفاصيل، التي تقترب أحياناً من الرمزية لكنها لا تمسها، وتدعونا نحن المشاهدون لإيجاد توازياتنا الخاصة جداً (كل على حدة)، وطرح أسئلتنا الخاصة جداً، ورسم هياكلنا الخاصة جداً، وتتبع الجمال أينما كان.
إنها القدرة غير العادية على الجمال، رؤيته وتتبعه وخلقه.. قدرة يمتلكها داوود عبد السيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد وكاتب مصري