و الوحشُ من استوحش نفسه، و رمى عقيدته، و جالس عدمه.نازعته الوحشة و تلقفته الفلاة، فرقّ دمعه و هشّت سريرته ، حتى اكتمل انسياقه و سرى عارياً تحت الوابل ، كالكثبان حين تطيع الرياح. وَحِش الأنس و ألف النسيان ، فصار غريباً ، و ما اغترب إلا ذو حمل و صاحب هم ، و ما هام إلا من ضاق عليه العالم، غلبته البرّية ، و خلبت عليه لبه ، أحاطت به بعمائها ، خبلته ، فلمعت مخالبه ، و غلبها لِما فيه من حس ، و رغبة في لمس و قلب ينبجس ، كذب من زعم أنه قاسٍ ، بل ليّن فواح برغبة ، كالطمي أول نشأته ، له قوة الفحل إذا دب و رقة العشب إذا شبّ ، إذا بان للناس ظهر مهيباً مرهوباً و هو يتمني أن يكون مرغوباً فيه.
الوحش يا أخي من ربض جريحاً و نبض شحيحاً ، و سرى بالأرض سريحاً ، الوحش يا أخي من صار لا يعرف نفسه ، و ينكر اسمه ، و يندر لفظه ، فإذا نطق أكلم و إذا أراد أن يُبين اعترضه دمعه و قلة وعيه بالأشياء.صوته غمغمة ، و رداءه حزنه ، و طريقه وطنه ، يسعى و بفمه طعم البحر.
له أوقات طلوع و أوان هجوع ،فإنك تلقاه و قد أظلم و انزوى ،مكتسياً بريش الوعيد ،و متخذاً من بعيد وميض الغراب ،و منه علم الغربة و الاغتراب عبر مُزن السماوات و بين شجن الشجرات ،و أخرى بحين الضباب متسماً بالرماد ،فتجد لهيئته رعب و تموّج فراء ذئب ،خطاه سَلب و عيشه غُلب ، أما عواءه فيرجف له القطن ساعة الغسق.إذا نهشك فاعلم أنّه أحبك ، و إذا هجرك فاعلم أنك فُقته.و مرّات مرّقطاً بالسهد ، جائعاً بالبُعد ، في سُدفة الليل يشتعل بالوجد كالفهد ، يتوارى بين الأحراج و حشائش الأنقاض لينقض علي الجياد في تيهها ، مُلتاعاً بزَيفانها، مُعذباً بجمالها، يظن بدمامته و لا يدرك قسوة جلاله.دع ذلك كله، الوحش من خرج إلى ربه، و أخلص في حبه و تجاسر في شجوه و تخطّى عُنوةً حده ، بل دع ذلك كله ،الوَحش هو الإنسان.
الوحش يا أخي له من اللون حدته، ومن الشجر أوحده، ومن الصوت أخفته ، ومن الأرض الأرسان، ومن البصر الران، ومن الليل الوَهن، ومن العمر المُضيّ ، ومن الحال الضَوى، ومن الوَسم الشجن، وإذا أنّ فله نغم لا يُضاهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري