حاورته: علا الساكت
حين صدرت روايته الأخيرة “أبناء الجبلاوي”, جدد الروائي ابراهيم فرغلي (1967) الجدل حول كتابات نجيب محفوظ، ففي الوقت الذي هاجم بعض كتاب الأجيال الجديدة أعمال محفوظ باعتبارها كتابات كلاسيكية, قرر فرغلي الاحتفاء بمحفوظ علي طريقته الخاصة.
في “أبناء الجبلاوي”- وهو عنوان الترجمة الانجليزية لرواية أولاد حارتنا ـ يلج فرغلي عالم من الشخصيات المحفوظية الهاربة من الكتب لتخلق فانتازيا, زينها المؤلف باقتباساته من نصوص روايات محفوظ.
هذا الحوار الأدبي بين نص فرغلي وروايات الحائز علي نوبل للآداب عام 1988 لم يكن مجرد حوار غير واع من كاتب ينتمي لجيل التسعينيات الرافض بشدة للكتابة الواقعية, لكنه حوار تعمد فتح الجدل حول علاقة جيل الأبناء والأحفاد في الرواية العربية بمؤسسها نجيب محفوظ.
وهو ما يؤكده فرغلي قائلا “بالرغم من انني انتمي للجيل المتعارف عليه بجيل التسعينيات لكنني حاولت اختبار الكلاشيهات التي رددها هذا الجيل من بعده, وبينها العلاقة بمحفوظ , خصوصا وقد تبينت انهم لم يقرأوه بشكل جيد, وصحيح ان محفوظ كلاسيكي, لكنه مؤسس.
لماذا اخترت الكتابة عن نجيب محفوظ, ما هدفك من إعادة فتح الحوار حول أدبه؟
اكتشفت اننا نهمل تراثنا بشكل مفجع وان الاجانب يقرأون تراثنا بشكل مختلف, وواع, وعميق, فتلك النصوص يتم التعامل معها بشكل مختلف تماما في الغرب, وانا هنا اتحدث عن قراء عاديين, يقرأونها كتراث يعبر عن حكم الشرق وقيمه ورؤاه.
ورغم ان نجيب محفوظ احد ابرز رموز هذا التراث, فقد تم اختزاله في كلاشيهات لا تعبر بحق عن كتاباته، بالإضافة للافلام التي اقتبست اعماله وشوهتها علي مستويين الأول انها اختلقت اجواء شعبية فقيرة مقارنة بالبعد الفلسفي واللغوي الموجود في النص, كما اشاعت كذبة كبيرة رددها جمهور كبير من مشاهدي الأفلام بأنهم يعرفون محفوظ من خلال ما شاهدوه دون ان يدركوا انهم في الواقع لا يعرفون عنه شيئا.
كتابة نص علي نص عادة ما تضع النصين في مقارنة, الم تخش هذه المقارنة بين كتابتك وكتابة محفوظ.
محفوظ كاتب كبير, صاحب لغة بديعة, حتي لو كانت بعض مفرداتها احيانا تقليدية, ولكني اجتهد ايضا منذ شرعت في الكتابة لايجاد اسلوب خاص بي, في اللغة وفي تقنيات السرد, وبقدر ما تعتبر روايتي احتفاء بمحفوظ وبقيمته فإن هذا لا يأتي من منطق دوني تجاهه, بالعكس, هناك نوع من ندية الكتابة في النهاية.
في الغرب يعطي الناقد او الاكاديمي لطلبته الفرصة للتفوق عليه ونقده لو اقتضي الامر, ولا توجد تلك الابوية التي نعاني نحن منها, بحيث يتحول الاستاذ الي اله. وهذا ما حقق طفرات في فروع الفلسفة والفكر والعلوم الانسانية بشكل عام, في الغرب, وظهور اجيال من الاسماء الكبيرة من الفلاسفة المرعبين, بينما نحن ما زلنا نعاني من الابوية. تقدير الكبار لا يعني الانسحاق امامهم, بل نقد انتاجهم والتحاور معه علي ارض من ندية المعرفة.
ماذا قصدت بتصنيف الرواية كـ” سيرة رواية”؟ هل شكلت هذه التسمية اختلافا كبيرا بالنسبة لك؟
“سيرة رواية” تمثل احد الاختيارات العديدة التي كنت اخترتها عنوانا للرواية, وقد اجهدني البحث عن عنوان لها بسبب اتساع عوالمها بشكل يجعل كل اسم اخترته لها لا يعبر عن اجوائها بالشكل المناسب.
“سيرة رواية” هو اسم الذي اخترته لها قبل الاستقرار علي “ابناء الجبلاوي” للايحاء باللعبة الاساسية فيها كرواية داخل رواية, لكني في النهاية اكتشفت انه لا يعبر عنها بنفس قوة ” ابناء الجبلاوي“.
تقوم الحبكة في الرواية علي اختفاء نصوص محفوظ برايك هل يهتز الكيان المصري الغارق في مشكلات الواقع لاختفاء نصوص محفوظ في ظل عزوف المصريين عن القراءة؟
الفكرة هي سخرية مريرة من مجتمع مشغول بالتفاهة, وسعيد بها, ويستطيع تبرير هذه التفاهة بكل السبل والوسائل بدعوي البحث عن لقمة العيش, او الادعاء بان الآخرين فاسدون وهكذا
اشعر كان هناك 80 مليونا يبررون المشكلات بأسباب لا تعود لهم شخصيا, فمن صاحب المشكلة, المجتمع فاقد لقدرته علي النقد الذاتي, وهذا ما حاولت ان امرره فنيا في الرواية.
اخترت تقنية تعدد الاصوات لكن البعض يري ان هذا التعدد سبب تشتت في تناولك للرواية, فكيف تعلق علي ذلك؟
هذا من أكبر ما لفت انتباهي من بعض من تناولوا الرواية بالنقد, فالتشتت مقصود, خاصة وان القلق الوجودي والحياتي يسيطر علي ابطال الرواية جميعاً, والرواية واضح جدا انها ضد البؤرة وبدلا من بحث سبب هذا التشتت, اعتبرها البعض سلبا, وهذه رؤية تحترم في النهاية, لكني اري انها لم تجتهد في تأمل مسألة التشتت في نص يحرك السرد بشكل متدفق ثم يكبحة ويقمعه علي التوالي, كأنه سرد ضد السرد, لأنه يعبر عن تجارب حياتية مشتتة ومضطربة ومشوشة فكيف يمكن التعبير عنه بنص مستقر له بؤرة واحدة.
تذهب الرواية العربية في طريق الواقع شديد المرارة, وقد حققت بذلك طفرة في القراءة والانتشار لكنك اخترت ان تفارق هذا التيار بصناعة فانتازيا روائية وصفها البعض بالذهنية وقد يجعلها ذلك تبدو عسيرة الفهم بالنسبة للقارئ غير المحترف؟
القارئ غير المحترف اذا استمر في اعتياد القراءة يصبح محترفا في احد الأيام, وهذا شأنه, كما انني لست من انصار فكرة “الجمهور عاوز كده” لانها لم تؤد الا لألوان من الاستسهال الذي انتج افلاما سينمائية اقل ما يقال عنها انها منحطة ونصوصا شعبوية علي نفس الشاكلة. لقد استهدفت نصا مشوقا وممتعا, لكنه مقلق, ومربك, يحاول ان يدق ابواب الاسئلة عن معني الفن والكتابة, والحب, والفلسفة والرواية, والشهوة والالهام, وقوة العقل.
تنفي عن روايتك أنها من ضمن الروايات المتوقع ان تكون من ضمن الاكثر مبيعا, فهل تشعر ان الجماهيرية ضد فنية الرواية؟
الجماهيرية بالمعني المعروف الآن بوصول اعمال ضعيفة ومتوسطة لقوائم البست سيلر, او انتشار كتابات خفيفة اغلبها افيهات, تسمي كتابة ساخرة, هي الجماهيرية التي اعنيها, لكن ما يعنيني بالفعل ان يصمد هذا النص امام الزمن ككل الاعمال الكبيرة في تاريخ الادب.
في روايتك حاولت ان تبني جسرا بين الفلسفة والشخوص المنغمسة في الواقع المصري, كأنما اردت ان تخبرنا ان الفلسفة التي تقطعت اواصر الصلة بيننا وبينها هي مفتاح الحل لأزماتنا الحياتية؟
بالتأكيد, الفلسفة هي منبع كل الافكار, وهي منبع الفن ايضا واساسه, ومنبع الافكار الملهمة لكل شيء فيها السياسة والمواطنة, وكما يقول ول ديورانت في “قصة الحضارة ” عارجا علي افلاطون ان الحكومات تختلف باختلاف اخلاق الرجال, وتتألف الدول من الطبائع البشرية في داخلها, وتستمد الدولة شكلها من مواطنيها, فهي صورة طبق الاصل لمن فيها, ومرآة تعكس سكانها, لذلك يجب الا نتوقع ايجاد دولة أفضل حتي يكون لدينا مواطنون افضل حيث تذهب كل التغييرات عبثا بغير تغيير, وبذلك لن تتحسن احوالهم ابدا بل تسوء من سئ الي اسوا.
ونعم نحن نحتاج للفلسفة اكثر من اي وقت مضي لنفهم انفسنا ونقوم بالنقد الذاتي الواجب لأنفسنا مواطنين ومثقفين. وكل الفئات بلا استثناء