تلمَّسي بشرته المخملية الثرية بألوانها الدافئة. ارتشفي عصارته الراوية، ارتشفي ولا تشربي، اتركيها تروي ظمأكِ، وتروي لكِ تصورها عن فاكهة الجنة.
حاولي أن تمضغي لحمه الناعم ببطء، لا تبتلعيه بسرعه، لا تزدرديه كما نزدردُ كثيرًا من مواقف الحياة بلا انتباهٍ علَّها تمر.. الخوخ فاكهةٌ لا تستحق أن تتركيها تمر، عمرها قصير، وبهجتها خاطفة.
لا تصدقي ما يُقالُ عنه بازدراءٍ وتسليم: “اللي ما يرضاش بالخوخ يرضى بشرابه”، فلا شراب في حلاوة شراب الخوخ، في حلاوة “زبادو” الخوخ!
لا شيء يفزع في الخوخ إلا اقتراب حروف اسمه من حروف كلمة “تَخَوُّخ”، تَخَوُّخ جذع الشجرة بعد أن ينخره السوس فلا يبقى منها إلاَّ قشرة هشة قد تتفتت بمجرد اللمس أو نفحة هواء، وتَخَوُّخ نفوسنا مثلها بعد أن تعدم ما تحب، ومن تحب، وما ومن يمدها بالحياة.
كُلي الخوخ، تناوليه، مثل سر التناول المقدس، اجعليه أحد أسرارك السبعة. وفي الوقت نفسه تذوقيه كمتعة بشرية مجردة.
إذا كانت القشرة صعبة المضغ، عصيةً على الهضم، ضعيها على لسانك، لوكيها ثم الفظيها كما لاكت هند بنت عتبة كبد حمزة ثم لفظته حين لم تقوَ على ابتلاعه، فعلتْ بدافع كراهية المنتقم وحقده، افعلي أنتِ بدافع امتنان الموهوب وشكره لهبةٍ وهبها الخالق لخلقه، فانهلي منها ما استطعتِ.
لا تحرمي نفسك من ثراء البذور وتأملي نحتها وتلمسي تجاويفها وخشونتها، إن استطعتِ اثقبيها واجعلي منها مسبحةً ضخمة علقيها على الحائط مع سجادةٍ يدوية صوفيةٍ ترابية اللون. أو افرشيها في حوض السمك بدلاً من الكريات الزجاجية الصماء ذات الألوان الصناعية. إذا كان لديكِ وقتٌ لبعض اللهو، وأحببتِ أن تفرغي شيئًا من الطاقة، أحضري المطرقة واكسري البذور حتى يظهر لُبُّها اللوزي، إذا غامرتِ بتذوقه ستجدينه مُرًّا، فقد وُهِبَتْ الحلاوة كلها للطبقات الخارجية، ولكنها تجربةٌ لا بأس بها.
تقولين:
“متعةً لافتة للنظر
عندما أنزع القشور عن الفاكهة
أنزع زهوها
أعريها بسكينٍ صدئ
بارد
أمزق غرورها
أحرمها من ألوانها ونعومتها ولمعانها
أشقق جلدها.. لأحظى بالقلب اللين!!!”*
أما أنا أجد متعة لا فتةٌ للنظر والذوق واللمس، وبقية الحواس الخمس، وما قد يستجد من أجهزة الحِس.. في أن آكل الفاكهة بقشورها، أن أحميها من النصال الجارحة، أن أترك لها ما تظن أنه طبقتها الحامية، وكبرياؤها المكتسب. أن أحفظ دمائها من أن تُراق على يدي، لتسيل من أنيابي بعد أن أنهشها، وأترك في لحمها آثار أسناني على شكل أهِلةٍ صغيرة متجاورة، لا يحتفل أحدٌ لليلة رؤيتها.
أقضم القشرة الصلبة نوعًا مقارنةً بالقلب الطري، فتظهر طبقتان مختلفتا الألوان، تلك هي المتعة اللافتة للنظر.. في رأيي!
وحتى إذا لم آكلها، إذا كان كل نصيبي من الدنيا الفرجة على فن عرض بائع الفاكهة لها، إن لم أملك ثمنها، أو منعتني ظروفي “الصحية” من أن أمد يدي إليها.. فأنا أمتع عيني برؤية قشرتها، وأمتع وجداني بتخيل ماهية قلبها، وأضفي عليه من الصفات ما أشاء..
تأملي زغب الكيوي الناعم مثل ريش طير خرج لتوه من قشرة البيضة. قشرة التفاح الأرستقراطية، قشرة المانجو التي تتلون ألوانها مثل تلون درجات اصفرار الشمس من الشروق فالزوال فالأصيل فالمغيب. قشرة التين البرشومي الرثة المظهر التي تخفي قلبًا بديعًا يشبه مخلوقًا بحريًا ما. وقشرة التين الشوكي التي تعرف كيف تدافع عن نفسها –لا أحبه بالمناسبة- . قشرة البرتقال بمسامها الواسعة التي تذكرني بشراء “تونر” قابض للمسام و”ماسكات” لإطالة شباب بشرتي بقدر الإمكان. ربما لا تصلح قشرة البطيخ الصلدة للاستهلاك الآدمي، ولكن حين يصبح لدي حصان أسود كما آمل، سوف أقشر طبقتها الخارجية الخضراء، وأقطع طبقتها اللحمية البيضاء قطعًا صغيرة، وأطعمها له. على يقين أنه سيحبها من يدي.
—–
* من نص لشيماء عبد الرسول