مرآة أم نافذة.. واقِع أم وجهة نظَر؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وئام مختار

في مركز الصُورة المُعاصرة بوسط البلد في القاهرة، توجد قاعة صغيرة، تم تجهيزها في هذا اليوم للاحتفاء بأول كتاب باللغة العربية يحكي عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي، قد يبدو العنوان للوهلة الأولى مُتخصصاً، لكن مشهداً في بساطة جهاز اللاب توب على منضدة الكاتب والمصوّر ياسر علوان، بجانبه كاميرا فيلم، ونظّارته الطبيّة، أنبئني أن الأمر سيكون بسيطاً وجميلاً.

بدأ ياسر علوان، الذي يدرّس التصوير في الجامعة الألمانية في القاهرة، في التمهيد للكتاب، بأسئلة بسيطة، عارضاً بعض الصُور الفوتوغرافيّة لعدّة تفاحّات، تفاحة عاديّة، تُفاحة مقضومة، تُفّاحة Apple الشهيرة، تٌفّاحة تقطّعت على شكل خريطة العالم، سائلاً الحضور: هل اختلف انطباعك عن الصورة؟ هل وصلتك معلومة؟ هل كوّنت انطباعاً؟

بنفس السلاسة والبساطة، يبدأ كتابه عن التصوير الفوتوغرافي، قائلاً "لقد كانت كل قراءاتي بالإنجليزية والفرنسية، حيث توجد آلاف الكتب العلمية والفنية والنقدية والتاريخية والتقنية عن الفوتوغرافيا، مقارنة بمكتبة عربية فقيرة جرداء في المجال نفسه، فلا يوجد في مصر كتاب يشرح ببساطة للهاوي، ولا حتى للمحترف الفرق بين أنواع الصور الفوتوغرافية وتطوّر الفوتوغرافيا عبر التاريخ وكيفية استخدامها وارتباطها الوثيق بالمُجتمع"، ويُشير إلى أننا دائماً نرى ما تعكسه الصورة، وننسى الصورة ذاتها "وفي كل مرة ننظر فيها إلى الصورة الفوتوغرافية، نجد أنفسنا نتحدث فقط عما تعكسه، في حين نتجاهل الصورة كوسيط، وكأن الصورة هي الواجهة الموضوعّية المُطلقة لهذا العالم وأمام هذا السِحر الذي تقدمه الصورة لا حول لنا ولا قوة".

هل يتطابق عالمنا مع الصور؟

إذا كانت الإجابة بالنفي، نصبِح في حاجة إذن لتوضيح وتعريف طبيعة هذا الوسيط المسمى بالصورة، ففي وسط عالم يتم صناعة 10 مليون صورة يومياً فيه بفضل الكاميرا الرقميّة، لابد أن نتوقّف قليلاً ونسأل أنفسنا عن هذا السيل من المعلومات أو الانطباعات، نمارس فعل "الرؤية" بمعنى قراءة الصورة، ما يفهمه الرائي منها، هذا ما يُظهر الفرق بين أنواع التصوير المُختلفة والسياقات التي التقطت فيها هذه الصورة.

يستعرض الكاتب أنواع التصوير الفوتوغرافي الثلاثة الصحافي والتوثيقي والحديث، في الفصل الأوّل، وفي الفصل الثاني يتعرّض إلى صورة مصر، وفي الفصل الثالث يسرد أوّل ستين عاماً من تاريخ الفوتوغرافيا، وفي الفصل الرابع وهو بعنوان الإنصات إلى الصورة، فإنه يسرد تجربته الشخصيّة مع التصوير في مصر، ويسرِد في الخاتمة عن الحسن بن هيثم واختراع "القمرة"، ويُنهي الكتاب بمُلحق فتوى الشيخ محمد عبده بشأن الصور.

يقول ياسر علوان، أنه لا يمكن إنكار عامل الحظ أو الصدفة في الفوتوغرافيا، لكنه لا يرى عيباً في المصادفة بأن تكون هناك كاميرا في المكان واللحظة المناسبين "وهذا من جمال الفوتوغرافيا، وليس عيباً"، لكن ليس معنى هذا أن نتاج الفنان المصوّر خارج سيطرته، فهل أعمال ديانا أربس الفنانة الشهيرة التي صنعت أكثر من مائة بورتريه في حياتها، كان كل ذلك نتاج ضربات الحظ؟.

الكتاب ملئ بالحقائق والمعلومات المُدهشة عن الفوتوغرافيا وبداية استخدامها في أنحاء العالم، لكن إحدى أهم المعلومات هنا، هي أن تصوير الحروب بشكل مُنتظم بدأ منذ حرب القرم (1853-1855) حيث سافر روجر فنتون مع مساعده من بريطانيا إلى مدينة بالاكلافا على البحر الأسود بتكليف رسمي من حكومته التي كانت طرفاً في الحرب لتصوير أحداثها، حاملاً معه كل مستلزمات التصوير بما فيها عربة يستخدمها كمخزن وكمعمل للتحميض.

 

يتنقّل علوان بخفّة بين أنواع التصوير، من خلال أمثلة مصوّرة في الكتاب من حرب فيتنام، من خلال الصورتين الشهيرتين الأولى لإعدام أسير مُكبل بالأغلال برصاص قائد الشرطة المتحالفة مع الجيش الأمريكي والثانية صورة أطفال يهربون من قصف أميركي بينهم طفلة عارية احترقت ملابسها بقنابل النابالم.

صورة

يناقش ياسر علوان ماهية الصورة الفوتوغرافية فيقول إنها من صنع الإنسان "ولكي نفهمها من الضروري أن نسأل كيف وصل المصور إلى المشهد الذي صوره ولماذا؟ وما هي الوسيلة التي نقلت لنا الصورة؟ مع الإجابة على مثل هذه الأسئلة نبدأ في فهم أبعاد الصورة الصحفيّة. فمعناها لا ينفصل عن هذه الارتباطات."


ثُم يذهب إلى التصوير التوثيقي فيقول إن المصوّر هنا لا ينقل أخباراً في الأغلب ولكن تحقيقات أو وجهة نظر، وعمله يكون عادة بدون استعجال وبدون تدخل تحريري وخارج إطار المؤسسات الإعلامية، وهنا يعرض أعمال ديانا أربس الشهيرة من نفس الفترة من تاريخ أمريكا.

أما التصوير الحديث فيبدأ بمناقشته من خلال صورة "فنيّة" مُركبّة لبانكسي، كيف أن تأثير الصور انحسر منذ ستينيات القرن الماضي وأن الحداثة وجدت طريقها إلى هذا الفن أيضاً. فأعاد مصورون إنتاج صور شهيرة ليضيفوا إليها معاني أخرى قد تكون سياسية وقد تكون ساخرة، أو محاولة أخرى لإيجاد نواحي إيجابيّة.

في الجُزء الخاص بفهم أبعاد الصورة، يقول ياسر علوان، أن الصورة الفوتوغرافيّة " تسجّل لحظة ما وتحولّها إلى ماضٍ فوراً ولكنها لا تحذفها خارج التاريخ وإنما تجعلها جزءًا منه." وهذا التراكم هو الذي يُساعد في تكوين صورة الشعب عن نفسِه، وصورته الخارجيّة أيضاً، والصورة التي يُريد أن يشاهدها.

ولقد قال المصوّر الأمريكي لويس هاين في سياق أن الصُور قد يتم التلاعب بها لإيصال أفكار معيّنة أن" الصور الفوتوغرافية قد لا تكذب ولكن الكذّابين قد يلتقطون صوراً"، وهنا تأتي أهميّة فعل "الرؤية" الذي يشرحُه علوان لاحقاً بقوله "هذا الأمر يخص العين فحسب لكّن الإنسان هو الذي يرى، وليس عينه، معنى أن يرى الإنسان أن يمارس فعل الرؤية لا أن يكتفي بالاطلاع على الشكل، وإذا كانت الصورة جميلة شكلاً، لكنّها بلا مضمون، فإن جمالها يظل سطحياً، ما هو مضمون الصورة إن لم يكن رأي الفنان وطبيعة علاقته بالموضوع المصوّر المطروح؟"

ويخصص فصلاً بأكمله، ليتحدث عن صورة مصر في الفوتوغرافيا عبر التاريخ، وصولاً إلى عصرنا الحديث، فيسرد قصة المصوّر ماكسيم دو كامب الروائي والشاعر والصحفي المتحمّس، الذي جاء بتكليف رسمي من الحكومة الفرنسية عام 1849، لتصوير الآثار المصرية، ويتعمّق في تفاصيل الرحلة، ليحلّل الصور التي خرجت منه، وعلاقته بالحاج إسماعيل مرافقه المصري في الرحلة، وبموضوع التصوير، وبرؤيته للتصوير في حد ذاته، "فالصورة نتيجة أو قد نقول أثر للعلاقة أو التواصل من عدمه بين المصوّر ومن يصوّرهم."

وينطلَق من هنا لمؤسسة ناشيونال جيوجرافيك والتي كان تأسيسها منذ عام 1988، ومنظورها الفوتوغرافي لمصر، فيقول إن موقع ناشيونال جيوجرافيك الإلكتروني يظهر لمصر طبيعة صحراوية وشريط النيل والمعمار الإسلامي والفن الفرعوني والأهرام والمعابد والتحف الخاصة بحضارة مصر القديمة. وبرغم أنها بجودة عالية من الناحية التقنية إلا أنها ترسم لمصر صورة لا علاقة لها بالوقت الحاضر، فمصر "تنفرد من بين بلاد العالم في تاريخ الفوتوغرافيا بأن صورة الماضي كثيراً ما تحجب صورة الحاضر، ورغم أن صور الأثار والأنماط المصرية لها مكان مركزي في تاريخ الفوتوغرافيا إلا أن الشعب المصري مهمّش تماماً في هذا التاريخ"

تاريخ الفوتوغرافيا التفصيلي في أوّل 60 عاماً، يحتّل فصلاً هائلاً ودقيقاً من هذا الكتاب، في جُمل قصيرة ولُغة بسيطة ومُدهشة، يسرد ياسر علوان تاريخ صناعة الكاميرا الأولى وتطوّرها، وتطوّر استخدام التصوير في أنحاء العالم في نفس الوقت، مجهود هائل في التدقيق والجَمع، وتداخل التصوير مع الأدب والطِب والهندسَة والفلك وسائر العلوم الأخرى، أوّل ظهور لقضايا الملكيّة الفكريّة، وأوّل ظهور لفكرة معاملة الصورة على أنها نوع من الفَن.

في "الإنصات للصُورة" وهوَ الفصل الرابع والأخير، يستعرض ياسر علوان تجربته الشخصيّة مع التصوير في مصر، البورتريه وغيره، وهوَ امتع فصول الكتاب، فالرجل الذي مر عليه عشرين عاماً من" لا يمكنني حصر عدد المرات التي قال فيها أفراد له في مناطق شعبية مختلفة من القاهرة كالوايلي وشبرا الخيمة ودار السلام والبساتين وحلوان "ما تروح تصوّر الأهرام يا عم". لم ييأس، واستمّر في محاولات التصوير في الشارع، وفي الأحياء الشعبيّة، مواجهاً احتمالات التعدّي أو المنع من مواطنين عاديين، فقط لأنه لا يصوّر اماكن سياحية أو أفراح، فلابد أن دوافعه مريبة أو جاسوس.

ويعرض صوراً لثلاث كراسي، التقطها أثناء جولاته في الأحياء الشعبيّة، الكراسي الثلاثة تم صناعتها بمعايير مختلفة عن الكراسي التقليديّة، فقط لتؤدي غرضاً يومياً منها، يخص صاحبها فقط، إلا أن التقاط صورها بكاميرا ياسر علوان أعطاها بُعداً آخر، فبالنسبة له على الأقل كانت تدل "على الإبتكار والإبداع الذي ينبُع من ظروف صعبة، لم تسمح بشراء كرسي في حالة جيدة، تربطها علاقة وطيدة مع من صنعها أو من يملكها، هذه الصور تهدف إلى تغيير وجهة نظرك عن الشعب المصري، وتغيير فكرة الشعب عن نفسه وتغيير أفكار الشعوب الأجنبية عن المصريين، وتغيير الفكرة عن معنى الجمَال بشكل عام"

يختِم ياسر علوان كتابه بقوله "من يستطيع الكتابة يعرف بالضرورة أن يقرأ، ولكن من يلتقط صوراً لا يعلم بالضرورة كيفية فك شفرة الصورة، بمعنى تفسيرها، والأغلبية لا ترى ضرورة في معرفة كيفية فك شفرة الصورة حيث أصبحنا اليوم جميعاً قادرين على صناعة صور جميلة، وبالتالي انتهى الأمر ولا داعي للمزيد. لكن الكتابة تتطلب في نفس الوقت أن نكون على علم بالمفردات والإعراب والخط والإسلوب، ما فعله نجيب محفوظ عن الواقع المصري يختلف اختلافاً كبيراً عما فعله يوسف إدريس وما يفعله حمدي أبو جليل، فاللغة عند كل واحد من هؤلاء الأدباء لا تنفصل عن رؤيته للعالم. وهكذا بالنسبة لديان أربس وسندي شرمان وسوفي كال في الفوتوغرافيا. الصورة الفوتوغرافيّة لا تغير العالم، لكنها -بطريقتها المُتميزة – تغّير معناه. منذ بدايات الفوتوغرافيا في القرن التاسع عشر، تقنعنا الصورة وتحاول أن تشعرنا أنها واقع تيك أواي يمكن استبداله بواقعنا اليومي."

ياسر علوان هو مصوّر عراقي/أمريكي مقيم بالقاهرة منذ ما يقرب من ٢٠ عاماً وهو يُدرس حالياً بالجامعة الألمانية بالقاهرة وسابقاً بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. يُساهم علوان بانتظام بمقالات في مختلف المطبوعات الورقية والرقمية بالإضافة إلى تأليف كتابان عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي.

شاهد برومو الكتاب 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم