“حبّ الرمان”.. أربع نساء من بنات إيزيس!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أصبح من العبث الصريح التفرقة بين رواية تكتبها امرأة، وأخرى يكتبها رجل، لأن المعوّل فى التقييم ليس هذا التقسيم النوعى الجنسى والسطحى، وإنما مدى القدرة على تمثل التجربة فنا وفكرا، ومدى التعبير عنها، ثم التأثير من خلالها. رواية "حب الرمان" الصادرة عن دار ميريت لمؤلفتها سماء زيدان، إحدى الأعمال التى تدلل على رأينا السابق: نحن أمام كاتبة تعبر عن أربعة أجيال من النساء من أسرة واحدة، ورغم تعاطفها الواضح مع المرأة، إلا أنها لا تجعل بطلاتها ضحايا لظروفهن على طول الخط، و لاتحتفل بصمودهن فحسب، ولكنها تحلل شخصياتهن بكل جوانبها، و لاتتردد فى رصد نقاط ضعفهن، واختياراتهن  التى قد تحرمهن من السعادة. المعالجة هنا إنسانية عامة، بل إن هناك ما يشير الى صراع أجيال بين النسوة الأربع، ليس بالضرورة أن تنسجم حياتهن، لأن كل واحدة مختلفة رغم صلة الدم، ولأن كل واحدة تنظر الى مستقبلها، والى حياتها بشكل مختلف ومستقل.

إنهن بالضبط  مثل حب الرمان : ” حب الرمان متشابه، وغير متشابه، كل حبة متفردة، تبدو كمثيلاتها، لكنها غيرهن، كل حبة صنعها التصاقها بقشرتها، مكانها بين الأخريات أكسبها تفردها، وغذّتها الثمرة الأم برحيق واحد، إنما لكل حبّة مذاق عن الأخريات” .

نحن إذن أمام دراسة لنماذج إنسانية نسائية: الجدة زهيرة، والأم فاطمة، وابنتها مها، والحفيدة سارة، زهيرة المرأة الريفية القوية أنجبت فاطمة الأستاذة الجامعية، وفاطمة أنجبت الموظفة مها، ومها أنجبت الشابة الأصغر سارة. مثل حبات السبحة التى كان يحملها الجد الأكبر، فإن كل واحدة مشدودة الى الأخرة بنفس الخيط، ولكن كل حبّة منفصلة ومنفرطة، كل شخصية لها حكايتها، وكلهن عرفن الحزن والدموع. كانت الجدة زهيرة تبكى فى داخلها، وتقول ل “مها” : “البكاء عورة .. أغلقى عليك الباب” ، وليست  روايتنا هذه فى إحدى معانيها الجميلة، سوى تحويل هذا البكاء الداخلى الصامت، الى أصوات فضفضة تحكى وتعبر، ولذلك كان من المناسب للغاية أن يتبادل السرد صوت مها، وصوت فاطمة، وصوت زهيرة، وخطاب أرسلته سارة لأمها، ولكن سماء زيدان أدخلت أيضا صوت مصطفى شقيق فاطمة، وخال مها ، ولم يكن ذلك اختيارا موفقا، فالنسوة تستطعن أن تحكين أيضا عن مصطفى ، بل إن حديثهن عنه أكثر تأثيرا من حديثه عن نفسه، إنه تقريبا النموذج الذكورى الذى لم يتخل أبدا عن النساء، ولم يتهرب من مسؤولياته، وهن تشهدن بذلك. لم تكن الرواية فى حاجة الى استدعائه لأن فاطمة لا تنسى ما فعله من أجلها، وتنقل بصورة مؤثرة توفيره النقود لكى يشترى لها شيكولاتة فى طفولتهما، وعمله كسايس من أجل كسب المال، كما أن زهيرة تحكى بصورة قوية عن الإهانات التى تحملها مصطفى من خاله فى سبيل بقاء الأسرة فى منزل الخال. مصطفى إذن حاضر من خلال البطلات، وصوته الخاص كان غير متسق مع البناء، ومع مغزى الرواية كلها، بأن نرى الحكايات من خلال عيون أربع نساء، وملاحظة أخرى: كان يكفى تماما أن تذكر اسم كل واحدة قبل أن نقرأ صوتها بدلا من التغيير أحيانا بجمل طويلة مثل “فـأتت به قومها تحمله” ومثل “ثم .. الفقد” .. الخ.

ولكن الكاتبة نجحت فى أكثر من اتجاه: هناك أولا ذلك الخيط  الذى يمسك بالأصوات، حيث تجلس مها فى انتظار استفاقة ابنتها سارة من الغيبوبة، وكانت سارة قد تزوجت ضد إرادة مها،من ابن خالها محمد، وهاجرت معه الى كندا، وفى حادثة مروعة مات محمد، وبقيت سارة فى غيبوبة، والآن على مها أن تبدأ استعادة تفاصيل الحكاية، ثم تأخذ منها زهيرة وفاطمة ناصية السرد، ونسمع صوت مريم ولكن من خلال رسالة كتبتها للأم مها. هذا الخيط ذكى ومؤثر ، منح القصة وحدتها، كما فتح أبواب السرد بتلقائية، وخصوصا أن فاطمة والجدة زهيرة فى مصر، تنتظران مصير سارة، ولعلهما تبكيان أيضا من الداخل.

وهناك ثانيا نجاح الكاتبة فى رسم ملامح كل شخصية بوضوح: زهيرة الريفية المكافحة، ابنة الحسب والنسب، والتى تزوجت من ابن أحد الأعيان، ولكن الرجل انجذب الى الموالد، ومقامات الذكر، وحلقات الدراويش، وانتهى الأمر ببيع الزوج أرضه لإخوته، ولم يترك لزهيرة وأولادها سوى عشرة جنيهات، فكان عليها أن تذهب للإقامة مع شقيقها، فعانى أولادها من سوء المعاملة، ثم هبطت الى القاهرة، لتسكن فى حجرة بجوار السيدة نفيسة، ولتعمل زهيرة كممرضة من أجل لقمة العيش.

أما زهيرة فهى أكثر صلابة وطموحا، لقد أصبحت أستاذ جامعية بتعبها وذكائها، ولكنها فشلت فى الإحتفاظ بزوج عاشق ومطيع، وانشغلت ببعثتها عن رعاية ابنتها، بينما كررت مها تقريبا نفس المأساة: فشلت فى زواجها، لخضوع زوجها هشام لأسرته القوية والمتحكمة، كما أنه تزوج سكرتيرته، وأخيرا جاءت سارة أكثر تمردا واستقلالية: واجهت أمها، وتزوجت ابن خالها، وسافرت لتعمل معه فى كندا.

وهناك نجاح ثالث هام هو أن الشخصيات النسائية رمادية، لا هى بيضاء ولا سوداء، زهيرة مثلا علمت أسرتها كبت البكاء، مما أورثهن آلاما فى الروح والجسد، ورغم حنانها، إلا أنها كانت قاسية على ابنها مصطفى،  وفاطمة ناجحة فى العمل، ولكنها كانت قاسية مع زوج محب وعاشق، ومها تبدو مثقفة ومستنيرة، ولكنها تعذب ابنتها سارة برفض عريس اختارته، وكأنه تنتقم من طليقها هشام، فى صورة ابنتها التى تشبهه. كلها نماذج من لحم ، وحياتها ليست محصلة ظروف خارجية فحسب، ولكنها ثمرة اختيارات قد تكون صائبة، وقد تكون خائبة.

ومن عناصر نجاح الرواية(رابعا) الابتعاد عن تنميط النماذج الرجالية، صحيح أن لدينا الجد الذى شغلته الدروشة عن أسرته، وهشام الخاضع لأسرته، وزوج الخياطة جمالات الذى أصباها بالخبل بعد أن طلقها لمجرد  معرفته أن زوجته استمرت فى العمل كخياطة بدون إذنه، ونموذج الخال المزواج الذى يسىء معاملة أبناء أخته، وممدوح زير النساء المتربص ب “مها” فى العمل، إلا أن هناك نماذج رجالية جيدة مثل الجد قبل الدروشة، ومصطفى الذى حمل مسؤولية الأسرة رغم كل المصاعب، ومحمد الشاب الرومانسى الذى يتمسك بسارة، ومثل زوج فاطمة الذى كان يحرص على رضائها ومحبتها. هذا التنوع جعل الرواية بعيدة عن المواقف الحديّة، لأن كل طرف له وعليه، بل إن الصراع واضح بين  النساء أنفسهن : فاطمة مثلا فى مقابل مها، ومها ضد اختيارات سارة، وهو صراع سببه اختلاف الطبائع، واختلاف الأجيال، رغم الإنتماء الى نفس الثمرة.

تتشابه البطلات الأربع فى  وجود قوة داخلية تجعلهن قادرات على تنفيذ اختيارتهن: زهيرة تترك منزل شقيقها، وتعيش مع أولادها قرب السيدة نفيسة، وفاطمة تصر على  الحصول على الدكتوراة، و تصر على الطلاق من زوجها الذى يخنقها بحنانه، ومها تخوض معركتها مع أهل زوجهأ، وسارة تختار العريس وتهاجر معه،  وتتعلق بطلاتنا بعالم مواز عادة  يخفف عنهن الألم، فتتكلم زهيرة مع الجان، ويظهر طيف الجد الكبير أحيانا، وتسترجع سارة ال”هو” الذى تراه هى، ولا يراه الآخرون، كما تستدعى البطلات العون الإلهى فى أكثر من مناسبة، وبالذات مها التى تعانى من إحباطات متنوعة، فكانت تجعل الله طرفا فى أى لحظة انكسار أو هزيمة.

تمتلك سماء زيدان أسلوبا سلسا منح السرد طابعا متدفقا، لولا بعض الفقرات الإنشائية والتأملية القليلة على طريقة باولو كويللو، و لكن لديها قدرة على التقاط اللحظات الإنسانية، ووصفها بشكل مؤثر، مثل لحظة طهور الطفلة فاطمة، أو لحظة ضرب زهيرة لابنها مصطفى لمجرد أن ذهب الى السينما، ولدى الكاتبة أيضا قدرة على التعبير عن أدق مشاعر بطلاتها: ” أعرف أننى لم أدرك من أنوثتى، سوى عينين بعمق البحر، بلون أعمق ظلمة فيه، أعرف أننى لم أدرك من أمومتى، سوى أنف يميز رائحة أولادى فى المرض، عرقهم فى الحزن، كيف أعرفنى إن كنت أنظر فى عيونكم بدلا من عينى؟”.

الرواية مفعمة كذلك بالألوان الدالة: الأحمر لون الرمان والدماء، والأزرق  والنيلى لونا الأحزان، والبنفسجى الذى يترجم التباس وتعقد وتركيب شخصيتى فاطمة وابنتها مها. ولكن المرأة رغم نقاط ضعفها، ورغم المتاهة التى تقع فيها، إلا أنها تظل مرادفا للحياة، بطلاتنا تجمعن ( رغم العثرات) بين قوة إيزيس، وخصوبة عشتار، تتوارثن الضعف والقوة وقطع الحلىّ،  بعض الأسماء اختيرت بعناية لكى تحيلنا الى شخصيات مرتبطة بالدين والقداسة مثل فاطمة وسارة، ثم تولد مريم البتول من نطفة تركتها سارة مجمدة، يحتويها رحم مها التى بتر السرطان نصف صدرها، من قلب الموت والمرض، تولد امرأة صغيرة مثل حبة رمان جديدة، تولد ومعها أحزانها وقوتها، هذا هو منطق الحياة التى تمد جذور العائلة من  قرية مصرية مجهولة، فتكبر الشجرة، وتتفرع، لتظهر ثمرتها على بعد آلاف الأميال فى مدينة كندية.

إنه أيضا منطق حواء الخالدة  التى لا تموت، حافظة النوع، وحاملة بذور الفرح والأحزان، عبر كل العصور والأزمنة.

مقالات من نفس القسم