مشهد رومنطيقي.. أو بالأسفل سقط الأحمق الطيب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ربما لا يجدر بالسيد النبيل أن يبدو عليه الحزن أو أية بادرة من الذنب تجاه ما حدث، منذ أن وقع الحادث وهو يرتعش كعصفور ضئيل، أراد أن يهرب فلم يكتف بمغادرة البيت لكنه غادر المدينة أيضا، تلك المدينة التى طالما ظل حبيساً لشغفه بها، يسير بين طرقاتها كالمجذوب ويسهر ليال اخرى على رمال شواطئها، غادرها أخيرا، أى قدر مولع بالاذى قد نسج خيوطه حول سكنه الوحيد حتى انتفض راكضا تاركا وراءه ظلاً ثقيلاً وبضع كلمات وأضواء مشتتة، ومن جانبنا نحن نتفهم ضعفه الواضح امام مواجهة الامر ومعايشة تفاصيله فى الشرفة التى تخص حجرة نومه،  فى البدء كان المشهد رومانتيكياً ثم ما لبث أن تحول إلى فاجعة إنسانية، بالطبع لم يأبه أحد لموت الجميلة تلك التى تحمل ملامح غريبة، جاءت فى زيارة أولى ثم كانت النهاية، هل كان الصمت لزاما على الراوى؟

قالت له: “أود  فقط لو أراه فى أكثر اللحظات حميمة”.

الحجرة التى نراها الآن تتراص بجدرانها صور لملامح مبتورة، أنف، شفاه، جبهة، نظارة وحيدة  على اليمين هناك  جرامافون نسمع صوت “أسمهان”

“لَيتَ للِبَرّاقِ عَيناً فَتَرى ما أُقاسي مِن بَلاءٍ وَعَنا

نرى صور متكررة لأشخاص ولا يوجد أى بيانات او رموز او اسماء مدونة، ليس الأمر هو الحبكة المعتادة حيث كشفت رسائل البطلة عن الحكاية، الراوى لم يسقط فى فخ الحكى، غير أن العزيز اصر على ان يبوح، حيث ترسخ فى ذهنه ان القاتل يقطن فى السرداب الذى صنعته الجميلة منذ سنوات باسفل حجرتها ، والعزيز كان هو الصديق الذى تنبأ بالحدث.

قالت له: ” ليس أصعب من أن يرتبط وجودك بآخر لا يراك، ليس أصعب من أن تعيش وانت غير مرئى تبحث عن ظلك المفقود، لكن من القوة ان تتقبل كل الامور برغم ما هى عليه”.

“لَيتَ للِبَرّاقِ عَيناً فَتَرى ما أُقاسي مِن بَلاءٍ وَعَنا”

 بينما يحاول الصديق ان يخترق سرداب القتيلة ، نراها الان وقد اطلت بفستان  قصير ابيض ، شعؤها يتدلى فى راحة وتلقائية على كتفيها ويلامس وجهها ، كان الحظ او ربما القدر هو خادم المغامرة التى دفعت نفسها اليها، تتسلل الفتاة الى شرفة البطل لا لتسرق احدى اوراقه ، لا لتكتب رسالة او لان تصدم خيالها بواقع تفاصيل غرفته التى ربما تخالف خيالها ، بل هى رغبة فى رؤية وجهه للوهلة الاولى حيث يستقبل اول ساعات الصباح ، تلك اللحظة الخاصة جدا التى لن تستطيع ان تراها ابداً ،   بضع شهور ما بين المقاومة والاستسلام للهاجس حتى كان التسليم الطيب الذى جعلها تتسلل الى شرفة الطابق الثانى بيدها كاميرا ، الفتاة التى تجرأت على الحدث وهاجمت هاجسها كى تتربص به ، لم تعتقد ان التسليم للهاجس سيكون مغامرتها الاخيرة .

ها هو بطلنا كما صدق حدسها ، تغوص روحها الان تحاول التنفس ببطء ، الشاب الاسمر فى السادسة صباحا لم يكن يستقبل الصباح او يتجهز ليوم شاق قبل موعد عمله فى الثامنة ، الاسمر كان خارج الحدث اوبالاحرى خارج الحدث المتخيل للفتاة البطلة ، بطل المشهد الرومنطيقى منفعل بمضاجعة تبدو ناعمة للغاية ، هل رات بطلتنا المتسللة تلك الحسناء ؟

ليس مؤكدا ، ربما راتها وتستطيع تمييز ملامحها ، وربما لا ، الاكيد فى تيار وعيها الان هو انها تقف تماما حيث كان يجب لها ، ذلك الانفعال وتلك الحميمية ، يبدو ويا للغرابة كأنه لازال حلماً ، هى تدرك انها تسللت الى غرفته كى تراه كى تحاصر هاجسها ، لكن ما الذى يحدث ؟ كيف استطاع الصديق العزيز ان يفسر لنا المشهد؟

هل استطاعت الفتاة استخدام الكاميرا؟ ، هى سقطت ارضا ربما غاب عنها المشهد للحظات ، لكنها كانت لحظات الذروة ، كانت تشعر بالاثارة ، نسيت تماما تلك الاخرى التى يتمزج صوتها مع انفعاله بالداخل ، ربما استقبلت المشهد المدهش بقوتها المعتادة تقبل الامور برغم ما هى عليه ، ليس أسوأ من ان تفاجئك الاحداث بأسوأ من ظنونك فتضطر الى خلق امكانيات عديدة ليتقبل عقلك الواهن وطأة الحدث .

والامكانية الخرقاء التى ابتدعها عقل بطلتنا هنا هى الخروج عن المشهد ، فى البدء حاولت الفتاة الترفع عن ما يجرى، ان تغمض عينيها او تجد المخرج هناك فى سردابها حيث تعود الى غرفتها ولا يلحق بها اى فكر او هاجس جديد ، لكن دهشة الواقع كانت الاقوى بحيث تطابقت خيالاتها فى الشهور الماضية فاستطاعت ان تتبأ باداء البطل تفصيليا فى المشهد الذى نحن بصدده وحتى بنظرته الساهمة حين شارف على الانتهاء ، المحاكاة الواقعية الاكثر اثارة هى بعقل البطلة الفتاة التى تسمع الان بقوة آهات “اسمهان”

ربما لم يجد عقلها شئ اكثر منطقية من ان يهرب من اصوات مضاجعة الاسمر الذى كان بطل خيالها لشهور ، الا بصوت اسمهان :

“يا طيور غني حبي وانشدي وجدي وآمالى للي جنبي واللــي شايف ماجرى لي اشتـــكى لـــه يبتسم ويزيـــد ولوعـــــي 

لو كان بيعشق ونابه حظي وانا سهران لا كان بكى من عذابه وناح مع الكروان ، يا طيور ها هاها هااااا

حينما لمح بطلنا الظل الذى اصطدم اخيرا بالارض ، وبعدما تعثر بالكاميرا فى شرفته ظهر وحيداً ولم يلاحظ وجود ظل شخص آخر فى الحجرة، غير انه لم يستطع التعرف على وجه مشوه شعر طويل وثقب واسع بالرأس ، وحتى عندما افصح الصديق عن الحكاية التى اخرجها من سرداب بطلتنا التى سقطت من المشهد ، لم يرى سوى ملامح ربما تكون فقط مألوفة لديه .

اما عن النص الاخير فى السرداب اسفل حجرة البطلة حسب الراوى فكان :

الأحمق الطيب سقط أخيرا، حذرته مرارا ، كنت ارى الحفرة العميقة حيث كان يقترب منها فى بطء ، حاولت ان ابصره لكن لا جدوى ، لم تنقذه القوى الخارقة حيث كان يتعلل بها وينتظرها ، الاحمق الطيب سقط اخيرا ، تناثرت دماؤه البيضاء على ثياب هؤلاء الذين مضوا ونسوه تماما

 

مقالات من نفس القسم