فصل من رواية الرباط الأسود

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سلمى فايد

إذا أردتَ أن تتعرّف إلى بلدٍ ما، فلا بدّ أن تفهم كيف يضحكُ الناس فيه وكيف يموتون..

من أينَ يبدأ النزيف؟ منَ الدماغ؟ أم منَ البطن؟ ما الذي يؤلمُ أكثر، العمى أمِ الجوع؟

ستخرجُ امرأةٌ في الوقت الرماديّ ما بين الليل والنهار، جلبابها الأسود المهترئُ عند القدمين يشبهُ حياتها في كثير من الصفات، ثقوب بأحجام مختلفة تنتشر عليه، كأنها نوافذ تُطلُّ منها عفاريت الحظّ البائس..

تجرّ خلفها خمسة صِغار، تطالبهم بالصمت، ثمّ تجد أنه لا داعي له، لن يلتفت أحد على أية حال، الطريق الترابيّ الطويل غير الصالح يكفي لتمزيق الجلد الآدميّ وربما اللحم أيضًا عن الأقدام العارية الصغيرة والكبيرة على حدّ سواء، لكنه التعوّد..

التعوّد مسكّن ممتاز، خاصّة عندما لا نملكُ الحقّ في الصراخ..

 

تسير المرأة وتتبعها قافلتها الصغيرة حتى تخرج إلى شارع كأنّه دولة أخرى نبتت فجأة على حدود مدينة الموتى، تتسلّل كالذي عرف موقع الكنز الكبير، تقتربُ إليه، تبدأ في تحميل الخيرات الكثيرة في كيس مصنوع من قطعة قماش بالية، تُناول الصِغار ما يُسرعون لقضمه والتهامه نهمًا، ثم تنظرُ نظرةً أخيرةً لتَتأكد من أنه لم يعُد هناك شيء لمن سيقصدُ المغارة السحرية بعدها.. تبدأ في العودة من حيث جاءت ساحبةً وراءها ترِكةً مكوّنة من خمسة أفواه مفتوحة على الدوّام ” اللي لقيناه يكفّينا يومين لو ما بعناش الجبنة.. وادينا نبقى نرجع تاني، الناس هنا زبالتهم فيها أكل أكتر من اللي فالسوق..”

ستحكي لي رحمة عن ذلك اليوم قريبًا، وعنِ “الحاج ناجي” الذي كان يجمعُ الفتيات وهي بينهن حين كانت لم تتجاوز التاسعة من عمرها في صندوق “عربيّة ربع نقل” ويقوم بنقلهنّ لجمع المحاصيل، “أضحّكِك يا أبلا زين؟ عارفة اليوميّة كانت كام، اليوميّة كانت اتنين جنيه..” ستقولها وعيناها تسترجعان صورة الطفلة السمراء، الطفلة التي لم تتجاوز التاسعة، تجلس القرفصاء في “الغيط”، وإن سرحت أو ضحكت أو أخطأت، إمّا ستُصاب بركلةٍ في الظهر تغرز رأسها الصغير في الطين، أو سينزل عليها غضب السماء وتُحرم من اليوميّة الكريمة.. تلك الطفلة التي انحنى ظهرها صغيرًا.. انحنى ظهرها وتنكّست جبهتها منذ زمنٍ بعيد..

***

ما يؤذيكَ ربما لا يؤذي غيرك، لكنّ أوجاع الروح لا يُمكن ألا يشعر بها الجميع، أولئك الذين لا ينتمونَ إلى الإنسانيّة هم الذين لا يُمكنهم استيعاب وجع الاحتياج، أولئك الذين لا ينتمون إلى الشعب هم الذين لن يشعروا بالجوعان وهو يحدث نفسه قائلًا “يا أيّها الرغيف، ماذا سأدفعُ أكثر من جِلدي وشرَفي ثمنًا لك!”

انتبهتُ للأنين الذي يُشيرُ إلى أن رحمة بدأت تُفيق، أفقتُ أنا بدوري من رحلة التخيّل عند النافذة، وذهبتُ إليها، طرقتُ الباب طرقتين خفيفتين، ودخلتُ إليها، حاولَت القيام والاعتدال جالسةً، ساعدتُها وجلستُ على طرف السرير.. تحسّن ورم الوجه كثيرًا، واستطاعَتْ حمْلَ نفسِها على ذراعَيها للاعتدال، لم أحسبْ حساب هذه المقابلة، فالأسئلة تخترق دماغي من اليمين إلى اليسار والعكس..


– كلّ دا نوم يا مفترية؟ أخبارك ايه دلوقت؟ حاسة بإيه؟
– أنا كويّسة، كتّر خيرك يا أبلا.. هو احنا امتى؟
– احنا بعد ما خبّطتي عليّا بيومين

(أجبتها بابتسامة وأنا أمسح على ساقها، لكنّها سارعت بسحب ساقها من تحت يدي وقامت برفع ركبتيها أمام صدرِها وطوّقتهما بذراعيها)
– يومين! أنا متّ وصحيت والا ايه؟

(سألت وهي تنظرُ في الفراغ ورائي متجاوزةً وجهي)
– احنا هنهزّر بقى؟ بيتهيألي المفروض تاكلي حاجة.. تاكلي ايه؟
– مش جعانة خالص .. 
– طيّب..

(لم يعُدْ في وسعي تأجيل السؤال)
– هتقوليلي ايه الــــ حصل؟

ظلّت تنظرُ إليّ صامتةً، وهي تحكم تطويق ذراعَيها حول ساقيها، تحتضن نفسها، كأنها تحاول حماية نفسها من التذكّر.. اقتربتُ منها وربّتُ كتِفها، فارتعدت وأبعدت نفسها عن يدي، فابتسمْتُ لها وقرّرت الانسحاب وتركها لنفسها قليلًا..

 
– خلاص بلاش تحكي دلوقت.. أنا هقوم أشوف حاجة تاكليها..

تركتُها، وطلبتُ لها وجبة سريعة، وبعض الأطعمة لإعادة الحياة لهذه الصحراء التي لم أنتبه لانتشارها من حولي.. وطلبتُ معطّرًا للجوّ لقتل رائحة الحريق التي لم تعُدْ تفارق المكان..


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 سلمى فايد شاعرة وروائية مصرية

صدر لها: دواوين  كوابيس ما بعد الخطأ ـ عزلة الغريب

الرباط الأسود روايتها الأول 

مقالات من نفس القسم