ثلاثة أفلام «تجارية» جيدة الصنع في موسم واحد تحمل قدرا من الاختلاف عن السائد وجهدا فكريا وطاقة وجدانية ومغامرة شكلية لا شك تمثل حصيلة معقولة عقب مواسم عديدة شهدت كميات من الضحالة والابتذال والمتاجرة بكل شئ بدءا من الشعارات السياسية وصول إلى أجساد الوجوه الجديدة والقديمة على حد سواء.
يبدأ الفيلم بصراع رجلين بينما امرأة عمياء جميلة تجاهد كي تتلمس طريقها باتجاه الخارج، حيث نكتشف أنها في فيلا أنيقة على البحر ونسمع ونرى الرجلين وهم يتناحران بشكل بدائي يصل إلى حد أن أحدهم يضرب الأخر بحجر على رأسه.
سريعا تعود إلينا اضاءات من تلك الحكاية التراثية التي كانت سببا في أول خطيئة ترتكب على الأرض قابيل يقتل هابيل من أجل امرأة، الصراع الدائر ما بين أسر ياسين وعمرو سعد في تلك البقعة الساحرة من الشاطئ يخلق به المخرج حالة جمالية ذات بعد جدلي براق هذا الجمال الطبيعي لا يلوثه إلا صراع الرجلين، فثمة شر مقيم في مكان ما بين هذه النفوس وثمة تنافس وحقد وغضب وخطيئة ارتكبت واخرى على وشك أن ترتكب، بينما المرأة العمياء المتخبطة تجاهد للخروج إليهم دون أن تدري أين هي ولا لماذا يصل إلى مسامعها أصوات صراع مشتعل!
عادة ما يطلق المتخصصون على بداية الدراما الجيدة (نقطة الهجوم) على المتلقي، فكلما ذادت الأسئلة التي تتراكم في ذهن المشاهد خلال اللقطات الأولى كلما استطاع الفيلم أن يجعل مشاعره قابضة على جمر المتابعة والاستغراق.
وفي أسوار القمر لا تؤسس المشاهد الأولى لجمر المتابعة فقط ولكنها تؤسس للواقع الوجداني والفكري للفيلم، فالبداية من مشهد تراثي عظيم تستعيده كاميرا طارق العريان بتفاصيله البدائية التي تصل إلى ضربة الحجر بديلا رأس الحيوان الذي شج بها قابيل رأس هابيل.
فيما بعد خلال سياقات الأحداث سوف نستمع إلى أكثر من حكاية اسطورية ذات نفس تراثي واضح، الأولى عن اسوار القمر التي تقبع خلق البدر البعيد حيث ينتهي العالم ويذهب الموتى إلى هناك خلف الأسوار لكن يظل لنا القدرة على الحديث معهم حين يكتمل القمر كل شهر.
هذه الحكاية التي يقصها رشيد على زينة وهما جالسين على الشاطئ محاولا أن يستدرجها كما حوريات البحر إلى اعماق عالمه الذي سوف تغرق فيه لذة من فرط العبث واللهو والمخدرات والسهر والرقص والجنس ثم كآبة من اثر الخواء الروحي فألم من جراء المعاملة الجسدية الفظة والغيرة الفاضحة والقسوة غير المبررة سوى بالضعف النفسي، فجراح تشوه ملامحها الخارجية والداخلية وتضمن نزيفا مستمرا من الأسى والحسرة والرغبة في الفرار، فذاكرة مبقعة بمساحات مرعبة من النسيان وأخيرا الأصابة بعمى كلي.
الحكاية الثانية يقصها ايضا رشيد وكأنه شيطان الحكايات المغوية حين يصطحب زينة إلى تلك الجزيرة المنعزلة التي تشهد ليلة دخلتهم حيث يصطحبها إلى كهف بداخل الجزيرة كي يحكي لها عن العاشقين اللذان لم يرد لهما الناس أن يجتمعا في الحياة فقررا الموت سويا أو ربما الخلود في اعماق الكهف البعيدة.
تروق لنا الحكايات التي نسمعها على لسان رشيد فتغوينا كما تغوي زينة لكننا حين نطابقها مع الواقع الوجداني والمضمون الفيلمي نجد أنها تمثل حملا فانتازيا زائدا عن حاجة الفكرة الأساسية والتي نحكم بكونها اساسية من جراء التكرار والتركيز عليها عبر احداث الفيلم وسياقاته السردية.
فما علاقة حكاية اسوار القمر التي يرويها رشيد لزينة وتصبح عنوان الفيلم بتلك التجربة المآساوية التي تعيشها زينة مع أحمد ورشيد حين تترك الأول لأنها تشك في مشاعرها ناحيته وأنه لن يكون ابدا حبيبها غير مدركة أن حجم التماس بين ارواحهم أكثر دقة وقوة وتماسكا من ذلك التماس العابر السطحي بينها وبين رشيد.
(أنا ممكن اكون جوزك أو صاحبك أو ابوكي بس صعب أكون حبيبك)
هكذا يختصر أحمد لزينة شوكة المأساة التي يعيشها معها، هي لا ترى أن ما بينهما هو الحب الذي تريده وهو يتألم من اثر هذا الشعور لكنه يعرف أن استمرار قصتهم مرهون بادراكها المؤجل والذي لا يعلم متى سوف يأتي! ولهذا يتركها تواجه مصيرهما المشترك ولكن بمفردها، مصيرهم أن يفترقوا ثم يجتمعوا بعد حين ولكن وحدها سوف تتمرغ في عذابات الأكتشاف واهوال البصيرة.
نعود إلى البداية حين تضع زينة يدها على وجه الرجل الملقى على قارعة الطريق بعد ان صدمته سيارة زوجها يقدم لنا المخرج صورة لوجهه عبر مؤثر بصري يشبه أشعة اكس تختلط فيه الوجوه بالذكريات بهواجس الرعب من شعورها بأنها ليست فقط عمياء ولكنها لا تذكر شيئا عن أحد.
هذه اللحظة وما سبقها من ادعاء الرجل الذي يصطحبها أنه زوجها أحمد اعتمادا على ذاكرتها المعطوبة هما اللذان يسببان تلك الحالة من الخلط ما بين وجه أحمد ووجه رشيد والذي نكتشف في النهاية أن وجه كل منهم يلعب دور الأخر فوجه رشيد/ عمرو سعد ليس سوى وجه أحمد زوجها ووجه أحمد/آسر ياسين وضعته ذاكرتها المشوهة فوق جسد رشيد الذي كان السبب في عماها وبصيرتها في ذات الوقت.
ان تبدل الوجوه الذي يحدث في النهاية ما بين أحمد ورشيد لنكتشف الخدعة الدرامية التي يقدمها الفيلم كذروة تشويقية جيدة هو ذاته المعبر الرئيسي عن فكرة البصر والحقيقة التي يتمحور حولها الفيلم والتي تتضاءل بجانبها الحكايات الأسطورية عن اسوار القمر والجزر التي يلجأ إليها العشاق هربا من العالم.
فزينة وهي تملك بصرها كانت فاقدة للبصيرة والتجربة وحكمة الحياة(أنا بكتب مقالات بس أنا بيضا خالص من جوا)هكذا تقول لرشيد في جلستهم الأولى عند البحر قبل أن تستجيب لغوايته وتهبط للسباحة معه في الفجر بملابسها.
وحيت تعتصرها التجربة فتصل إلى انتزاع نور عينيها تبدأ الأشياء فيما بعد العمى تتكشف بصورة اوضح (أنا بقيت اشوف كل حاجة أحسن بعد الحادثة)، تبدأ زينة في تجاوز الوجوه إلى النفوس وتجاوز الأجساد إلى الأرواح، تعود لترى أحمد كما لم تراه من قبل مدركة أن ما كان بينهم هو ما يمكن أن يطلق عليه حب أو ضمان بحياة أكثر اشراقا وأيجابية وسعادة واخلاصا وصدقا في مقابل ذلك تدرك ببصيرتها أن رشيد لم يكون سوى غواية الفوضى واللهو وفقدان البوصلة وتحول العالم إلى خيط رفيع من الكوكايين وزجاجة خمر ملوثة برائحة انفاس ثقيلة وكدمات زرقاء حول عينيها وبضعة شرايين ممزقة في معصمه كالتي تحلم بها كل ليلة عندما تشعر بضميرها يؤنبها على تركها له في المصحة وعودتها لأحمد.
يروق لنا أن نتصور أن القمر لم يكن سوى الحقيقة التي لا ندركها إلا بعد أن تجتاز إليها أسوار التجربة الشائكة والمؤلمة لكنها في ذات الوقت تصبح الدرب الضروري من أجل أن ندرك أن حقائق البشر تكمن في أنفسهم وليس في وجوههم وأن الملامح قد تكون خادعة-تماما مثلما اختلط في عقل زينة وجه أحمد بأفعال رشيد ووجه رشيد بوداعة أحمد- إليس في هذا قياسا فكريا أكثر وضوحا وقربا من سمات الفكرة التي طرحها الفيلم بدلا من السباحة بالمتلقي حتى نهاية العالم وايهامه أن خلف البدر تقبع الأسوار التي يذهب بعدها الموتى ليرقدوا في سلام!!
لم يكن الفيلم في حاجة لتلك القصة المشوشة بل كان يكفي أن يترك لنا السيناريو قصة العاشقين التي حاول رشيد في النهاية أن يعيد احيائها لكنه أكتشف انه ليس حبيب حبيبته وأنها حتى لو ماتت فلن تخلد معه لأنها مجبرة على عهد لم تقطعه على نفسها من أجله ولكنها تتشبث بالحياة فقط من أجل رجل أخر.
استطاع طارق العريان أن يخلق من منى زكي في دور زينة أيقونة انثوية براقة ومتوهجة، كل ما يحيط بها من تفاصيل انثوية تجعلها محط انظار الجميع (شخصيات ومتفرجين) فحين تريد تحقيق الأيهام اللازم بفكرة الصراع على امرأة يجب أن تحقق في تلك المرأة هذه الأيقونية الخلابة كي تقنع المتفرج بأنها تسحق التصارع عليها، يجب أن تمنح المتفرج شعورا بالخوف من أن يصيبها مكروه وأن تجعله يتألم وهي تتلقى الصفعات والركلات من زوجها الغير المدمن الشرس فيلعنه على ما يفعله بها ثم يلعنها على ما تفعله بنفسها حين توافق على البقاء معه لمجرد أنه يعود للبكاء بين يديها الرقيقتين.
منى زكى في افضل حالاتها منذ سنوات طويلة خاصة بعد غيابتها عن السينما، لقد تخلصت من جسد المراهقة التي ظلت تتخذه ماركة مسجلة لفترة طويلة واصبحت الأن امرأة –على مدار سنوات تصوير الفيلم- انثى حية نابضة بالوجود بلا ابتذال أو شهوانية، دعم ظهورها الأيقوني اختيار الوان وموديلات ملابس واحجام لقطات وزوايا صاغها طارق العريان بدقة ودون مبالغة شكلية.
وجاء اختيار عمرو سعد وآسر ياسين بذلك التقارب الملامحي بينهما في درجات السمار والهيئة الجسمانية ولون الشعر والعيون اختيارا حكيما وصائبا لصالح التأكيد على امكانية الخلط الملامحي بينهم في ذهن شخصية زينة التي تنقل وجه هذا لذاك والعكس. وربما لو انساق المخرج وراء التباين الشكلي بين شخصيات أحمد ورشيد لخسر الكثير من الاقناع بأمكانية أن تختلط وجوههم في ذاكرة زينة كما اختلطت حقائقهم الظاهرية في البداية أمام عينيها قبل أن تفقد البصر لتكتسب بصيرة النظر إلى ما في داخلهم من ارواح ومشاعر وتفاصيل هي في النهاية ما تستحق أن يُعاشر المرء من أجله.
قفزت منى زكي بمساعدة طارق العريان فوق الميلودراما المستفزة لشخصية العمياء والتي غالبا ما تصبح فخا لأي ممثل على مستوى الأداء والحركة فقدمت العمى بلا تصنع وبقدر محكم من العجز والتحسس والأنصات وتلمس الأشياء ومن المعروف أن كل من المخرج والممثل يتقاسمان مسؤلية الأداء فلا يمكن الفصل بين توجيهات المخرج وبين انفعالات الممثل أو حركاته لأن المخرج هو العين التي ترى الكل في النهاية وظهور الممثل بهذا الشكل أو ذاك من الأداء لا يتم سوى بمباركة المخرج لانه أول من يحاسب على هذا الشكل.
وكما عوض لنا الفيلم غياب منى زكى لسنوات عن تجارب سينمائية ذات قيمة عوض لنا ايضا تلك التراهات التي كان ولا يزال عمرو سعد يشارك فيها بموهبة من المفترض أن التجربة اصقلتها من مخرج لأخر، شتان ما بين شخصية رشيد بكل تفاصيلها النفسية والأدائية والمساحات التي تمنحها لسعد وبين الشخصيات التي قدمها في افلامه الأخيرة ريجاتا ومن قبله حديد، هنا ثمة تقمص وتشخيص وانفعال ومساحات من الغواية الذكورية والتقلب والعنف والبكاء والأداء الحركي.
قام العريان بتحميل عملية التحول من شخصية ووجه أحمد لوجه وشخصية رشيد على آسر ياسين وهو تحميل جاء في موضعه الأخراجي والأدائي بشكل متقن فمع تقديرنا لموهبة عمرو سعد إلا أن آسر كان قادرا على تحقيق الأقناع وتأثير الصدمة على المتلقي وهو يراه يتبدل من وجه أحمد المحب العطوف إلى وجه رشيد المحتدم بالغضب والكراهية والأستحواذ والرغبة في الأنتقام.
تبقى الأشارة إلى أن الإهداء الاخير الذي توجهه شخصية زينة إلى القدر في مقدمة روايتها الأولى لاني كتبتها بعد أن اثقلتها وأصقلتها تجربتها بين أحمد ورشيد هو نموذج لوقوع صناع الفيلم في غواية اللغة الحوارية البراقة التي ربما لا تحوي صلةعضوية بالمضمون والضمير الوجداني للفيلم فاهداء الفيلم إلى القدر الذي يضحك ويبكي ويسعد ويشقي ويميت ويحيى والذي جعلها تجلس في غرفة مظلمة خلف اسوار القمر ما هو إلا مبالغة لفظية شكلانية فالفيلم لا يتحدث عن القدر من قريب أو بعيد بل هو عن الحقيقة التي يقرر الأنسان أن يكتشفها أو يعني بصره عنها وافعال الشخصيات وقرارتها والاحداث التي تترتب عليها كلها قادمة من فكرة ان العقدة الدرامية تنبع من الشخصية وليس العكس فالشخصيات لم تخض هذا الصراع الدموي والنفسي الرهيب لأن القدر وضعها في طريق بعضها بالصدفة أو تدخل لتصبح زينة لرشيد بعد ان كان على وشك ان تتزوج أحمد بل أن زينة هي التي اختارت بارادتها الحرة هذا الرجل ظنا منها انها تحبه ثم تكشفت لها حقيقته عقب اصابتها بالعمى الظاهري والبصيرة الداخلية.
فلا محل إذن للأعراب الدرامي لهذا الإهداء الذي اراد به صناع الفيلم تلخيص مغزى أو مستوى من الدلالات فأفلت منهم الهدف وانحرف سهمهم عن دائرة المضمون الأقوي والأكثير تأثيرا الذي أنجزوه عبر سياقات الفيلم التي اتسمت بالجدة وأحكام البناء.
بريفيو:
سيناريو: محمد حفظي
إخراج: طارق العريان
تمثيل: منى زكي-اسر ياسين-عمرو سعد
إنتاج: وليد صبري
مدة الفيلم:110 دقيقة