تنويعاتٌ على هامش الصمت والنسيان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لا معنى لهذه العبارة: "طواه النسيان". ربما طويتُ الزاوية الحرة العليا من صفحة كتاب مرة كي أتذكر أين وصلت في القراءة. وربما طويتُ ورقةٌ سجلتُ فيها قائمة مشتريات الشهر مرتين ليتسع لها جيب حقيبتي. وربما طويتُ عشرات القصاصات التي كنت اتبادلها مع رفيقات الدراسة كلما أوْلَتْنا المعلمة ظهرها مراتٍ عديدة وأودعتُها علبة الماكنتوش كواليتي ستريت القديمة.

وكلما فردتُ إحدى هذه المطويات وجدتُك في خط الطَّي. وجدتُك حتى في الخطوط غير المكتملة بين عقلات أصابعي في كفٍّ أُحْكِمُ إطباقها في أوقات عدم الاستخدام. لو كان طرفة بن العبد لايزال حيا لأنشد عن ذلك الوشم الباقي في باطن اليد بدلا من ظاهرها.

ولأن النسيان ليس ورقة، وليس أحد أصابعي، فلن يكون مقنعًا إذا ادعى أنه يستطيع أن يطويك. هذا إذا فرض ونجح في التسلل لسويعاتٍ من تعاقده معك بنظام الوقت الكامل ليعمل لصالحي جزءًا من الوقت، ليجد الأمر غير مُجْدٍ بعد أيام ٍقد تطول لأسابيع قليلة، ثم يفرد مطوياته كلها كرهًا لا طوعًا، لتلوح كخط الأفق الأبدي ما امتدتْ أرض وما ارتفعتْ سماء.

*

اليمين التي تحلها كفارة يمينٌ غير ملزمة. اليمين الغموس لا مخرج منها ولا تَحِلَّة لها. ينبغي لك أن تنغمس في الجحيم حتى إذا خرجتَ -إن خرجتَ- عرفتَ عن حق أن لا غاية من القسم إلا التعظيم. أما توثيق العهود بينك وبين نفسك فلا تُجْزِئُ عنه الشفاهة ولا حتى الكتابة والأختام. تلك وسائل “قد” تصلح بينك وبين الناس. والنفس ليست أمارةً بالسوء وحسب، تلك نفسٌ مبتدئة في الأذى الذاتي. هناك نفسٌ أخرى تجاوزت مرحلة الأمر والتأمُّر وكرسي الإمارة وتربعت على عرش المُعلِّم بانجلوس Panglossالذي نصبه فولتير كبير المتفائلين في روايته “كانديد”، والذي يظل مصرًّا على أنه مهما حدث فإن الأمور ستظل على ما يرام بل إنها تتجه نحو الأفضل، وتظل تلك النفس مثله تمنِّيك بالأمنية تلو الأخرى، وتمد لك الحبال لتسير وراءها منساقًا ظانًّا أنك بهذا تحيا في جنة عدن، متعاميًا عن حقيقة كونك على الأرض. لا تحلف لنفسك الأيمان، ولا تستمع لتمنياتها المفرطة، وانشغل بزراعة حديقتك، فهذا فقط ما سوف يجعل عالمك أفضل العوالم الممكنة.

*

على الضفة الأخرى من النهر، يتمشى في صمت، لا يشير، ولا يتكلم، شبح الملك هاملت الأكبر. لن يروي لي قصة مقتله، ولن يطالبني بالثأر. لن يستمع إلى ثرثرتي الفارغة، ولن ينصت إلى تذمري بشأن مصطلحات النقد الأدبي التي أطاردها في المقالات والقواميس والموضوعات الفلسفية التي يرفض فَهمي التصالح معها. ينتظر أن أعبر إليه؟ لا أظن، فهو يعلم أنني لا أجيد السباحة. هو فقط يظل ماثلاً هناك، ليذكرني بما لا أستطيع فعله. أكاد أراه وقد أخرج لي لسانه من خلف شفتيه المنطبقتين، المنطبقتين على كثير من الحكي غير المسموع. ولأنه لم يقل شيئا، فلن أفعل شيئا؛ لن أتردد مثل هاملت، لن أكتفي بالمناجاة، لن أمثل المسرحيات، ولن أخوض المبارزات، لن أموت طعنًا بالسيف المسموم، ولن أوصي بأرضي ليحكمها غريمي، لن يحدث شيء، طالما اخترنا الصمت، واكتفينا بالتمشية على ضفتي النهر.

*

يحول بيني وبين أن أكتب لك اليوم أحد الأفاقين، جعل الدم يغلي في رأسي فلم أتمكن من أن أكتب لكَ كتابةً رائقة، فأرسلتُ له ما يلي متمنيةً وجود “حد أقصى للفجور”: إذا لم تصهرْ كل ما معك من حليّ وإذا لم تكن في مهارة السامريّ فلن تُخرج لنا عجلاً جسدًا له خوار، ولن يكون ذلك النُّصُب/النَّصْب جديرًا بالعبادة، ولن يستحق حتى أن يدور حوله المُلتاثون في حفلة زار. لا تزال بخيلاً بما في رأسك، حريصًا على خبيئتك، متهالكًا على صندوقك كذلك الرجل الذي قطعوا أيديه وأرجله حين دخلوا عكا. أخرج ما في جعبتك دفعةً واحدة، تصدق بسهامك المسمومة وافردها بأناقة كما يعرضون مضبوطات التشكيلات العِصابية، فمآلها أن تُخزن في صورة حرز يسرقه آخرون لاستخدامه في الأذى، فلن تجد لها زبائن في طلعت حرب أو قصر النيل، ولا حتى في موسم التخفيضات.

*

سأشارك اليوم في فاعلياتٍ على هامش احتفالٍ يقيمه الموت بغض النظر عن انتماءات من يذبحهم لوليمته. جميعنا مدعوُّون، وجميعنا آكلون. منَّا من ينهش لحم من ماتوا، ومنَّا من يشرب نخبهم من كؤوسٍ مرصوصةٍ على نفس المنضدة. ولكننا جميعًا متحلِّقون. وأنا لا آكل اللحم، ولا أشرب إلاّ ماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة. كما أن مكاني على الأعراف لا يسمح لي برؤية المشهد من علٍ، ولكن تصلني بوضوح صرخات من يظنون أنهم مسوقون إلى الجحيم وتهليلات من يعتقدون أنهم يستحقون الجنة. ولا يسعني إلا انتظار حكم المستوي على العرش.

*

أقع في غرام وجه ساحرٍ أفريقيٍّ مجهول، منحوت على قطعة من ساق البامبو. على جبهته مجسم لبومة تنفذ إلى رأسي بعينين محدقتين وتسكب فيها شيئا من الحكمة لتعالج به نزق الأربعين، بينما يتمتم بشفاه تكرونية تعويذة لفك سحر ألقيتَهُ عليَّ في الشمال.

*

لم أعد أتقن نعي الموتى، ولا مواساة المكلومين. لا أستطيع الاقتراب من أمٍّ ثكلى، ولكنني قد أحتضن طفلا وُسِمَ بالحزن دون أن يفهم معناه إذا سمح لي. لا أستطيع ادعاء الشعور بمصيبة الفاقدين، ولا أقوى على تخيل قهر من له ثأر، فأصمت، ويعتبرون صمتي جلافة وتبلدًا، وأعتبره غضبًا مخنوقًا ومرثيةً مشنوقة. وأتلهى بتأمل قطعة حجر لأنها صامتةٌ مثلي، وأحسدها لأن هذا ما جُبِلَتْ عليه، بينما أُرْهِفُ السمع للمتكلمين، وأواصلُ الصمت.

*

بيني وبينك النيل وخط سكة حديد. فقط؟!

*

من أين لك بكل هذا الصبر؟ كيف تستمر في جريانك الأزلي بكل تلك السكينة؟ حتى بعد أن حرمناك حقك الإلهي في الفيضان بما تجيش به أعماقك! حتى بعد أن استأنسنا بدائيتك بالسدود والحواجز، ما زلت تمضي إلى مستقرك الأخير بكل وداعة، باذلا في طريقك ما تبقى من نفسك. من أي شيء ؟

*

صداقةٌ طويلةٌ جمعتني بخط السكة الحديدية الذي أطلت عليه شرفة منزلي لوقتٍ غير قليل في سنوات طفولتي الأولى، حيث كنت أتبارى مع أبناء الجيران في تخمين الاتجاه الذي سيأتي منه القطار، بعد سماع صفارته العالية قادمًا من بعيد، ثم عد عرباته لنرى أينا أكثر شطارةً وانتباهًا. ولم أعرف حتى وقت قريب كلمةً مكافئةً لكلمة “الفلنكات”. تعددتْ أسباب حبي لهذا الكائن الحديدي الذي دائمًا ما كنت أستشعر فيه الحياة رغم برودته المعدنية؛ ربما بسبب تلك الصفارة العالية. ربما بسبب الحواة، الذين كنت أراهم خارقين، لاحتفاظهم باتزانهم جلوسًا أو نيامًا على سطح القطار. ربما بسبب الركاب في عرباته بسيطة الحال، والذين كانت تسليتهم التلويح للجالسين في شرفات البيوت التي يمرون بها وإطلاق الصافرات بدورهم. كان المشهد المتسارع لعبورهم يترك لنا صدى الصافرات ومناظر الأكف الملوِّحة وكأنهم يقولون: “مرحباً، لقد مررنا من هنا”. حتى إذا كان المارّ قطار بضائع، كنت أسمع صوت الحياة عندما تصطدم مصدات عرباته بعد توقفه لوهلة خلال سيره البطيء نوعًا ما، كأنما تتبادلُ السلام وتبددُ الوحشة خلال الرحلة الطويلة.

*

قرأتُ المجموعة القصصية “الشجرة والعصافير” لإبراهيم عبد المجيد بعد أن كتبها بسنواتٍ طويلة، أحببتُ حُبَّ عبد المجيد للقطارات رفيقة طفولتي، والتي حكى عن سائقيها وقضبانها ومسافريها و”الغراب” الذي يروي القديمة منها بالماء، وشعرتُ بالامتنان لأنه وهبني مفردة “العوارض” بدلاً من “الفلنكات”. أعرف ما تريد قوله، توقفي أمام المفردات سيتسبب في نهايتي باضطرابٍ في المخ. وتوقفتُ طويلاً بعد قصة “القنفذ”، فقد أصابتني نهايتها بالحنق على بطلها مجهول الاسم، الذي صبر على تربية القنافذ في أقفاص ليطلقها في اللحظة المناسبة لتنظف المدينة وتقتات على القذارات التي يخلفها سكانها في كل مكان. ولكنها اختفت! كيف ولماذا اختفت القنافذ من أقفاصها المغلقة في ساعة الصفر؟ لم يخبرني عبد المجيد. ولكن القنافذ أخبرتني في الصفحة البيضاء التالية لنقطة النهاية؛ القنافذ التي عافت الطعام الآدمي، لا بد وأن تعاف القذارة الآدمية. وتسربتْ من بين فتحات الأقفاص السلكية بفضل الخبز الذي فقد قوامه بعد نقعه في اللبن والماء، والذي أُرغِمَتْ على تناوله بعد فترة تجويعٍ طويلة. وعرضتْ عليّ الذهاب معها، فأعددتُ طبقًا من الخبز باللبن.

*

ف عنيها نار وجنة وعند وشدة وهوادة

الأبنودي

*

تعلمُ أنني مثقفةٌ جدًّا، ولذلك سأقرر في غرور أنه لا لزوم لفتح صنبور الماء البارد على مصفاة المكرونة المسلوقة، وسأكتفي بوضعها في الصلصة لأفاجأ بأنها أصبحت كتلةً واحدة من العجين. كما تعلمُ أنني مؤمنةٌ جدًّا، ولذلك سأخالف كفار قريش في قولهم: “حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا”! سأكتب مقالاً طويلاً أمجِّد فيه آبائي في الإنسانية وأقول “تَلَبَّثَتْنِي أرواحهم”، فلم أعد أفرق بين الثاء والسين. ولن ينتبه أحد، لن يكترث أحد إلاَّ للصلصة، مادامت مشبعة بالبهارات، ومادامت حمراء قانية، تنشر لونها موهمةً بتغطية العجين. كانت جدتي تقول: “اللي ما يعلِّمش في الصحون ما يعلِّمش في البطون”. سنأكل متوهمين ملء بطوننا، وسنصاب بتلبّك، وسيعود الجوع كافرًا. كافرًا!

*

لم تكنْ معي حينما عامي السادس عشر، توجهتُ سيرًا على الأقدام إلى المستشفى القريب. لم أشعر بألم الوخز، وامتلأ المحقن بدمي. ابتسمتُ وأنا أتأملُ السائلَ الثقيل بلونه الأحمر القاني، لم يكن هدفي من إجراء فحص فصيلة الدم ملأ ذلك الحقل المخصص لها في بطاقة تحديد الشخصية ترابية اللون، كانت تلك هي الحجة، لكنني أردت المعرفة للمعرفة. انتظرتُ نتيجة الفحص بفارغ الصبر، وكانت سعادتي غامرة حين أخبرتني الممرضة أنني من الفئة “O”، ولم أنتبه لفرط فرحتي إن كانت موجبة أم سالبة، ولم أنتبه لذلك حتى اليوم رغم خضوعي لفحص الدم عدة مرات. أحببت الفئة “O” لغير ما سبب منذ درست عن الدم ومكوناته في مادة الأحياء. بيني وبين دمي عشقٌ لا أعلم كنهه. أتلمس عروقي الظاهرة بوضوح في كف يدي وساعدي بحنان، لم يجد كل من يسحب مني دماً مشكلة في إيجاد تلك الأوردة، كما لو كانت تتوق إلى بذل السائل الذي يجري فيها وكما لو كان السائل نفسه يتوق إلى الهرب منها ولو إلى محقن أو كيس. أهرع إلى عربات التبرع بالدم حين ألقاها في طريقي، ليس لغاية نبيلة، وإنما لكونها وسيلةً شرعيةً لأتفرج على دمي خارج جسدي. لأتأمله وهو يغادرني. الجروح وسيلةٌ أخرى بالطبع، ولكنني لا أفضلها، لأن الإحساس بالألم يشتتني عن ممارسة هوايتي مع دمي. الألم هنا هو اعتراض الخلايا التي اعتادت التلاحم على التفرقة بينها، هو صرخة النهايات العصبية التي جاءتها الفرصة أخيرًا لتخرج عن صمتها. لكن الدم يسيل في هدوء. هدوء لا يعبأ بالسبب، ولا يعبأ بالنتيجة. هدوء أتداركه غالبًا إلى صخب الحياة، ويومًا ما قد لا أستطيع حياله شيئًا فيسبقني إلى صمت الموت.

*

هناك، في المدينة التي أحبها، اعتاد الكروان أن يتمنى لي ليلة سعيدة بعيد غروب الشمس، أمضينا معا مساءاتٍ هادئة في شرفتي في الطابق الأخير من بناية لا يسكنها أحد. وحين نويتُ العودة إلى مدينتي العجوز لم أخبره، وحرصت على الرحيل صباحًا. لم أرد أن يتردد صوته واثقًا بالوداع، فلا أجمل من لايقينية الانتظار.

 

مقالات من نفس القسم