زمن الشهوات العظيمة وصيحات الغضب التي تتصدع لها السماوات وتسقط الشموس
“خافية قمر” رواية ناجي الأولى تبدو كمتواليات سردية ينبثق بعضها من بعض، ويثري بعضها البعض، كما يقوض بعضها البعض. وحيث السرد بضمير المتكلم فإن البطل عبد الحارس هو من سيروي قسماً من هذه الحكايات “كالحكاء الشفاهي القديم”، كما سيسمح لنا بقراءة بقيتها من تدوينته التي حفظها في حقيبته الخاصة. وتبقى حكاية الملك إدريس البكّاء والملكة قمر هي المركز الذي تشع منه بقية الحكايات، فإدريس ملك الملوك ذو القوة المطلقة ـ الذي حاز ملكوته بالبأس والحرب حتى فقد ساقاً “عوضها بأخرى خشبية”، وذراعاً “عوضها بأخرى حديدية” ـ هو رجل طيب القلب يبكي لو وجد مظلوما حتى لقبوه بالملك البكاء، ينصحه وزيره بالزواج ليتخلص من الوحشة ويكون له وريثاً يحرس ملكه، فيتزوج من “قمر” ابنة العربان ويجعل منها ملكة ويهبها قلبه ثم يشي له وزيره بخيانتها “فتحت أبواب بستانك فدخله غيرك”، قينقلب الحب الكبير بقلب إدريس إلى لعنة تصيب قمر “تبتلعها الأرض في جوفها لتبقى عبرة على مر الزمان”.
يصغي عبد الحارس “طفلاً” لنصح أمه “سلمى” بنت العربان بألا يقترب من خافية قمر “تحت هذا الخلاء الواسع من الأرض ترقد قمر منذ حلت عليها لعنة إدريس البكاء، حين يعبر عليها الرجال تناديهم ومن يتلفت تحل به اللعنة، فتنشق الأرض تحت قدميه ويهوي إلى ملكوتها السفلي.. هناك سقط كثيرون في سنوات الغلاء والحرب والسخرة”. تلاحظ سلمى جزع صغيرها فتشد من أزره:
لا تخف يا صغير لا تخافي يا بنية
لا خوف من الحية على الطفل ولا الصبية
خوفي على الرجل الوحيد من خطاه…
ومن أشواقه الخفية.
وتنصحه بالتماس البركة عند أبيه: عبد القهار “المجروح”:الذي هو طريح الفراش منذ زمن بعيد والذي يتزوج من نساء بني عبد “قريباته” ـاللاتي ضاعت فرصهن في الزواج بسبب الخوف من الخافية ولعنة إدريس ـ لكنه يخص سلمى وحدها بالإقامة بداره، ويتبادل مع ولده عبد الحارس التحايا: سلام عليك أبي وسيدي//سلام عليك سيدي وولدي. ثم يضمخ جبهته بدم جرحه “بركته”.
يتقوض عالم عبد الحارس الآمن في لحظة، حدث ذلك عندما صاح القوم: دي سلمى. شاهدين على خيانتها للمجروح. سلمى لن تنفي جرمها بل ستتمادى نافية أن المجروح هو أبو عبد الحارس “أو كنت تقدر أن تهبني هذا الولد وأنت راقد بعلتك!” فيما يؤكد المجروح أنه الأب والأم معاً لعبد الحارس “أشهدكم أنه ابن جرحي”.
بهذا التلخيص المبتسر كانت “خافية” قمر” ستكون رواية تقليدية عن الحب والخيانة والانتقام، لكن إبداع الكاتب في القص المدهش، حتى الثانوي منه، وفي اللغة الشعرية ذات الطابع الشعبي، كما في تعدد الأساليب السردية، هو ما منح الرواية تفردها، بالإضافة إلى الحيل السردية التي باغتنا بها الكاتب:
ـ الاختباء وراء الجنون: فالسارد “عبد الحارس” يظهر بأول مشهد “مقدمة أولى” داخل حانة هرباً من ملاحقة ذوي السترات البيضاء الذين أتوا لمساعدته باعتباره “مجنون”، فيقوض ناجي بذلك، من البداية ـ دعائم حكايته، خاصة عندما نصل للصوت الذي سمعه البطل يناديه فأقام المجانيق ليخمده بالحجارة.
ـ توريط القارئ في الارتياب نفسه الذي يعايشه البطل:
*حول عينيك عني أيها القارئ ولا تحرق بهذه النظرة المستريبة أول الخيط …
* هل جرى الأمر على هذا النحو؟
* الفئران أكلت دفاتر الأنساب في القلعة
* أما تحس بأرضك تهتز تحت قدميك؟
*دبت سوسة الحزن في ساقه الخشبية فنخرتها فهوى
ـ التساؤلات التي تعمد الروائي إبقائها معلقة بلا أجوبة قاطعة، والقصد منها، في الغالب، هو التعبير عن تعدد الروايات ومستويات الدلالة وإنفتاح النص:
*هل البلدة هي روضة إدريس؟ أم خافية قمر؟
*هل جرح المجروح كرامة من إدريس أم لعنة منه؟
*هل أخمدت الحجارة الصوت؟ أم قتلت سلمى؟ أم أصابت المدينة؟ أم كل ذلك؟
* هل سلمى هي قمر؟ وإدريس هو المجروح؟
وهذا السؤال الأخير يطرح نفسه إثر الروايات التالية التي تطرحها الرواية عن قمر، حيث يرى عبد الباسط عم عبد الحارس أن قمر “بنت منا أذلته بجمالها وصباها فأنزل بها تلك اللعنة”، و”سدوا عليها أبواب الأرض بالطين وتركوها لشهوتها تأكلها. أي جبار كان!!”، أما الرواية الثالثة: رواية الغريب العازف على الربابة لفانولا فتنفي الخيانة “باضت الحية في فم برهان الحيران فنفث سم لسانه في سمع الملك إدريس، فلما أحست قمر بالخطر على ساكن بطنها نزلت من القصر”، ثم “قالت: خوفي الشمس تطلع ويدركوني. يا أرض يا خافية إخفيني” وغابت حتى اكتمل حملها، وولدت ابنها الحارس”، ثم يحكي هذا الراوي عن تردي حالة إدريس بعد ما فعله بقمر “كأن اللعنة تصيب الملعون واللاعن أيضاً” وعن إصابته بجرح لا يندمل: يصير هو المجروح، وعن قمر التي يجدها العربان حاملة رضيعها فينادونها سلمى. وهكذا تقوض كل حكاية الأخرى، كما تقع في الخلفية من كل حكاية قصة تراثية أخرى، فلعنة إدريس البكاء تذكر بإدريس النبي الذي استعان بربه فقطع المطر عن القرية التي آذته عشرين سنة، فعانى أهلها الجدب فأشفق الله عليهم فسأل إدريس الرحمة بهم بأن يأذن له بإعادة المطر فأبى إدريس أن يأذن له، لولا أن أعطاه الله درساً. جرح المجروح “الرباني” هو أيضاً ذكرني بصبر أيوب على مرضه الذي لا يشفى، فهل ناجي يستلهم من القصص القديمة قصصاً جديدة؟ أم يعيد تشكيل العالم!؟
خافية قمر هي عالم رجال أجلاء ذوي حضور كاريزمي، لا ينال العجز الجسدي من هيبتهم، ونساء لا يتوانين عن التعبير عن رغباتهن. أناس مسكونون بالشوق للعشق المستحيل، يتبعون نداءات وأصوات تقودهم إلى نهاياتهم، أي تكون لعنة عليهم. كأني بخافية قمر أشتم روائح بخور ممزوجاً برائحة الشبق، وأصغي لمناجاة الخالق: “لتكن المشيئة” ممزوجة بسعار الشهوات: “تئن عظامها بالشهوة”، وأشتف من تحت الأرض “غابة من الرءوس تضربها الريح فيتصاعد نواحها الراجف في منتصف الليالي”…
قرأتها لأول مرة منذ عشر سنوات، وحتى هذه اللحظة مازالت تبدو لي عالماً سحرياً بين دفتي كتاب، عالماً يزخر بالتضافر بين الحسي والحدسي، المادي والروحاني، القدري والإرادي، المتخيل والأسطوري، السردي والشعري. عشر سنوات لم أفلت من سطوتها، فكثيراً ما أضبط نفسي أدندن مواويلها بلحنٍ خاص:
ويا سيدي المجروح مددين
يا أبو الجرح رباني
عشش عليه القمري والكروان.
وهذا نفس ما حدث معي بعد أن ودعت العالم المتشعب في “العايقة بنت الزين”، ظل السؤال “متواتراً مع إيقاع الطبل ورنين الخلخال” عالقاً بذهني: من قتل من؟
وصولاً إلى الصيحة المشحونة بالوجد.. “يا وعدي” في “الأفندي”، الرواية السادسة لناجي، والثانية التي اختار السرد فيها بضمير المتكلم بعد خافية قمر.
كُتب عن “الأفندي” أنها في مجملها رحلة صعود شخص هامشي من القاع إلى عالم رجال الأعمال، كما أنها ترصد تجريف المجتمعات العربية واضمحلال الطبقة المتوسطة، والأحداث والأزمات التي مرت من ثورة يوليو وصولاً إلى حرب الخليج وسقوط بغداد، أي أهم أحداث العالم العربي في النصف الثاني من القرن المنصرم، وأضيف:مع التركيز على التردي في شريحة المثقفين باعتبارها المنوط بها النهوض بالمجتمع، فيما تعجزها المتغيرات العاصفة عن ذلك، بل وتضخ فيها من فسادها حتى ينتهي بها الحال إلى أحد هذه المآلات: الإقصاء الذي قد يؤدي إلى الانتحار: الإعلامية المصرية “وداد قروي” التي تعرضت لمؤامرة للإيقاع بها، أو الاندماج: “فايز ناصف” شاعر توقف عن الإبداع، يجعله سعيه وراء المال يسعى للعمل بالسينما كمجال مربح لا كفن، أو خيار المغادرة: “موزة” الشاعرة الخليجية الشابة التي تودع أصدقاءها من المثقفين المصريين “احتميت بكم لكنكم غير قادرين حتى على حماية أنفسكم” كأنها إشارة لتراجع دور مصر الريادي. كل هذا موجود بالأفندي، لكن جوهر وقيمة هذه الرواية، برأيي، هو مسعاها الجاد في إضاءة اللغز الإنساني، من خلال السرد شبه التشريحي بضمير المتكلم، على العكس من استخدام هذا الضمير كتكئة، لا غير، للحكي عن خافية قمر “حكي عن الماضي”. يأتي تبئير “حبيب الله الأفندي” الراوي والبطل، متضافراً مع خط درامي تصاعدي مع تسليط الضوء على علاقة الراوي الطويلة ” ثلاثين عاماً” مع “نازك” بائعة الورد في الخان والمرأة التي احتلت أغلب صفحات الرواية، رغم اختلافهما البين الذي انعكس في تأثير التغيرات الاجتماعية على كلٍ منهما بشكلٍ مختلف.
“كنت من أحباب الله مثل كل الأطفال، لكني فقدت ذلك، أعتقد الجميع أيضاً، يحدث ذلك بالتدريج. أظن أن ما يميزني عن غيرني هو أنني أعرف كيف يحدث ذلك، إنه يبدأ من اللحظة التي تكتشف فيها أن لك اسماً يخصك، شيئاً يميزك، يوماً بعد يوم تزداد ابتعاداً، ينقطع الخيط”.
بهذه الفقرة الموحية يفتتح ناجي روايته، فحبيب الله هو الابن الوحيد لملاك هانم من زوجها سي كلام الحلاق الذي وضعت حدوداً فاصلة بينها وبينه بسبب إهانته لها التي لم تتمكن من غفرانها. جفاء الزوجين جعل ملاك هانم تغمر حبيب الله بمحبتها وتدليلها: “تحملني في هالة القديسين التي يرسمها حول وجهها نور الشباك المستدير”، بينما يخجل من أبيه “يعتبره تافهاً” لكثرة كلامه مع زبائنه حتى عن أسرار بيته، يبلغ خجل حبيب الله من أبيه الذروة عند وفاة ملاك هانم إذ يدفنها سي كلام بمدافن الرحمة لضيق ذات اليد. يكبر حبيب الله ومعه أنانيته وتقشف مشاعره تجاه الآخرين إضافة لمبالغته في تقدير المال التي تجد متنفسها في فترة الانفتاح “البلد كلها تمد يدها وتأخذ..” وهذا ما لن يفهمه سي كلام بل وقفت اللقمة في زوره فمات. يبدأ حبيب الله صعوده بتجارة العملة ثم الخدمات السياحية، فالعقارات مستخدماً كل الوسائل غير القانونية “المتاحة” التي تؤدي للربح الهائل، ثم السينما “التبقيعية”، وصولا إلى تحقيق اللقب الذي أطلقه عليه الناس من البداية:
” حبيب الله الأفندي. اختارت أمي الاسم، واختار الناس اللقب، أجمعوا عليه كأنهم يقرأون من كتابٍ واحد.”.
يحدث هذا الصعود متزامناً مع تنامي علاقته بنازك البنت “التافهة” ـ كما يصفها ـ التي كانت تبيع الورد ثم صارت تقرأ الطالع في الكف والفنجان أي “تحتال على الحياة من أجل تربية ابنتها” كما جاء على لسان إحدى الشخصيات.
استهواني حقيقة بناء الشخصية وتطويرها درامياً:
ـ الأنانية والتقشف العاطفي: يضجرني أبي/ أبخل بنفسي على النساء/ أدركت أن بيننا توافق فأخافني الأمر/ أحتفظ بطاقتي/ أزعجني ما نشر عن تفشي حالات الضعف بين الرجال، اهتديت إلى تمرين../ أحتفظ بكل قطرة مني/ أبخل ببهجتي.
دعم هذه الصورة برأي أصدقائه “الذين لم يتعاطف مع أي منهم بشكل حقيقي” فيه:
فايز ناصف: يعرف كل شيء ولا يشغل نفسه بأي شيء
موزة: أنت لا تختلف مع أحد لأنك لا تهتم
ـ احتقار الآخر: ينكر حبه لنازك، فيما تفلت منه الحقيقة: كيف أصف صوتها؟/ أحياناً أتأمل بصمة إصبعها على الورقة/ امرأة بنكهة المطر. ثم عجزه عن التواصل مع أية امرأة أخرى، لكنه يصر على الإنكار لأنه يراها أدنى منه لا تليق به: “لم يكن يهمني أمرها/ كنت خجلاً جداً منها/ مشكلتي الحقيقية حرصها على الالتصاق بي. ثم انقلابه على الحاج حسين حينما رفض الممارسات غير القانونية.
ـ الميكانيزمات الدفاعية: كل سلوك غير سوي يحتاج تبريرات ذاتية لكي يتقبل الشخص نفسه وإلا لعاني من انقسام مرضي. حبيب الله لكي يبرر نذالته مع نازك راح يسوغ لنفسه حججاً تدفعه لاحتقارها، كترسيخ صورتها داخله كامرأة متسيبة: “لا أعتبر وصولي لنازك إنجازاً، أعرف أنه كان أمراً سهلاً لغيري، تحت أي سلالم…” ولا يصدقها بأنه رجلها الأوحد. كما يتجاهل صفاتها الطيبة “أحرقت ورقة بخمسة جنيهات أمام وجهه: لا تهتم بالمال مثله”، تتعامل مع الناس بصدق “وجه واحد”، كبرياءها رغم فقرها. ثم كرر ذلك مع وداد ليسوغ لنفسه استغلالها، فيما كانت كل منهما ضحية للمتغيرات لا مستفيدة منها. فلكي يسوغ لنفسه الفساد يدعي أن الجميع يمارسه، أي يحيل ويُسقط ما به على الآخرين،على الأقل يعممه.
“الأفندي” رواية سيرية شديدة الحميمية، وهي رواية عن زمننا الحالي “واقعية“: بكل تفاصيل تغيرات الانفتاح الاستهلاكي: سبيل ماء مثلج، بذخ، إتجار بكل شيء. وهي رواية راقية فنياً:تزخم باللغة الشعرية “الناجية: من ناجي” كما تزخم بألاعيب مخيلته الجامحة، فهناك: مزج الحلمي بالواقعي: “عجوز وحيد أشيب يجلس على الكرسي بالمقلوب، جسمه يتشقق كالفخار وتتصاعد منه رائحة الحريق”، وتزخم أيضاً بحكاياته وأساطيره المتقنة فحكاية “ستنا والواطي”: “قطفتله ستنا الورد وهو جرحها بشوكه” هي مرآة لعلاقة حبيب الله بنازك، حكاية الحب والغدر ثم الانتقام من الغادر، وفيما كان انتقام ستنا من الواطي مباشراً، جاء انتقام نازك غير مقصود فقد أخفت عنه أن “نور” هي ابنته لأنها توقعت أنه لن يصدقها وسيعتبرها تخدعه بقصد ابتزازه، لذا جعلها كبرياؤها تخفي حقيقة نور عنه حتى اكتشف ذلك بنفسه بعد موتها. أما حكاية “حمروش الدكر” الذي حرم الحلال وأضاع حياته في السعي وراء الجنية التي لم تكن سوى وهم، هي أيضاً مرآة لحياة حبيب الله التي أضاعها في السعي وراء المال والثروة، غافلاً عن حبه وسعادته وابنته.
إن رواية عن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية تغري في العادة بتنميط الشخصيات وهو الفخ الذي سيفلت منه ناجي، فباقتدار نفساني مخضرم ينحت الشخصيات بتبايناتها الإنسانية العميقة، كما أن خصوبة وسطوة مخيلة كمخيلة ناجي قد توقع صاحبها في فخ الفانتازيا الخاوية من المعنى أو من الهموم، وهذا أيضاً أفلت منه ناجي بسبب ثقافته الواسعة وروحه المهمومة بالإنسان. تحية للروائي القدير: محمد ناجي، بل سأحييه كما في رواياته: سلام عليك.