اختار ليوتوبياه عالم اللعب حيث تكفي كلمة نعم أو لا للمشاركة في كل وأي نشاط ممتع… اختار اللعب بكل مرتكزاته النفسية والفلسفية، اختار للجنة عالم اللعب، حيث الشبق الذهني والمتعة الجسدية بلا حدود أو غاية أو هدف. ثم لا يلبث وأن ينتقل بلعبه وعبثه إلى عالم أرحب، عالم الفن والمثال، حيث المدينة التي رسمها على غرار مدينتنا وحيث البشر على غرار من نعرف لكنهم جميعا ليسوا من الحقيقة في شيء، فهذه مدينة من ممثلين وكل ما فيها أدوار مرسومة بعناية وسيناريوهات متقنة..
هذا الفصل هو اطول الفصول وأبرعها في اعتقادي، فالسيناريو والحبكة مرسومان بمنتهى العناية والراوي يرسم لوحته بألوان زاعقة تجبرك على التركيز والتأمل، يصور الشخصيات كما يبدعها رسام الكاريكاتير، يزيد من مساحات الظلال ويتعمد التركيز على صفات معينة وإبرازها بشكل فكاهي، مشهده التمثيلي كذلك الذي يقدم على خشبة المسرح من تراجيديا أو كوميديا قديمة، ممثلون يضاعفون من ردة أفعالهم ويرفعون أصواتهم ويؤدون بشكل يتعمدون فيه الضغط على مخارج ألفاظهم والتأكيد على انفعالاتهم..
يتناص كذلك الكاتب وبشكل بارع وسلس في كثير من الأحيان مع بعض مشاهد الأفلام القديمة وأحيانا السير الشعبية، ليستدعي منها جمل وعبارات شهيرة أو شخصيات محفورة في مخيلتنا الجمعية ليضفرها بشكل بارع مع أقاصيصه وخيالاته فيفتح أبعادا أبرح لأبطاله وحكيهم وليحاكمهم من خلال تلك المخيلة الجمعية ويحاكم كذلك مخيلتنا الجمعية من خلالهم، في ديناميكية آسرة
في هذا الفصل يسخر الكاتب من الجميع ومن العلوم والفلسفات والديكتاتوريات والثورة والكبر وحتى التواضع والشيم النبيلة لم تسلم منه، وذلك بصورة تجعلك موقن من اللاجدوى لكنك وفي نفس الوقت مستمتع باللعب، وهذا الذي أعنيه بالفارق الرئيس بين كل الأعمال التي تتحدث عن اللاجدوى وتسخر من غاية السلوك البشري أو من نظم العالم وهذا العمل… فالأعمال الأخرى تتركك مكتئبا لكن هذا العمل يتركك متصالحا مع العالم بشكل مدهش، تتقبل فيه ابن الأكابر المحمل بتاريخ عائلته المجيد من مرويات عن فضائح أبيه وسيرة أمه والثوري المؤمن بعالم الأطفال والذي سيبول ابنه الذي بذر بذرته على قبره، الثوري مؤلف الروايات الواقعية والمولع بالتداعي، قائد المهمشين المجهولين الذين لا يعرفون شيئا عن أفكاره العظيمة والذي ينشغل طوال النهار بحل مشاكلهم التافهة….
نحن أمام كاتب يسخر بشكل شديد العذوبة من كل ثوابت البشر واجتهاداتهم وقيمهم، يعري ويكشف برعونة والغريب والجميل والبديع في النص أن هذا العري لا يؤذي العين أو يدفع للموت، الغريب أنك بعد أن تمر بكل ذلك تقبل على الحياة بشغف…
أعتقد أننا أمام لعبة كريات زجاجية أخرى، وإن جعل هسة من لعبة كرياته الزجاجية هي تمام ويوتوبيا العقل البشري وكأن متعة الحياة القصوى في حل معادلات الرياضيات وتضفير الفلسفة بالعلوم في لعبة وكأن تمام غاية النشاط الإنساني وحضارته يوجز في اللعب العقلي، لكننا هنا أمام يوتوبيا مختلفة لا تمجد فقط من المتعة الذهنية الخالصة وتجعل في أعلى فراديس العالم لعبة ذهنية بل نحن أمام نص ينتصر ليويتوبيا من ألعاب كذلك لكنها لعبة تنشغل فيها كل الحواس وتتضفر الفلسفات بالشبق الجنسي بمتعة الحركة بسمو العقل بأحاسيس الجسد، لعبة كريات زجاجية من نوع خاص ، لا يعيش فيها الفيلسوف بوصفه فيلسوفا عقلانيا، بل يعيش فيها الراغب في المتعة بوصفه طفل منفتح على كل تجريب، يتداخل مع لعبته فينسى الغاية والغرض والسبب والنتيجة، ليلتذ بنقطة لا يتقدم فيها الزمن أو يتأخر، مفتوحة على كل جمال وجلال..
ثم ينهي صبحي روايته بلغة مراوغة وصور رمادية وعوالم شبحية، تحبسك طوال الوقت في تلك الحالة بين الحلم واليقظة، ملتذ بتلك الصور التي تتفاعل معها كواقع وتمر أمام عينيك كحلم لينقلنا مجددا من يوتوبياه إلى الواقع وقد مل المروي عنه يوتوبياه التي خلق والتي استمتع بها أقصى درجات الاستمتاع وعاد منها راغبا في حياتنا متصالحا معها، هاتفا بامتلاك كل العالم والسيطرة عليه رغم كل ما يحويه من ألم وتناقض، يغني منتشيا، هاتفا: أنا زيوس…. أنا زيوس….
رواية صبحي شحاتة عمل هام ومركز ويستحق القراءة والإشادة.
وهي منشورة في قطع الجيب الصغير وتباع بسعر رمزي ٣ جنيه في تجربة جديدة للنشر تستحق الإشادة والمتابعة.