يروق لي تخيل حالة خاصة من العشق السري لدى الرسام العجوز (بيرمان) تجاه الرسامة الشابة (جونسي) .. ما الذي يمنع السكير الذي تجاوز الستين، ويعمل كموديل للفنانين، ولم يرسم بعد رائعته التي يتحدث عنها كثيراً أن يحب المحتضرة المصابة بالالتهاب الرئوي، التي تعد عبر النافذة أوراق اللبلاب المتساقطة موقنة أنها ستموت عند سقوط الورقة الأخيرة؟ .. لم يقدم (وليام سيدني بورتر) أي دليل ملموس عن هذه الحالة، ولكن يكفيني مثلاً أن يخاطب (بيرمان) صديقة الرسامة المحتضرة (سو) قائلاً: (أنت مجرد امرأة كغيرك من النساء)، أو أن يقول لها: (لا أطيق أن أكون في مكان تكون فيه الآنسة “جونسي” مريضة) .. نعم .. ربما تحتمل العبارة الأخيرة انسياقاً لحقيقة كشف عنها (بورتر) عن الرسام العجوز بأنه مسن شرس، يسخر من الضعف البشري في أي شخص، وهو ما يدفعه بالضرورة لكراهية الوجود داخل حيز يائس من الهشاشة .. لكنني أجد نفسي مدفوعاً لعقد صلة بين موقف (بيرمان) من النساء الذي أوضحته عبارة (أنت مجرد امرأة كغيرك من النساء)، وشعوره تجاه الضعف البشري .. كأن هذا الشعور هو حصيلة تراكم من هزائم الماضي التي انتهت إليها علاقة الرسام العجوز بالمرأة، لذا فسخريته من الضعف البشري ليست سوى انتقامه من الذاكرة وهي تتأمل حضورها في الآخرين .. لكن احتقار الضعف ليست مقاومة الحاضر للماضي فحسب، وإنما محاولة حماية هذا الحاضر من أن يكون امتداداً للذاكرة، وأعني بذلك أن تتسبب رسامة شابة اسمها (جونسي) في إعادة خلق الهزائم القديمة وترسيخها كبصمة أزلية لا سبيل لمحوها، وفي نفس الوقت تثبيتها كيقين خالد لن يحتفظ بمرارته السابقة وإنما ستصير آلامه حينئذ أكثر وحشية .. هذا ما سيؤدي إليه عشق (بيرمان) لـ (جونسي) ولهذا كان يجب أن يظل مكتوماً، وكان ينبغي أن يدافع الرسام العجوز على نحو أعنف عن (ضعفه البشري) بالسخرية من (الضعف البشري).
للوهلة الأولى بدا كأن (بيرمان) لم يعثر طوال حياته على الإلهام المنتظر الذي يقوده لرسم رائعته التي ظل يتحدث عنها حتى توصل إليها أخيراً حينما عرف أن حياة الرسامة الشابة معلقة بها .. يسهل القول هنا أن الدافع الإنساني (إنقاذ حياة كائن من الموت) هو أقوى حافز للفن، لكنني ـ على أساس الصلة التي تخيلتها بين الرسام العجوز و(جونسي) ـ أرى في رسم (بيرمان) لورقة لبلاب بديلة للورقة الأخيرة التي سقطت مما جعل الرسامة الشابة تسترد الحياة أرى فيه عثوراً على حالة العشق المثالية التي كان يبحث عنها الرسام العجوز طوال حياته .. الوجود الذي يتجسد هذا العشق بداخله محمياً من الهزائم البديهية للماضي .. حقق (بيرمان) برسم ورقة اللبلاب الأخيرة نوعاً من الخلاص تمثّل في تمرير مشاعره لـ (جونسي) ـ وهو اتصال أعمق من الفكرة الظاهرية عن المخاطرة أو التضحية من أجل الآخر ـ دون تورط في اعتراف مباشر ـ كان سيدفع ثمنه ربما مثلما كان يحدث في علاقاته السابقة ـ لذا فالرسام العجوز أنقذ ذاكرته بقدر ما أنقذ الرسامة الشابة، ووضع حداً للمصير الحتمي الذي كان دائم التعقب لخطواته .. رسم ورقة اللبلاب الأخيرة كانت اللحظة التي لم يكن يحتاج فيها (بيرمان) للسخرية من الضعف البشري إذ أنه ـ ربما لأول مرة ـ كان في أمان من ترصده.
أي اختلاف يمكن تحديده بين علاقة الرسام العجوز و(جونسي) وما يمكن تصوره من علاقات (بيرمان) السابقة التي لم تقوده لرسم رائعته؟ .. هل هو الفرق بين التصريح والكتمان؟ .. هل هو الرغبة في الحصول على غنيمة ما؟ .. هل هو التهديد بالفناء؟ .. في صورة (حب مكتوم) من (شذرات من خطاب في العشق) لـ (رولان بارت) لم يتمكن (فرتر) الذي كان يرسم كثيراً في السابق وبشكل جيد من إعداد صورة (شارلوت) بل توصل إلى وضع خطوط طيفها فسقط أسير الطيف: (فقدت القوة المقدسة والمحببة التي كنت بواسطتها أخلق من حولي أناساً) .. (بيرمان) كان بإمكانه أن ينجز رسومات كثيرة ولكن رائعته لن تكون من بينها .. ربما لأنه لم يجرب الكتمان، وبالتالي كان ينتظر غنيمة ما .. الرسام العجوز كان يحتاج إلى التهديد بالفناء للوصول بالعشق إلى الطيف أي إلى النموذج المتجرد الذي لا يُصرّح بالحب ولا يطارد الامتلاك .. ورقة اللبلاب الأخيرة كانت هي طيف (جونسي) .. روحها ـ بما أن حياتها ستنتهي مع سقوطها ـ التي لن يحوزها (بيرمان) أبداً .. لنتذكر عبارة (بورتر) المؤكدة لتحوّل الرسامة الشابة مع مرضها إلى روح: (المرء الأشد توحداً في العالم يتحول إلى مجرد روح عندما يستعد للقيام برحلته البعيدة التي يلفها الغموض) .. لكن (بيرمان) مات إثر رسم ورقة اللبلاب الأخيرة .. كأنك إما أن تتعذب بـ (ضعفك البشري) نتيجة هزائم الماضي أو تفقد حياتك حينما تحاول إنقاذ ذاكرتك من لعنة الرغبة .. كأن الحياة والرغبة شيء واحد لن يبقى إذا قررت تحويله إلى طيف .. هذا ما يجعل تساؤلي الأخير ضروري بطريقة أو بأخرى: ماذا لو لم يمت الرسام العجوز بالالتهاب الرئوي، وعاش ليرى شفاء ( جونسي) من نفس المرض .. هل كان سينتظر غنيمة ما تتجاوز إنقاذ حياتها؟.
…………..
الورقة الأخيرة
وليام سيدني بورتر
ترجمة: زياد الحكيم
في منطفة صغيرة الى الغرب من ميدان واشنطن اضطربت احوال الشوارع وتحولت الى اشرطة صغيرة تسمى “المساكن”. وتشكل هذه المساكن زوايا ومنحيات غريبة. فالشارع الواحد يقطع نفسه مرة او مرتين. وقد اكتشف احد الفنانين مرة ان هذه الشوارع قد تقدم فائدة قيمة للفنان الذي يحمل اصباغه واوراقه والواحه فهو يجد نفسه وقد عاد الى ذات النقطة التي انطلق منها دون ان يزيد حسابه المصرفي سنتا واحدا.
لهذا سرعان ما اقبل المهتمون بالفن على قرية غرنتش الغريبة بحثا عن المساكن ذات الانماط التي تعود الى القرن الثامن عشر بنوافذها التي عرفت في شمال البلاد واسطحها واجورها الرخيصة. واصبحت المنطقة مستعمرة.
وفي الطابق العلوي من بناء مؤلف من ثلاثة طوابق مشيد بالآجر اتخذت كل من سو وجونسي مرسما لهما. وكان اسم جونسي اسم تحبب لمن تعرف باسم جوانا. كانت احداهما من ولاية مين والاخرى من ولاية كاليفورنيا. وكانتا قد التقتا الواحدة بالاخرى في احد مطاعم الشارع الثامن وتوصلتا الى ان لهما اذواقا متقاربة في الفن وفي سلطة الهندباء. وقررتا ان تقيما معا.
كان ذلك في شهر مايو. وفي نوفمبر اقتحم المستعمرة برد شديد اصطحب معه ما يسميه الاطباء بالالتهاب الرئوي واصاب شخصا هنا وشخصا هناك باصابعه الجليدية. وعلى الجهة الشرقية تجول هذا البرد المدمر بجرأة مصيبا العشرات، ولكنه جر قدميه ببطء في متاهات الطرقات الضيقة والملتوية التي تراكمت عليها الطحالب في المنطقة.
ولم يكن الالتهاب الرئوي رجلا عجوزا شهما. ولم يكن صراعه مع فتاة غضة هزيلة من كاليفورنيا بالصراع المنصف والمتكافئ. ولكن جونسي استلقت في سريرها دون حراك تنظر من خلال نافذة من الطراز الهولندي الى جدار آجري للمنزل المجاور.
وذات صباح في ما كان يهم بالانصراف قاد الطبيب ذو الحاجبين الاشعثين الرماديين سو الى مدخل البيت ليقول لها وهو ينفض مقياس الحرارة الزئبقي: هناك احتمال واحد من – لنقل – عشرة. وهذا الواحد يعتمد على رغبتها في ان تعيش. لقد قررت صديقتك الصغيرة انها لا تريد ان تعيش. ولهذا فان صحتها لن تتحسن. هل هي تفكر بشيء يشغل بالها؟
قالت سو: هي – هي تريد ان ترسم خليج نابولي في يوم من الايام.
– ترسم؟ ها! هل هي تفكر في شيء يستحق ان تفكر فيه مرتين؟ رجل مثلا؟
– رجل؟ قالت سو بلهجة ساخرة. هل ثمة رجل يستحق ان. . . ولكن لا ايها الطبيب. ليس هناك شيء من هذا القبيل.
قال الطبيب: اذن هذا هو سبب الضعف. سأقوم بكل ما يمكن للعلم ان ينجزه من خلالي. ولكن عندما تبدأ مريضتي باحصاء عدد عربات جنازتها فان قدرة الدواء على اشفائها تنخفض خمسين بالمئة. واذا استطعت ان تجعليها تسأل سؤالا واحدا عن عباءة شتوية ذات اكمام من طراز جديد فانا اعدك ان يكون احتمال شفائها واحدا من خمسة وليس واحدا من عشرة.
وبعد انصراف الطبيب ذهبت سو الى غرفة المشغل وذرفت دموعا حولت بها منديلا يابانيا الى كتلة من اللب. وبعد ذلك جرت قدميها الى غرفة جونسي حاملة لوحة الرسم وهي تدندن بلحن موسيقي.
كانت جونسي مستلقية دون حراك، وكانت تنظر نحو النافذة. وتوقفت سو عن الصفير ظنا منها ان جونسي نائمة.
رتبت لوح الرسم وشرعت ترسم بالقلم والحبر رسوما توضيحية لقصة ستنشرها احدى المجلات. لا بد ان يمهد الفنانون طريقهم الى الفن برسم صور توضيحية لمجلات تنشر قصص مؤلفين شباب يمهدون بدورهم طريقهم الى الادب.
وفي ما كانت سو ترسم بنطالا انيقا لرعاة البقر ونظارة للبطل من ايداهو سمعت صوتا خفيضا يتكرر مرة بعد مرة. اقتربت بسرعة من السرير.
كانت عينا جونسي مفتوحتين وهي تحدق من خلال النافذة وتعد. كانت تعد عدا عكسيا.
قالت: اثنتا عشرة. وبعد ذلك بقليل قالت: احدى عشرة. عشرة. تسعة. ثم قالت: ثمانية. سبعة في وقت واحد تقريبا.
نظرت سو باستغراب الى النافذة. ماذا كانت جونسي تعد؟ لم يكن وراء النافذة الا فسحة جرداء كئيبة وجانب من الجدار الآجري على بعد عشرين قدما. وكان ثمة نباب لبلاب قديم، قديم، مـتآكل الجذور يتسلق الى منتصف الجدار الآجري. وكانت الريح الباردة قد اسقطت اوراقه حتى لم يبق من النبات الا هيكله المعلق. وكان اجرد تقريبا،ممسكا بالجدار.
سألت سو: ماذا يا عزيزتي؟
قالت جونسي هامسة تقريبا: ستة. انها تتساقط بسرعة اكبر الان. قبل ثلاثة ايام كان ثمة نحو مئة منها. اصابني الدوار وانا اعدها. اما الان فالامر سهل. ها هي واحدة اخرى تسقط. ولم يبق الا خمس منها الان.
– خمس ماذا يا عزيزتي؟ قولي لصديقتك سو.
–ورقات. على نبات اللبلاب. عندما تسقط الورقة الاخيرة لا بد لي ان امضي انا ايضا. عرفت ذلك قبل ثلاثة ايام. الم يخبرك الطبيب؟
قالت سو بسخرية مريرة: لم اسمع بسخف كهذا من قبل. ما علاقة اوراق اللبلاب بتحسن صحتك؟ ثم كنت تحبين نبات اللبلاب ذاك، ايتها الفتاة الشيطانة. لا تكوني غبية. اخبرني الطبيب هذا الصباح ان فرص تحسن صحتك في القريب العاجل هي – لاقل لك ما قاله بالضبط – عشرة الى واحد. وهذا احتمال جيد كاحتمال ركوبنا سيارة في نيويورك او كاحتمال مرورنا ببناء جديد. جربي ان تأخذي بعض الحساء الان ولتذهب سو الى رسمها بحيث يمكن ان تبيعه للمحرر وتشتري بثمنه بعض النبيذ لابنتها المريضة وبعض شرائح اللحم لنفسها الجشعة.
قالت جونسي وهي تنظر الى النافذة: ليس من الضروري ان تشتري مزيدا من النبيذ. ها هي تسقط واحدة اخرى. لا اريد ان اتناول الحساء. بقي اربع منها فقط. اريد ان ارى الاخيرة تسقط قبل ان يحل الظلام. عندئذ سأمضي انا الاخرى.
قالت سو وهي تنحني فوقها: جونسي يا عزيزتي. هل تعدينني ان تبقي عينيك مغمضتين فلا تنظرين الى النافذة حتى انهي الرسم الذي بين يدي؟ يجب ان اقدم هذه الرسوم بحلول يوم غد. انا بحاجة الى النور. والا فاني يجب ان اسدل الستار.
قالت جونسي ببرود: الا يمكنك ان ترسمي في الغرفة الاخرى؟
قالت سو: بل اريد ان اكون بجانبك هنا. وانا لا اريد ان تواصلي النظر الى اوراق اللبلاب التافهة هذه.
قالت جونسي: ابلغيني بمجرد ان تنهي الرسم – واغمضت عينيها وهي مستلقية وشاحبة كأنها تمثال قد هوى – لاني اريد ان ارى االورقة الاخيرة وهي تسقط. لقد هدني الانتظار. وهدني التفكير. اريد ان ارخي قبضتي على كل شيء وان اسقط الى اسفل – الى اسفل مثل هذه الاوراق المرهقة المسكينة.
قالت سو: حاولي ان تنامي. يجب ان ادعو بيرمان ليكون نموذجا ارسمه – موديل – مكان ذلك الناسك العجوز. سأعود في اقل من دقيقة. حاولي ان لا تتحركي حتى اعود.
كان بيرمان العجوز رساما يسكن في الطابق الارضي تحتهما. وقد تجاوز الستين من عمره. وكان له لحية تشبه لحية موسى كما رسمه مايكل انجيلو. وكان رساما فاشلا. انفق اربعين سنة وهو يقبض على الفرشاة دون ان يقترب بما يكفي ليمس اطراف ثوب معشوقته. وكان دائما على وشك ان يرسم رائعته، ولكنه لم يكن يبدأ العمل. وعلى مدى سنوات عديدة لم يرسم الا اعمالا قليلة القيمة في فترات متباعدة في مجال التجارة والاعلان. وكان يكسب قوت يومه بالعمل كـ – موديل – امام الفنانين الشباب الذين لم يكن في مقدورهم ان يستعملوا – موديل – محترفا. كان يكثر من شرب المسكرات ويتحدث عن رائعته المقبلة. ومن ناحية اخرى كان مسنا صارما شرسا يسخر من الضعف البشري في اي شخص. وكان يعتبر نفسه حاميا للفتاتين اللتين كانتا تقيمان في المسكن الذي فوقه.
وجدته سو ورائحة المسكرات تهف منه في مسكنه المعتم. وفي ركن من الاركان كان ثمة لوح ابيض مسند على حامل ظل على حاله خمسا وعشرين سنة بانتظار ان يبدأ بيرمان بوضع اول خطوط رائعته عليه. اخبرته سو بتخيلات جونسي وكيف انها تخشى عليها من ان تذوي وتسقط مثل ورقة البلاب اذا ما ضعفت قبضتها على العالم.
– هراء! هل هناك اشخاص في العالم من السخف بحيث يموتون لمجرد ان اوراقا تتساقط من نبات لعين؟ لم اسمع بهذا من قبل. لن اقف كـ – موديل – لترسمي ذاك الناسك اللعين. لماذا سمحت ان تدخل افكار مجنونة كهذه الى رأسها؟ آه كم مسكنية الآنسة جونسي.
قالت سو: انها مريضة جدا وضعيفة. وملأت الحمى رأسها بتخيلات عجيبة. حسن يامستر بيرمان. اذا لم تكن ترغب في ان تعمل – موديل – امامي فليكن كما تريد. ولكني اعتقد انك عجوز بالغ القبح.
صاح بيرمان: انت مجرد امرأة كغيرك من النساء. من قال لك اني لا اريد ان اقف امامك كموديل؟ هيا سأذهب معك. منذ نصف ساعة وانا احاول ان اخبرك بأني موافق على الوقوف امامك. ولكني لا اطيق ان اكون في مكان تكون فيه الانسة جونسي مريضة. في يوم من الايام سأرسم رائعتي. وبعد ذلك بامكاني ان ارحل. نعم.
كانت جونسي مستغرفة في النوم عندما وصلا الى الطابق العلوي. اسدلت سو الستار على النافذة واشارت لبيرمان ان يدخل الى الغرفة الاخرى. ومن هناك اطلا عبر النافذة ونظرا بتوجس الى نبات اللبلاب. ثم نظر الواحد منهما الى الاخر دون ان يقولا شيئا. كان المطر يهطل باردا وقويا مختلطا بالثلج. وجلس بيرمان بقميصه الازرق القديم على غلاية مقلوبة تمثل صخرة.
عندما افاقت سو من نوم استغرق ساعة في صباح اليوم التالي وجدت جونسي بعينيها المرهقتين تنظر الى الستار الاخضر المسدل فوق النافذة.
همست بلهجة آمرة: ارفعي الستار.
واطاعت سو بقلق.
ولكن ياللمفاجأة! فبعد المطر الشديد الذي تساقط في الليل وبعد الرياح العاصفة كان ثمة ورقة واحدة لا تزال معلقة على النبات. كانت الورقة الاخيرة. كانت لا تزال خضراء داكنة تعلو اطرافها المسننة صفرة تنم عن تحلل واندثار. كانت معلقة بقوة على ارتفاع عشرين قدما من الارض.
قالت جونسي: انها الاخيرة. كنت اعتقد انها ستسقط اثناء الليل بالتأكيد. فقد سمعت الرياح. انها ستسقط اليوم. ولسوف اموت في الوقت نفسه.
قالت سو مقتربة بوجهها المرهق من الوسادة: عزيزتي، عزيزتي! فكري بي اذا كنت لا تريدين ان تفكري بنفسك. ماذا افعل؟
ولكن جونسي لم تجب. فالمرء الاشد توحدا في العالم يتحول الى مجرد روح عندما يستعد للقيام برحلته البعيدة التي يلفها الغموض. وبدا ان التخيل قد استحوذ عليها على نحو اقوى في الوقت الذي تراخت فيه الروابط – الواحدة بعد الاخرى – التي تشدها الى الصداقة والى العالم الدنيوي.
ومضى النهار. وحتى في عتمة المساء كان بامكانهما ان تبصرا ورقة اللبلاب معلقة على الجدار. وعندما جاء الليل عصفت ريح الشمال مرة اخرى وتساقط المطر مدرارا.
وعندما طلع ضوء النهار طلبت جونسي التي لا تعرف الرحمة ان يرفع الستار عن النافذة.
كانت ورقة اللبلاب في مكانها.
نهضت جونسي لتحدق بالورقة وقتا طويلا. ثم نادت سو التي كانت تحرك حساء الدجاج فوق موقد الغاز.
قالت جونسي: كنت بنتا سيئة ياسو. شيء ما قد ابقى الورقة في مكانها ليبين لي كم كنت شريرة. انها خطيئة ان يتمنى المرء ان يموت. بامكانك ان تحضري لي بعض الحساء وبعض الحليب. لا، احضري لي اولا مرآة. ورتبي الوسادات حولي. وسأجلس لارقبك وانت تطبخين.
وبعد ساعة قالت: يا سو. في يوم من الايام ارجو ان اتمكن من رسم خليج نابولي.
وحضر الطبيب بعد الظهر. واصطنعت سو سببا لمرافقته الى الباب عندما هم بالخروج.
قال الطبيب وقد امسك بيد سو النحيلة: الفرص متعادلة. اذا اعتنيت بها بما يكفي فبامكانك ان تربحي. والان علي ان انظر في حالة اخرى في المسكن الذي تحت. اسمه بيرمان. فنان من نوع ما. اعتقد انه مصاب بالتهاب الرئة ايضا. انه رجل مسن ضعيف. واصابته حادة. ولا امل في شفائه. ولسوف ننقله الى المستشفى اليوم ليلقى عناية افضل.
في اليوم التالي قال الطبيب لسو ان جونسي خرجت من دائرة الخطر. التغذية والرعاية – هذا كل شيء الان.
وبعد الظهر اقتربت سو من سرير جونسي فوجدتها سعيدة تحيك وشاحا من الصوف الازرق. ووضعت احدى ذراعيها حولها.
وقالت: عندي شيء اقوله لك ايتها الفأرة البيضاء. مستر بيرمان توفي في المستشفى اليوم بالتهاب الرئة. كان مريضا ليومين فحسب. عثر عليه الخادم صباح اليوم الاول في غرفته وهو يعاني الما مبرحا. وكان حذاؤه وملابسه مبللة وباردة برودة الثلج. ولم يتمكن احد من ان يحدد اين كان بيرمان في مثل هذه الليلة الرهيبة. ثم وجدوا مصباحا لا يزال مشتعلا وسلما كان قد نقل من مكانه وبعض الفراشي المبعثرة ولوحا مزج عليه اللونان الاخضر والاصفر. انظري من النافذة يا عزيزتي الى ورقة اللبلاب الاخيرة. الم تتساءلي لماذا لم تسقط بفعل الرياح العاصفة؟ يا عزيزتي – انها رائعة بيرمان. فقد رسمها على الجدار عندما سقطت الورقة الاخيرة.