لن أتحمّل مزاجك العصبي الجديد هذا بعد اليوم! هل قلت جادّاً: “إن أمسكتْ بكِ يدي؟!” أيّها العصبيّ، فعلاً ماذا لوأمسكَتْ بي يدُكَ؟ أتساءل ماذا لو أمسكت بي يدك؟! هي لغة جديدة غريبة عنّي. تخترع فنون غضبك منذ فترة، يطير صوابك فتطيّرني في متاهات الحيرة والزعل.
كان شهر انقضى، لم تعد خلاله إلى البيت. وقليلاً ما نتواصل عبر الفيس بوك، في الوقت الذي تتيحه شبكتا الإنترنيت والخليوي كثيرتا الانقطاع. أصبحتَ عصبيّاً لدرجة أنّ شكّاً بدأ ينسلّ إلى تفكيري! ورغم تفهّمي للظروف، بتّ أضعفُ. كنتَ، منذ أكثر من شهرين, توجعني بمزاجك الغريب. لن أحتمله بعد اليوم!
يشربكني رعبي من الخطر عليك، ومن حاجتي إليك. أتخبّط مابين جزعي وأنانيّتي، وأتخيّل كيف تكون يدك غاضبة وهي.. وهي.. يدك؟ يدك! يداك! بغتة يرتعش قلبي، وتخفق ذاكرتي!
يداك! يداك وهي تحتضنان ركبتيّ في مساء بعيد. حين باغتني أنّك تركت ما كان يشغلك، قرفصت أمامي، وكنتُ أخيطُ ما لا أذكر! ثمّ مددْتَ سبّابتك إلى الخيط بين الإبرة والقماش ورحت تفتله على إصبعك، إلى أن التصقت الإبرة بالقماش. كانت نظراتك تتعبّدني، وتغرقني بالوله! فأطفو على أزرقك الممتدّ في جهاتي، ومن أعلاك يتدفّق عليّ شتاء إكليلِ الجبل الدافئ، وربيع أقحوانٍ ونرجس، وصيف أشجارٍ تثمر عشقها، وخريف قصائدَ غاردينيا وزنابق. انزلق الخيط من إصبعك، ارتبكت الإبرة، وزحط القماش على الأرض!
يدك! يدك وهي تحتضن وذراعك كتفي المبلّل بمطر بعيد! كنا نسير في طلعة العفيف، خارجين من ” نادي الصحفيين”.وقد شربنا نبيذ عمرنا معاً! كنّا وحدنا نحتفل بعيد ميلادنا. تلك السنة، باغتنا أوّل الصيف باحتفائه بنا بشكل مغاير. ” يُهدينا باقة مطر!” قلتُ لك. فأجبتني بسخرية مصطنعة: “يا مجنونة المطر! المطر ليس أكثر من H2O“. ونضحك، بينما أنكز خصرك بكوعي! نتذكّر أوّل مرّة قلتها لي. تلك المرّة، كانت حين أطلْتُ الوقوف أمام النافذة مأخوذة بأوّل المطر، تدوّخني رائحة الكون لحظة انتشائه. استأْتُ من توصيفك للمطر حينها! وبعد وقت فهمت أن تلك الـ H2O لم تكن سوى غيْرتك من المطر، وقد أسرني هو الآخر!
نشيد أصابعك بابُ البيت يحفظه، يعلن قدومك. كنت تنفر من فتح الباب بالمفتاح الذي في جيبك دوماً، تقول لي:” أريدك أنت أن تفتحي لي الباب! موحش البيتُ من دونك!”
في الأوقات التي كنّا فيها نعود معاً إلى البيت، كنت تنتظر نزولي من السيارة، من دون أن توقفها، ثمّ تقلع ثانية متذرّعاً بأنّك نسيتَ شراء شيء ما! ولأثبت تصديقي لك أطلب منك أن تشتري أيضاً ما أخترعُه تواطؤاً! ثمّ أركض إلى البيت وأقفل الباب، أهرع إلى تبديل ملابسي. وأنا مجنونة بالغبطة، مجنونة بغمر فيضك، أنتظر أن ينشدَ البابُ أصابعَك. فأُهرع لفتحه. تبتسم عيناك بفرح طفوليّ مشاغب. تدخل وتغلق الباب بقدمك، بينما يداك وذراعاك تكوّرانني، فأختفي في قلبك، وتتمدّدُ في دمي! وتهمس:
“اشتقت إليك”. “وأنا أيضاً.” يهمس اشتياقي. وكأن الخارج، حيث نكون معاً، قفراً يباعد بيننا لوقت تصير فيه الساعة شهراً، واليوم دهراً!
ثمّ تفرفط أصابعك شعري الطويل، لأجلك، وتنثره على كتفيّ وتتأمله بشغف، لم تكن تقبل بغير قصقصة أطرافه.
ذات مرّة، عدْتُ فيها من عند الحلاّق، دخلْتُ البيت بتوجّس، كان شعري مقصوصاً زيادة عن قصقصة أطرافه. وما أن رأيتني حتى جلبت (المتر) وأخذت تقيسه. قلْتَ لي بمزاح مخلوط بالعتب: “بأيّ حقّ تسرقين منّي شعري؟” ضحكت وأنا أسخر من شعرك الذي بدأ يتساقط سريعاً: “لاتقلق، شعري لك! سأزرعه على صلعتك في السنة القادمة!”
لففت خصري (بالمتر)، ودرت بي، كأنما لتقيس طول زمننا القادم، وأنت تقول: ” سأحبّك حتى آخر الزمن.” وفي سرّي أتمنّى لو أنّ ما في يدك هو أطول (متر) لم يُصنَع في العالم بعد!
يدك! أصابعك! ما أزال أراها تغلق نافذة الغرفة، الدرفات الزجاجيّة والخشبيّة. ضجيج الأولاد في الحيّ كان يمنعك من التركيز في عملك. وصوت الأمهات يستبيح الأوقات كلّها للصراخ لهم للعودة إلى البيت.
يا لَذاكرتي! نسيت أن أخبرك سابقاً، أنّ أكثر من نصف جيراننا وأطفالهم قد رحلوا إلى غير عودة! وأننا نمضي الأوقات الطويلة من دون ماء أو كهرباء. وأنني قلّما أغلق النوافذ. وحين تكاد تنطفئ ذبالةُ روحي أركّز الإصغاء إلى صوت أمّ تنادي طفلاً ما يزال هنا، يلعب أسفل البناية، بانتظار سكاكرك. كعادته والآخرين، فما أن كنتَ تطلّ حتى يتسابقوا لتناول قطع من السكاكر توزّعها عليهم أصابعك، فيخفّفون من حدّة ضجيجهم بفرح!
وأسمعك تقول لي:” لو أنّ البلديّة استغلّت المساحات الفارغة لإنشاء حدائق للأطفال! عوض بيعها، خارج القانون، لتجّار العقارات! شوفي كيف صارت “الغوطة” هل قلتُ لكِ أنّ شارع حارتنا كان مجرى نهر لأحد فروع بردى؟! هنا كان السحر. يالَلجهلة! جشعهم شوّه الشام وغوطتيها. جنّة عدن كانت الشام!”
والآن لا أدري على ماذا أسفك دموعي! عليك؟ على الشام والغوطتين؟ أم عليّ؟! أم…؟ صرت أتمنّى لو أنّني كنت طفلة حينما التقيتك أوّل مرّة. طفلة لاتعني لها أكثر من العمّ جارها وهو يبتسم لها ويعطيها حبّات سكاكر، فلاتعود تضجُّ! أما كان أفضل من هذا الضنى الذي يمضغني، ولا يبتلعني؟! فلا يروح ضجيجي أو يخفت! ولا ينفكّ ضجيج ذاكرتي ينزف بين يديك وأصابعك توقاً موجعاً؟!
في ليالي احتفالاتنا بذكرى ميلادنا، كنّا نحصي سنوات تشابكنا. بجديّة كنت تقول لي: “هاتي أصابعك! ولنبدأ العدّ!” ترتعش أصابعي وهي تنثّ عبير عمري معك. آنئذ، كان ضحكي يملأ وجهي بمائه. لأننا نخربط في العدّ، فنبدأ من جديد! دائماً كنّا نخربط في عدّ سنواتنا بعدما تجاوزت العقد! إمّا نُزيد عاماً أو نُنْقِص عاماً. وكأننا كنا في أعماقنا مصرّيْن على أنّنا خارج هذا الزمن بأرقامه السخيفة! كان لسنيننا درَج من هيام يحملنا إلى أعالي غبطة تصل إلى أن تنساب ماء شغف ووجْد من مآقينا. تحضن أصابعي بين يديك، تقرّبها من شفتيك، تقبّلها كأنما تختمها بصكّ الأبد! ثمّ تقول: ” حين تصبحين عجوزاً خرفانة من سيعدّ لك سنواتنا!” أجيب بتخابث: “سأطلب ذلك ممّن ستيعتني بي!” فتسأل مثل طفل حرمته أمُّه ما يُفرحه: “وأنا ماذا أكون أفعل بعيداً عنك؟”، أجيبك، وأريج جلدك مثل أوّل المطر يدوّخني: ” تكون في الشوارع مجنوناً تحمل طبلاً، تضرب عليه باحثاً عنّي، ولن تجد من يدلُّكَ أو يلمُّكَ، يا مسكين!” فتضمّني ذراعاك، وتقول: ” بل سنكون أنا وأنت على عكازين، وكلّ يوم نخرج من البيت إلى المدينة، لن نذهب بسيّارتنا، لِنتسكّع في الشام، ثمّ نعود عبر دمشق القديمة، ندخل الحميديّة، نجتاز الجامع الأموي، نشرب قهوتنا في مقهى النوْفرة، ثمّ نتابع سيرنا في القيمريّة، ولانعكف على ساحة باب توما، بل نتابع عبر القشلة إلى باب شرقي. ثمّ نعود بسيّارة أجرة من أبَّهة التارخ إلى حيِّينا الـ…!” تتوقّف عن استطرادك لتضحك من حيّنا البائس المكتظ ّ بالضيق، وبفوضى العشوائيّات التي ما تزال تلتهم الغوطة بشراهة الفساد المؤلمة! ثمّ تستانف كلامك وأنت تلهث تعباً مُصطنعاً: ” وفي أيام الجمعة سنذهب إلى قاسيون، ونقف في أعاليه ونندهش كما في كلّ مرّة ونحن نتفرج فيها على الشام، ونمكث حتى…” وفجأة يتوقّف تخيّلك وترنّم: ” من قاسيون أطلّ يا …!”
يا وطني! يا لَاختناقي!
ومثل الليالي السابقات والتاليات، وفي الوقت المتأخّر ذاته، ودويّ الحرب ما يزال يهزّ نوافذ البيت وأبوابه! أمضي إلى جهاز الكمبيوتر، أفتح الفيس بوك، الصفحة الرئيسية، ما من جديد غير أسماء الشهداء، وأسماء الغيّاب المختفين، وصورهم! تلحق صورتك عبارات، لمن يعرفك ومن لايعرفك، تختصر عاماً من اختفائك. تسأل عنك وتنتظر بالأمل عودتك. أقرأها كلّها بصلوات دموعي. وقلّما أسفح دمعتي في كتابةٍ ما إليك! فالكتابة تصعب وتتقزّم وسط أتون متأجّج!
أفتح الرسائل الواردة، رسائل لسْتَ فيها! ومثل كل ليلة، منذ عام انقضى على اختفائك، أعيد قراءة آخر رسالة منك: ” إن أمسكَتْ بِكِ يدي!” كنتَ تردّ فيها بعصبيّتك الجديدة على توسّلي اليوميّ إليك في ألاّ تغيب أكثر! مستنفراً أنت خارج البيت! وأنا مستنفرة جزعاً وأنانيّة ربّما، أنتظرك لأفتح لك الباب وأبحث عن نظرتك الطفوليّة الضالّة، وعن قدمك المفقودة التي ستغلق الباب عند دخولك وعن…وعن… وعن أصابعي وأنت تحصي بها سنيننا المتلاصقة.
أغضبُ. أُغلق خانة الرسائل، صفحتي ، وأطفئ الجهاز. ما زال بي قدرة على الغضب! أتعجّب وأتساءل: أيشقّق الغضب يأسنا الكتيم فيبزغ منه ضوء ما! أم أنه ركامٌ نستجديه ليطمرحزننا المثقل بالتعب، ويطمرنا معه!
ماذا لو أنّ اختفاءك تأخّرّ يوماً واحداً؟ لكان بوسعك رّبما ترْك رسالةٍ لي خاليةٍ من أيّ خوف أو غضب! ولكنْتُ رددْت عليك بما يُحتمَل أن يكون وسادة لك، حيث أنت!
ما زال ارتجاج الحرب لاينام، ولا أنام! مثل كلّ ليلة، أعود أقرأ آخر رسائلِك حتى التعب. ثمّ أنكّش في تلال ماروَتْه لي أصابعُك ويداك في عمرنا المتشابك، أدلقها على سرير يأسي، أو أكوّرها حبوب مورفين، لعلّي أغفو، لعلّ يدَكَ تُمسِكُ بي!
……………..
*كاتبة من سوريا