يتناول (فيودور دوستويفسكي) نموذجاً شائعاً (الشخص الذي يهزأ الآخرون من شكله المضحك)، لكنه لا يسير به في الطريق المتوقع، بل يأخذه نحو نسق مضاد .. إن الراوي في قصة (حلم رجل مضحك) ليس (أكاكي أكاكيفتش) في قصة (المعطف) لـ (نيكولاي جوجول)، أو (أيونا بوتابوف) في قصة (الشقاء) لـ (أنطون تشيخوف) إذ لا يمثل التعاطف مركزاً لهويته بل على النقيض يعتبر كونه مضحكاً حقيقة أساسية يدركها ذاتياً أكثر مما يستوعبها الساخرون منه .. ليس هذا فحسب بل أنه يتعامل مع هذه الحقيقة كمعادل للكرامة أي أن تجاهلها يُعد دافعاً للغضب حتى أن عزة النفس التي تمنعه من الاعتراف بها تساهم في شعوره بالعذاب نتيجة عدم قدرته على التأكيد للآخرين بأنه مضحك بالفعل ..
هذا التوحد مع الواقع الذي يٌستخدم ضده أبعد ما يكون عن الرغبة في الحماية من الألم أو التعايش مع المهانة بل هو أقرب إلى الامتزاج مع طبيعة أكثر طغياناً من سماته الشخصية وعلاقة البشر بغرابتها .. الاندماج بحقيقة أكبر للعالم، أكثر اتساعاً من حدود تعاسته الخاصة .. التوحد مع قناعة كاملة بعدم استحقاق الحياة للاهتمام .. هذه المعرفة أدت إلى ترسيخ اليقين عند الراوي بأنه هو الوجود نفسه .. لقد جعلته الحقيقة معنى أو جوهراً يتخطى فرديته، وهذا ما أعطاه إمكانية التخلص من حواجز الزمان والمكان ليصبح كينونة مطلقة .. تحوّل إلى أن يصبح حضوره هو بداية العالم ـ حيث لم يوجد شيء قبله ـ وبالتالي فإن انتحاره هو نهاية هذا العالم .. يمكن تصور أن النجم الصغير الذي كان يتأمله في السماء الحالكة هو الاستدعاء الماورائي للمعرفة التي يحملها الراوي كي تحل في كونيتها .. لهذا كان النجم سبباً في أن يتخذ القرار بإطلاق النار على نفسه؛ فالتخلص من الجسد سيحرر الحقيقة ويمنحها النقاء التام اللازم لتحقيق التماهي المنطقي مع الكون.
لكن (دوستويفسكي) يعرف أن استغاثة طفلة لإنقاذ أمها يمكن أن تربك أكثر الحسابات صلابة، ولكنه لا يكشف عن هذا بشكل مباشر .. إن الراوي في سلوكه العنيف تجاه استنجاد الطفلة البائسة لا يعبّر فحسب عن محاولة إثبات عدم اكتراثه بالدنيا بأحقر أسلوب ممكن، بل إنه يدافع أيضاً من خلاله ـ ربما بدرجة أقوى ـ عن هشاشة هذا اليقين بعدم الاكتراث .. سعي للانتقام من الإغراءات التي يمكن أن تقضي على هذا الإيمان خاصة لو تمثل هذا الإغراء في طفلة متضرعة، تصرخ بيأس مرتجف تحت المطر الليلي: (أمي الحبيبة) .. إذلال الراوي للطفلة دليل ضعف أكثر من كونه إشارة لتأكيد محسوم، وهذا ما سيفسر شعوره بالخزي بعد العودة إلى شقته .. لقد أنجزت الطفلة مهمتها، ولم يعد الراوي هو الوجود الذي سينتهي بنهايته بل سيستمر ـ من خلال الطفلة المهانة ـ بعد موته، ولهذا سيستبدل الانتحار بالحلم بالانتحار.
لم يأخذ النجم الذي كان يتأمله الراوي في السماء الحالكة الرجل المضحك إلى العدم ـ الحالة الكونية التي تعادل بعد الموت حالة عدم الاكتراث في الحياة ـ كما كان يفترض، بل أخذه إلى اليوتوبيا، أو المدينة الفاضلة التي يعيش الجميع داخلها في سعادة قصوى مشيدة على الاتساق الفطري والتناغم مع الطبيعة وانعدام الكراهية والإثم .. حقق هذا المكان التوحد الطفولي بين كائنات لا تفرقها ديانات أو ضغائن وتشملها براءة التآلف مع الحب الكوني الذي يستمدون منه الفرح .. الراوي كان في الحلم هو صاحب الإثم الأول وعلى إثره تناقل سكان هذه الأرض الخطيئة كعدوى الطاعون حتى صارت مكاناً للعذاب: القوانين .. الديانات .. الحروب .. هكذا تحولت السعادة بالنسبة لهم إلى حلم لا يمكن تصوره بعدما كانوا يعيشونه بالفعل.
إن قصة (حلم رجل مضحك) لـ (فيودور دوستويفسكي) تستطيع أن تقودنا بقوة باتجاه هذا الاستفهام الخبيث: أين يكمن الضحك حقاً؟: في سمات الراوي الشخصية التي لا تقتصر فقط على مظهره .. في عدم اكتراثه .. في إيمانه بحقيقة كونية .. في شعوره بالعار .. في حلمه بأرض مثالية يتسبب وجوده في إفسادها .. في إيمانه بالنضال ضد الشر، والتبشير بإمكانية بناء السعادة ـ ستكون أولى الخطوات العثور على الطفلة البائسة .. في تصديقنا بأنه لا يكذب وأنه يعني ما يقول بالفعل .. أم في تصديقنا بجدوى هذا الإيمان أصلاً؟! .. كأن (دوستويفسكي) يتفحص دائماً حقيقة موازية: من لديهم القدرة على ارتكاب أبشع الرذائل، على استعداد دائم لتخيل أكثر الأحلام الطفولية براءة حد السذاجة المفرطة.
تحميل القصة من هنا