أساطير الحوائط

القارىء الضُراط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ينطلق (أحمد طه) من داخل الدلالات المتعددة لـ (الحوائط) ليكوّن من إحالاتها البديهية أساطيراً خاصة تقاوم سلطة هذه الدلالات .. يستبدل السياقات الحتمية لعلاماتها بتنويعات مراوغة لا تخضع للمنطق بل إلى التحولات الرمزية غير المتوقعة التي يحفرها الخيال كآثار متناثرة للآظافر فوق الجدران .. لن تحتفظ الحوائط بصلابتها التقليدية إذن .. إنه ينتزع الحماية والانعزال والاقصاء والاختباء والنفي ـ كدلالات شائعة لها ـ من التماسك العادي، والاتجاهات الثابتة لينحت وجوهها المألوفة داخل احتمالات أخرى مصاغة بإيحاءات متصارعة، ومشاهد مشغولة بالاستفهامات المجازية.

(لأنكم تزدحمون خلف مرآتي / كوجه واحد / يصوب النظرات ـ هادئاً ـ / كما يصوب المحترفون / طلقة / طلقة / تقفز: / شارعاً / فشارع / سنة بعد سنة / ثم تغوص ليلة في الرأس / وليلة في القلب / وليلة أسفل الخاصرة / هكذا / ينبغي الآن أن أستريح / ينبغي الآن أن أبتني حائطاً / خلف حائط / وأن أنحني / خلف مملكتي / كامبراطور أخير).

يتحول الوجه الواحد مع ازدحام الأوجه بداخله خلف المرآة إلى مذبحة لازمنية .. جروح لانهائية، متراكمة، وغير مشروطة بقوانين مدركة للوقت وراء قناع ذاتي .. ذلك ما يجعل للقتل تاريخاً عابراً للمكان .. ذاكرة متواصلة الحدوث والتجدد توزّع جرائمها بشغف داخل جسد أقرب إلى لوحة تصويب ممتعة .. بناء الحوائط المتتابعة ليس تحاشياً للطلقات بل ـ وهنا تبدو اللعبة الأسطورية ـ أشبه بتكوين حيز مقدس للموت يناسب تاريخه المكشوف في المرآة .. الجسد يختزن هذا التاريخ، ولا يزال حاملاً لمغامراته وألاعيبه لذا فالطلقات تأتي من الداخل .. ربما ذلك ما يفسر الانحناءة التي تتجلى كمشهد ختامي يعقب الانتهاء من بناء الحوائط .. التي شيدت ما يشبه نصباً احتفائياً بالقتل قد ـ بما يتفق مع امبراطور أخير ـ يمثل احتفالاً موازياً بنهاية العالم.

(ليس عليك سوى الجلوس وحيداً / بأقل عدد من الأحلام / وبلا نقود ترهق قلبك / المتيم بحبها / واذكر / قبل أن تبدأ معراجك اليومي / أن الجنس ليس الطريق الوحيد / إلى الثورة / وإن كان أقصرها / وأن الأفخاذ ليست الخنادق المناسبة / للصراع الطبقي / وليس لنعومتها / وليس لقابليتها الدائمة للاشتعال / ولكن / لأنها لا تسع الرجل وذخيرته / من الأسفار واللافتات / والأقراص المهدئة / إذن / ينبغي أن يكون الطريق جديداً / ومرصوفاً بعناية / وعلى جانبيه يصطف ذلك النوع / من النساء / الذي يؤجج أحلامك / لا يهم الوقت / ولا يهم لون الملابس الداخلية / لأنك ستمشي قدماً / محتضناً أسفارك القديمة / التي لم تصدقها / حتى الآن).

وراء حائط الحلم لا يرعى (أحمد طه) الأحلام، وإنما يتخفف منها كأنما صارت عبئاً لا يطاق .. تعمل الخدعة الأسطورية على تحويل المفترض إلى ارتكاب مضاد يجادل أصوله الممكنة ويحاكمها .. أنت لا تحتفل بالأحلام بل تُصفّيها إلى ما هو متاح ومملوك في اليد، وإلى ما هو متفهم ومساند وقادر على استيعاب هزائمك .. ما سيبقى بعد ذلك التخفف لن يكون بديلاً بل سيصبح ممراً لمواجهة أكثر وضوحاً مع اليقينات التي تُحرك الذات رغم عدم تصديقها .. تفحص الدوافع الأولية التي خلقت الأحلام .. ربما للتحرر منها .. ربما للحصول على إيمان شاق بها، الأمر الذي يعادل محنة نبي يتمسك برسالة غير محسومة في وعيه.

(لكنني / لست إلهاً معزولاً / أبحث عن سماء خالية / ولست محروماً من المقاهي والبارات / أجلس على عتبة داري / ولست عاجزاً عن الحب / أكتب أشعاراً في النساء / فقط / أحتاج حزباُ يلملم أعضائي / ويمنحني رقماً واحداً / يمكنني حفظه / أو ديكتاتوراً / يخلع خوذته عندما يراني / ويدس في قلبي رصاصة / كما يدس الأجداد الحلوى / في أكف الأطفال).

ربما كان (حائط للحلم “2”) نتاجاً لـ (حائط للحلم “1”) إذ تدخل الأسطورة إلى نطاق التهكم وهي ممارسة تنجز اقتراحين متشابكين .. يأخذك الاقتراح الأول نحو التصديق، أي أن ما تمتلكه الذات هو حلم متحقق ربما لن تحتاج مع وجوده إلى الأرق بأحلام أكبر، أو على الأقل يمكنك اعتباره تعويضاً بشكل أو بآخر عن خطوات أخرى كان يجب اجتيازها .. هكذا يمكن تبرير السخرية من كافة ما لم تمتلكه الذات .. الاقتراح الثاني يجعل هذا الرصد تأويلاً للخسارة أي إثبات لها، فما بحوذتك ليس أكثر من تفاصيل ليأس لن يكتمل إلا برقم من حزب أو رصاصة من ديكتاتور ..تفقد الحوائط ـ كما ذكرت سابقاً ـ صلابتها المعهودة، وتصبح داخل امبراطورية (أحمد طه) فضاءات التباس، وساحات للتنافر وللإمكانيات المتناقضة .. لكنها عند استرجاع الطفولة ستستعيد صلابتها وستتحول إلى حوائط واقعية .. لماذا؟ .. لأن الطفولة ليست في حاجة للتحوّل الأسطوري فتلك هي طبيعتها الأساسية .. يكتب (أحمد طه) في (حائط الطفولة):

(لأنك كنت لا تحفظ سوى الفاتحة / و”قل هو الله أحد” / وتترك صلاتك، وقد بعثرتهما على سجادة الجامع / قبل أن يعرف الله أنك لم تتوضأ منذ جمعتين / إذن / فقد كان لك وطن حقيقي).

كانت الأشياء مستقرة في وضوحها .. لم تكن هناك مراوغة أو مفاجآت حتى لو بدت أنها كذلك .. يوجد منطق وتماسك واتجاهات ثابتة وذلك سر الجوهر الأسطوري للطفولة الذي كان يضمن علاقات مؤكدة بالزمان والمكان تحمي الأسفار الخيالية للذات .. داخل تلك المعادلات التي كان يمكن التآلف مع ما يُعتقد أنها حسابات متزنة تقودها كانت لك حوائط حقيقية.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم