يقدم (جيمس جويس) في قصته (سوق أرابي) وهي من مجموعة (أهالي دبلن) تجربة هوس صبي بأخت رفيقه في اللعب، ورغبته في أن يحضر لها شيئاً من سوق (أرابي) الخيري بعد أن أخبرته بعدم استطاعتها الذهاب إليه، لكنه لم ينجح في ذلك .. على المستوى الواقعي فقد أقيم سوق (أرابي) الخيري في دبلن عام 1894 حيث كان (جويس) في الثانية عشرة من عمره، ويمكن تصور أن انطفاء الأضواء داخل القاعة كان يمكن أن يكون أقل قسوة على مشاعر الولد لولا أن عشقه لأخت رفيقه كان متوهجاً حقاً بما هو أكثر قوة من المراقبة والتتبع .. كان اسمها يقفز إلى شفاهه في لحظات الصلوات والشكر بطريقة لم يفهمها هو نفسه، وكان يبكي، ويضم كفيه معاً حتى ترتعشا وهو يتمتم: (أيها الحب .. أيها الحب) كأنه يتوسل لإله أن يخلصه من عذاب شوقه إليها .. لهذا احترقت عيناه بالعذاب والغضب؛ إذ كانت تستمد آلام هزيمته شراستها من روعة الحلم الذي تحطم، وهو لم يكن أكثر من إحضار هدية لحبيبته من السوق الخيري .. أدرك أن هناك قدر أكثر سطوة من رغبة صبي في إسعاد فتاة، كان من الحتمي الخضوع لظلامه.
ربما علينا أن نفكر في حدة التأثير الذي مارسه حديث الصبية الصغيرة التي كانت تبيع الزهريات في السوق الخيري مع شابين وضحكها معهما على عمق الإحساس بالغضب والمرارة عند الولد .. لقد بدا هذا المشهد كأنه تجسيد لحلم الصبي ولكن في سياق لا يخصه إذ ظهر كأنما يتحقق للغرباء؛ فالصبية الصغيرة الواقفة على باب الكشك كان ينبغي أن تكون أخت رفيقه في اللعب، وكان يجب أن يأخذ هو مكان الشابين .. هذا هو الموعد الذي كان يُفترض أن يتم، ولكنه حدث مع أشخاص آخرين أمام عيني الصبي الذي لم ينجح حتى ـ كأقل تعويض ـ في الحصول على هدية لحبيبته من السوق .. لنلاحظ كذلك أن (نبرة الشابة لم تكن مشجعة) أي أنها فضلاً عن إبدائها لرفض استباقي غير معلن للتفاهم حول تخفيض قيمة أي من سلعها بما يناسب النقود القليلة التي يحملها الولد في جيبه فهي أيضاً تبدو كأنما تؤكد له بشكل ضمني على عدم قدرته على بلوغ تلك الغاية من البهجة الشعورية التي تتشارك فيها مع الشابين.
في (نظرية السرد)* يقترح (واين بوث) تمييزاً بين ما يسميه الكاتب الضمنيimplied) author) وبين السارد (المشخص أو غير المشخص، الكلي المعرفة أو الذي ليس كذلك، الأهل للثقة أو غير الأهل للثقة)؛ فالكاتب الضمني يختلف عن الكاتب الحقيقي .. في قصة (سوق أرابي) ربما لن نصادف غموضاً بين السارد المنتج للنص، المنظم للمحكي في كليته (جيمس جويس)، والسارد الذي يبدو أنه يحكي (يدرك) الأحداث داخل النص (الولد الصغير)، ولكننا بالتفكير في (أصوات الكاتب) عند (بوث) سنعثر على (جويس) بشكل ضمني في مكان آخر داخل القصة .. ليس هناك ما يمنعني من اعتبار الشابين ـ عند اندماجهما في أنا موحدة ـ بمثابة (أنا ثانية) لـ (جويس) ولكنها نقيضة للصبي .. أنا حلمية إذا جاز التعبير .. أنا ناتجة عن الكاتب الضمني، وليست مطابقة للسارد، وتمثل ما كان يريد أن يكون عليه (جيمس جويس) في سن الثانية عشرة، الذي بدا كأنما طُرد من مشهد كان معداً له.
……….
*نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير ـ جيرار جينيت وآخرون / ترجمة: ناجي مصطفى ـ منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي / الطبعة الأولى 1989.
…………………………….
سوق أرابي
ترجمة: إقبال التميمي
لأنّ شارع ريتشموند الشمالي مغلقاً في نهايته، كان هادئاً باستثناء ساعة خروج طلبة مدرسة الأخوة المسيحيّين. يقع هناك بيت مهجور من طابقين في نهاية الشارع المغلق أرضيته المربعة منفصلة عن بقيّة جيرانه، أما البيوت الاخرى في الشارع كانت تعج بالحياة وتحدّق في وجوه بعضها الثابتة البنيّة اللون.
عمل المستأجر القديم لبيتنا قسّيساً، ومات في قاعة الاستقبال الخلفيّة، حيث الهواء نتن هناك وفي كل الغرف بسبب إغلاق المكان لمدّة طويلة . تناثرت في غرفة النفايات الواقعة خلف المطبخ الأوراق القديمة التي لم يعد لها فائدة، وجدت بينها بعض الكتب ذات الأغلفة الورقيّة، صفحاتها كانت مجعّدة ورطبة: منها كتاب رئيس الدير بقلم والتر سكوت، والمصلّي الورع، ومذكّرات فيدوك. أكثر كتاب أحببته كان الأخير، لأنّ أوراقه كانت صفراء. توسّطت الحديقة البريّة خلف المنزل شجرة تفّاح وبضع شجيرات تحت إحداها وجدت منفاخ الدراجة الصدئة للمستأجر الأخير. كان قسّيساً طيّباً، ترك في وصيّته كل أمواله للمؤسّسات، بينما ترك أثاث منزله لأخته.
في أيّام الشتاء القصيرة، حلّ الغروب قبل أن نكون قد تناولنا العشاء، وعندما تقابلنا في الشوارع بدت البيوت كئيبة، ومساحة السماء فوقنا تتغيّر ألوانها بدرجات بنفسجيّة، رفعت المصابيح الباهتة نحوها أضواءها الضعيفة. لسعنا الهواء البارد، ولعبنا إلى أن توهّجت أجسامنا. تردّدت صيحاتنا في الشارع الهادئ. أنقذتنا مهمّة اللعب من الحارات الموحلة المظلمة خلف البيوت، عند الأبواب الخلفيّة للبيوت الداكنة التي تقطر حدائقها بروائح حفر الرماد، وروائح الإسطبلات المظلمة حيث كان سائس الخيل يمشّط الحصان ويمسح عليه، أو حيث تهزّنا الموسيقى الصادرة من مرابط لجام الحصان. عندما عدنا إلى الشوارع، غمرت ألأضواء الساقطة من نوافذ المطبخ المكان. كنا نرى عمي يلف حول الزاوية، فنختبىء في الظل حتى يمر ونصبح بأمان، أو إذا ظهرت أخت مانجان على العتبة لتنادي أخيها ليتناول الشاي. راقبناها من خلال زاويتنا من الظلال عبر الشارع، كنّا ننتظر لنرى إن كانت تبقى أو ترحل، وإذا بقيت تركنا مكاننا في الظل وتقدّمنا مانجان بخضوات خاضعة. كانت تنتظرنا، شكلها كنّا نعرفه من خلال ضوء الباب المفتوح جزئيا، وكان أخوها يداعبها قبل أن يطيعها، اعتدت أن أقف بجانب الأسوار أنظر إليها. ثوبها يتأرجح كلّما حرّكت جسمها، وحبل شعرها الناعم كان يُقذَف من جانب لآخر. كنت كل صباح أستلقي الأرض أراقب بابها، أسدل الستارة حتى يبقى منها إنش بحيث لا يستطيعون معها رؤيتي، وعندما كانت تخرج إلى باب البيت كان قلبي يقفز فأركض إلى الصالة أحمل كتبي وألحق بها. احتفظت بشكل جسدها البني في عيني دائماً وعندما كان يقترب المكان الذي نفترق منه في طريقينا كنت أستعجل الخطى وأسبقها. كان هذا يحصل يومياً صباحاً تلو صباح، لم أحدّثها قط عدا كلمات عارضة قليلة ومع هذا كان اسمها مثل استدعاء لكل دمي الأحمق.
رافقتني صورتها حتى في أكثر الأماكن عدائيّة للشاعريّة، وفي أمسيات السبت عندما كانت عمّتي تذهب للتسوّق، كان علي أن أحمل بعض الرزم، وكان علينا أن نسير في بعض الشوارع المتوهجة التي تعج بالبشر، يقوم بمدافعتنا الرجال السكارى، والنساء اللواتي يعرضن أنفسهن، وسط شتائم العمّال، ومجموعة الأولاد الصاخبون في المحل الذين وقفوا متحفّزين لحراسة براميل خدود الخنازير، ووسط ترديد أنوف مطربي الشارع الذين غنّوا أغنية “تعال كلك” عن آدونوفان روسا، أو تغنوا عن المشاكل في وطننا الأم، هذه الضوضاء تلاقت لإثارة الحياة الوحيدة التي أعيشها، تخيّلت أنني أمر بأمان خلال حشد من الأعداء. قفزَ اسمها إلى شفاهي في لحظات الصلوات والشكر، بطريقة لم أفهمها أنا نفسي. غالباً ما ذرَفَت عيناي الدمع ولم أدر السبب، وفي بعض الأحيان شعرت بطوفان من قلبي ينسكب في صدري. فكّرت قليلاً في المستقبل، لم أعلم إن كنت سأتحدّث إليها يوماً ما أم لا، وإذا حدّثتها كيف سأخبرها عن مشاعر عشقي المختلطة، لكن جسمي كان كالقيثارة، وكلماتها وحركاتها كانوا مثل الأصابع تجري على الأوتار.
في احدى الأمسيات دخلت إلى غرفة الاستقبال الخلفيّة التي مات فيها القسيس. كانت أمسية ماطرة ومظلمة، ولم يكن هناك أي صوت في المنزل، سمعت من خلال أحد ألواح الزجاج المكسورة صوت المطر يطرق الأرض. ومصباح بعيد أضاء النافذة تحتي، كنتُ ممتنّاً أنّني استطعت رؤية القليل، كل حواسي بدت وكأنّها ترغب في حجب نفسها، وأنني كنت على وشك التسلّل منها، ضممت كفّتي يدي معاً بشدة إلى أن ارتعشتا، وأنا أتمتم “أيّها الحب… أيّها الحب” مرّات عدّة.
أخيراً تكلّمت معي، عندما تفوّهت بأوّل الكلمات موجهة حديثها لي اضطربت إلى درجة أنّني لم أعرف ماذا أجيب، سألتني إن كنت ذاهباً إلى سوق أرابي الخيري . نسيت إن كنتُ قد أجبتها بنعم أو لا، قالت لي أنّه سيكون سوقاً رائعاً وأنّها تحب أن تذهب.
سألتها: “لماذا لا تستطعين؟“
وأثناء حديثها كانت تدوّر إسوارة فضيّة حول معصمها. قالت إنّها لا تستطيع لأنّه سيكون هناك مسابقة في ديرها ذلك الأسبوع. أخوها وصبيان آخران كانا يتنافسان عليها. حنَت رأسها نحوي، الضوء من المصباح المجاور لبابنا كَشَفَ لي انحناء رقبتها البيضاء، أضاء شعرها واستقرّ هناك. سقطَ منيراً على اليد القابضة على سياج السور، وتعثّرَ على جانب واحد من ثوبها وأمسك بالحافّة البيضاء لثوبها الداخلي الذي كان بالكاد مرئيّاً عندما وقفت بهدوء.
قالت: اذهب أنت.
قلت: إذا ذهبت سأحضر لك معي شيئاً.
لا يُمكن تصوّر ما أهلكته الحماقات غير المحدودة في أفكار يقظتي ونومي بعد ذلك المساء! تمنّيت أن أفني الأيام المملّة حتى ذلك الحين، تضايقت من واجبات المدرسة. في المساء في غرفتي وفي الصباح في صفّي المدرسي كانت صورتها تقف بيني وبين الصفحة التي كنت أناضل لقراءتها. مقاطع كلمة “أرابي” كانت تلاحقني أثناء الصمت الذي كانت تعربد فيه روحي تسمرني تسحرني بتعويذة شرقيّة. طلبت إذن للمغادرة إلى السوق ليلة السبت، دُهِشَت عمّتي، وقالت أنّها تأمل أنّني لم أكن ذاهباً إلى اجتماع له شأن بالماسونيّة. أجبتُ عن بعض الأسئلة في الفصل، وراقبتُ وجه مدير مدرستي وهو يتغيّر من اللطف إلى الصرامة متسائلاً إن كنت قد بدأت بالتلكؤ. لم أستطع أن أجمع أفكاري المتجوّلة معاً. بالكاد كنت أمتلك الصبر للأعمال الجادة في الحياة، والتي وجدتها في تلك اللحظة تقف بيني وبين رغبتي، بدا لي الأمر وكأنّه عبث أطفال من النوع القبيح المُمِل.
في صباح السبت ذكّرت عمّي أنّني كنت أنوي زيارة السوق في المساء. كان يعبث بالشمّاعة باحثاً عن فرشاة القبّعات، وأجابني باقتضاب:
“نعم يا ولد، أعلم “.
وبما أنّه كان في القاعة لم أستطع أن أذهب إلى المساحة الأماميّة وأستلقي بجانب النافذة. شعرتُ البيت متلبّداً بمزحة ثقيلة، وسرت بطيئاً باتجاه المدرسة. كان الهواء نيّئاً بشكل قاسي وبالفصل قلبي يشكّكني.
عندما عدتُ للمنزل من أجل العشاء لم يكن قد عاد عمّي بعد، ومع هذا كان الوقت مبكّراً، جلست أحدّق بالساعة لمدّة من الزمن، وعندما بدأت دقّاتها تزعجني تركت الغرفة. صعدت السلالم وجلست في الجزء العلوي من المنزل. الغرف العالية، الباردة، الفارغة، الكئيبة حرّرتني، وعدت انتقل من غرفة لأخرى. من النافذة الأماميّة رأيت رفاقي يلعبون في الشارع، أصواتهم وصلتني ضعيفة وغير مميّزة، أسندت جبيني على الزجاج البارد، ونظرت إلى البيت القاتم الذي عاشت فيه. ربّما وقفت هناك لمدّة ساعة، لا أرى شيئاً سوى الشكل الذي يلبس اللون البني المرسوم في مخيّلتي، الملموس بشكل مخفٍ بواسطة ضوء المصباح على انحناء رقبتها، وعلى اليد الممسكة بحافة السور وعلى الحدود أسفل ثوبها.
عندما نزلت إلى الطابق السفلي مرّة أخرى وجدت السيدة ميرسر جالسة بجانب المدفأة، امرأة مسنّة ثرثارة، أرملة المرتهن، التي جمعت الطوابع المستعملة من أجل عمل خيري. كان عليّ أن أحتمل النميمة على مائدة الطعام. تأخرت الوجبة لأكثر من ساعة ولم يحضر عمّي، نهضت السيّدة ميرسر لتغادر، اعتذرت لأنّها لم تستطع الانتظار أكثر، لأنّها لم تكن تحب أن تتاخّر بعد الثامنة خارج المنزل، لأنّ هواء الليل يؤذيها. عندما غادرت بدأت أسير جيئة وذهاباً في الحجرة، أشدّ بقبضتي على معصمي.
قالت عمّتي: “أخشى أنّك ستتخلّى عن الذهاب إلى السوق هذه الليلة لمشيئة من الله “.
في التاسعة سمعت صوت مفتاح عمّي في باب القاعة، سمعته يحدّث نفسه، وسمعت اهتزاز الشمّاعة عندما استقبلتء وزن معطفه. أستطيع أن أترجم هذه الإشارات، عندما كان في منتصف طريقه للعشاء طلبت منه بعض المال لأذهب إلى السوق، كان قد نسي.
قال: “أصبح الناس في فراشهم وفي فترة ما بعد قذاهم الأول الآن “.
لم أبتسم. أجابته عمّتي بكل نشاط:
“ألا تستطيع أن تعطيه النقود وتدعه يذهب؟ لقد أخّرته بما فيه الكفاية“.
اعتذر عمّي لأنّه نسي، وقال إنّه يؤمن بالحكمة التي تقول “العمل المستمر دون لعب تحوّل المرء إلى شخص غبي”. وسألني إن كنت لا أزال أريد الذهاب، عندها أخبرته للمرّة الثانية وسألني إن كنت أعرف الطريق جيّداً، عندما غادرت المطبخ كان على وشك أن يقرأ على عمّتي بداية القصيدة.
هرولت في شارع باكنجهام باتجاه المحطّة، احتشد منظر الشوارع بالمشترين وتوهّج الضوء بالمصابيح الغازيّة ذكّرني بالهدف من هذه الرحلة. أخذت مقعدي في مقطورة من الدرجة الثالثة لقطار فارغ، وبعد تأخر لا يُحتمل تحرّك القطار خارج المحطّة ببطء، زحف خلال البيوت المتهالكة وفوق النهر المتلألئ. وفي محطّة وستدلاند راو ضغط جمهور من الناس على أبواب
العربة، لكن الشيّالين دفعوهم إلى الخلف قائلين أنّ القطار خاص من أجل السوق الخيري، بقيت وحيداً في العربة الخالية، وخلال دقائق قليلة توقّف القطار بجانب منصّة خشبيّة مؤقّتة. شقّيت طريقي إلى الشارع، ورأيت من خلال القرص المضيء للساعة أنّ الوقت كان العاشرة إلا عشر دقائق، أمامي انتصب مبنى كبير يحمل الإسم السحري.
لم أستطع أن أجد أي مدخل بستّة بنسات، وخشية أن يغلق السوق مررت بسرعة خلال باب دوّار مناولاً شلن لرجل شكله مُتعَب. وجدت نفسي في صالة كبيرة مطوقة إلى نصف ارتفاعها بمعرض. معظم الأكشاك كانت مغلقة ومعظم القاعة كانت غارقة بالظلام، لاحظت سكوناً يشبه الصمت في الكنيسة بعد أن تنتهي الصلاة. سرت باتجاه وسط السوق الخيري بتردّد. تجمّع بعض الناس حول الأكشاك التي ما زالت مفتوحة قبل ستارة مكتوب عليها بالمصابيح الملوّنة “مقهى تشانتات” حيث كان رجلان يعدان المال على صينيّة، استمعت إلى صوت سقوط القطع النقديّة.
متذكّراً بصعوبة سبب حضوري، اقتربت من أحد الأكشاك وتفحّصت الزهريّات البورسلين وأطقم الشاي المزركشة، وعلى باب الكشك كانت صبيّة صغيرة تتحدّث وتضحك مع شابين، ميّزت لكنتهم الإنجليزيّة واستمعت بسريّة لمحادثتهم.
“لم أقل مثل هذا الحديث أبداً“.
“لكنّك فعلت“.
“لم أفعل“.
“ألم تقل هذا؟“.
“نعم، لقد سمعتها“.
“هذه كذبة“.
لاحظتني الشابة، تقدّمت وسألتني إن كنت أنوي شراء أي شيء، نبرة صوتها لم تكن مشجّعة، بدت وكأنّها تسألني من باب الواجب. نظرتُ بتواضع إلى البرطمانات الكبيرة التي وقفت مثل حرّاس على جانبي المدخل المظلم للكشك، وتمتمت: “لا، شكراً“.
غيّرت الشابة مكان إحدى الزهريّات، وعادت إلى الشابين. بدأوا الحديث حول نفس الموضوع، نظرتُ الشابة اليّ مرّةً أو مرّتين من فوق كتفها.
تجوّلت في دكّانها، وعرفت أنّ بقائي في دكّانها غير مجدي، وأبديت اهتماماً حقيقيّاً في سلعها، وانصرفت ببطئ. مشيت وسط السوق، سمحت للفلسين بالسقوط باتجاه نصف الشلن الموجود في جيبي. سمعت صوت مناداة من أحد أطراف المعرض بأنّهم سيطفئون الأضواء. أصبح الجزء العلوي من القاعة مظلماً، ورأيت نفسي كمخلوق مُنقاد، احترقت عيناي بالعذاب والغضب.